لكي تعود فتح : مدخل للتفكير
بقلم الدكتور : إيهاب أبو منديل
إذا أرادت حركة فتح العبور بأمان إلى آفاق مستقبل أفضل، فلا مناص إلا بسلسلة إصلاحات حقيقية ومراجعات جادة لمسيرتها، ولا توقيت أفضل للبدء من ذكرى انطلاقتها فهي تشكل فرصة مواتية للتقييم والمراجعة إلى جانب كونها مناسبة للاحتفال.
-في عوامل الصعود والهبوط معا
واحدة من المفارقات بالغة الدلالة أن المميزات التي انفردت بها الحركة عن غيرها لحظة تأسيسها هي ذاتها التي تشكل اليوم عوامل عطبها واستفحال أزمتها؛ ففتح رغبت منذ تأسيسها في أن تكون إطاراً جبهوياً يستوعب تناقضات المجتمع الفلسطيني حيث اعتبرت نفسها حركة الشعب، ولذلك لم تشكل كياناً تنظيمياً وهرمياً واضح المعالم؛ ولم تكن لها أيديولوجية أو عقيدة سياسية محددة، واعتمدت البراغماتية في أدائها السياسي؛ وبذلك فتحت المجال أمام مختلف الأفراد من كافة الأطياف الفكرية والسياسية للانضمام إليها مع حقهم في الاحتفاظ بفكرهم الأساسي وضرورة ترك انتماءاتهم السابقة، ورغم هذا التنوع حافظ الصف القيادي الأول على قدر عال من التماسك التنظيمي والولاء؛ واستطاع توظيف الخلفيات الفكرية المختلفة لأفراده في تطوير العلاقات والاستفادة من اتجاهات وأنظمة متناقضة لمصلحة التنظيم.
لكن هلامية التنظيم فيما بعد، بمعنى أن فتح ليست حزباً منظماً بالمعنى الدقيق للكلمة؛ وإنما تجمعاً واسعاً بغير حصر لعضويته، والمرونة السياسية، وعدم الخوض في التفاصيل، والتجريبية والتعامل بنظرية الحد الأدنى أيديولوجيا،ً وإن كانت جميعها عوامل ساهمت بشكل أساسي إلى جانب اللامركزية الحركية والجمع بين السرية والعلنية في نجاح فتح في اجتذاب الفلسطينيين بشكل أضفى على الحركة قوة كمية كبيرة؛ إلا أن هذا لا ينفي أن فتح فيما بعد وجدت نفسها مع الممارسة معرضة لعدد من التحديات أبرزها:
-رغم أن هلامية التنظيم كانت ميزة جعلت من فتح وعاءً لغالبية الشعب؛ إلا أنها كانت نقطة ضعف تحول دون فاعلية حركتها في غير أوقات الانتخابات. وتظهر هذه الميزة الوجه السلبي لطبيعة العضوية في فتح من جهة الإقناع الفكري للأعضاء بأيدلوجية وبرنامج الحركة. لافت أيضاً أن أعداد الأعضاء غير النشيطين أو غير العاملين لدى الحركة يفوق بكثير أعداد الأعضاء الناشطين، ولعل مواسم الانتخابات تشير بوضوح لذلك حيث تعاني فتح من اكتظاظ في عمليات الترشيح، إضافة إلى أن أعداد مؤثرة من القواعد تدلي بأصواتها في اتجاهات تتعاكس مع توجهات هيئاتها القيادية.
– أدى عدم تبني الحركة لمنهج فكري وقواعد أيديولوجية إلى خلق تكتلات داخلية ومجموعات محسوبة على شخصيات قيادية، لذلك تظهر فتح، وكأنها كياناً سياسياً غير واضح المعالم يتسم بالفوضى السياسية والتنظيمية.
– في غياب الهوية السياسية؛ كثيراً ما تلعب المصلحة وضغط الأمر الواقع أدواراً أكبر، وتحل الاعتبارات التكتيكية مكان الرؤى الإستراتيجية. وبالتالي تفقد المسيرة بوصلتها، وتحيد عن دربها، وتتحجم الطموحات والأهداف.
– إن وجود رؤى فكرية مختلفة يوجد بالتبعية تعارضات جدية في مفاهيم وأساليب التوجيه والتعبئة، وفي الطرح السياسي والخطاب الإعلامي، وفي تحديد خريطة الأعداء، وعقد التحالفات، وفي قراءة الأحداث والتعاطي معها.
– أدى التوجه البرغماتي لانخراط الكثير من العناصر المعادية للحركة فيها، وقد سهل ذلك عدم وجود شروط والتزامات للانضمام أو معايير للعضوية.
– الاعتماد على أسلوب التجريب أدى إلى إحداث نقطة ضعف فيها قادها ذلك للعديد من المشاكل، حيث أن اعتماد هذا الأسلوب يقود إلى نتائج بعيدة عن الهدف المقصود، فالبرغماتية وغياب الأيديولوجيا الواضحة؛ جعل إمكانية التحول والتغير أكبر لديها مقارنة بغيرها من الحركات الأيديولوجية الأخرى، بل إنه أصبح عبارة عن اجتهاد لابد منه، من أجل الحفاظ على المصلحة العامة التي تتطلب مواكبة التغيرات الدولية والإقليمية.
– تحولات فكرية كبرى
يمكن إيجاز التطور الحاصل في فكر الحركة في نقطتين رئيسيتين:
الأولى انتقال الحركة من فكرة التحرير الكامل إلى المطالبة بدولة على حدود العام 1967 .
أما الثانية فهي موقع العمل المسلح وانتقاله من الكفاح المسلح إلى المقاومة السلمية؛ فقد انطلقت فتح معتبرة الكفاح المسلح أسلوب وحيد لتحرير فلسطين، ورأت أن المبادرات والقرارات الدولية تُضيع الحق الفلسطيني، ومجرد التعاطي معها يعتبر تفريطاً وتنازلاً؛ وقد وصلت الحركة في فكرها لتحقيق الدولة الفلسطينية من خلال التعاطي مع الطروحات الدولية وقرارات الأمم المتحدة، وغيرها من الوسائل؛ دون ذكر للكفاح المسلح إلا في إطار غير رسمي؛ وليس في سياق إستراتيجية أو نسق فكري عام. وهو ما يمكن وصفه بالتحول الصارخ في الفكر والمبادئ والأهداف.
في هذا الإطار تحديداً؛ باتت فتح التي قادت مسيرة حركة التحرر الوطني طوال المرحلة الماضية مرتهنة لمقتضيات المرحلة التي تحياها؛ فهي منذ قيام السلطة تحولت لتكون بمثابة حزب حاكم لها على حساب دورها كحركة تحرر، وقد انعكس ذلك عليها بشكل أزمات وتراجعات مستمرة، وفقدان للهوية وتراجع في الأداء، والواضح أن أدائها الحالي لا يتناسب مع موقعها ولا إمكانياتها ولا مع ما هو مأمول منها.
عموما؛ هذه أبرز أسباب أزمة فتح، وهناك أسبابا أخرى قد تكون ناتجة عما سبق، أو نتيجة تلقائية لها، اجتمعت وتراكمت فأخرجت هذا المشهد المأزوم.
-التجديد حاجة ملحة وفتح جاهزة
التجديد مرادف للتغيير البناء وللإصلاح والتحديث، وهي باختصار قضايا مطروحة بقوة في مرحلة دقيقة من حياة الحركة بكل جوانبها؛ لكن التغيير-أي تغيير- يثير الكثير من المخاوف والهواجس بل ويخلق هموما وتحديات يصعب تجاوزها دون كسر حاجز الخوف. فالموروث القديم والتقاليد والأساليب المجربة، بغض النظر عن صحتها وفعاليتها أو حتى تكيفها مع الواقع المتجدد، يخلق عبر الزمن حاجزاً يقف ليس فقط دون اقتحام أي جديد؛ ولكن أحيانا دون حتى القدرة على تجريب ما هو مختلف.
الواقع؛ وبموضوعية، أن التخوف من التغيير وهواجس إدخال الجديد على سياسات قديمة ليست حالة خاصة، فالقاعدة تنطبق على الجميع؛ أفراداً وجماعات ودول، وهي أمر منطقي يمكن تفهمه واستيعابه؛ ولكن تظل القدرة والكيفية التي يتم بها التعامل معه هي التي تصنع الفرق وتميز بين التجارب المختلفة.
وإذا ما أردنا تقديم أفكاراً عامة تصلح لرسم معالم أساسية لرؤية أولية حول تطوير حركة فتح، وتحسين أدائها، فلا بد من الإشارة ، تحديداً، إلى محورين رئيسيين:
الأول داخلي: يتلخص في تحديث البناء تنظيمياً ومؤسسيا وفكرياً بما يتوافق مع الواقع الجديد المتغير. يدخل في هذا الإطار تطوير وعصرنة الهياكل التنظيمية والبرامج وأساليب العمل لزيادة القدرة على العمل السياسي والجذب المجتمعي.
والمحور الثاني خارجي: يتمثل في المزيد من الانفتاح على الجمهور وإتاحة الفرصة للاتصال المباشر بالمواطنين، والمصارحة الكاملة معهم بجميع الحقائق والبيانات والمعلومات بعيداً عن المسكنات والمهدئات التي تضل الطريق وتخلق التناقضات وتؤدي دائماً إلى فقدان الثقة.
وكي نخرج من العموميات إلى قليل من التفصيل نقول: إن تحديث البناء قد يستوجب تغيير أو مراجعة الكثير من المنطلقات الفكرية والسياسية قبل التنظيمية أو المؤسسية التي تجاوزها الواقع وربما الزمن، مثلما قد يتجاوز مجرد إدماج أجيال جديدة شابة، فهي في حد ذاتها لا تعني شيئاً إذا لم تحمل أفكاراً وبدائل جديدة، فالتجديد المقصود هنا فكرياً وسياسياً بالأساس إلى جانب محتواه الجيلي.
من ناحية ثانية، مطلوب أكثر من أي وقت مضى مزيداً من الانفتاح والديمقراطية في الحياة الحزبية الداخلية، وتوسيع للمشاركة الحزبية باعتماد تقسيم عقلاني داخلي للسلطة والاختصاص بين المستويات التنظيمية القيادية والوسيطة والقاعدية، إضافة إلى ضرورة فتح الحوار التنظيمي الداخلي بين القواعد والكوادر، أي أن يحاور التنظيم نفسه، هذا الحوار الذي تتهرب منه القيادات الحزبية أكثر أهمية وإلحاحاً من سواه، فالاتزان الداخلي الحقيقي مقدم على الخارجي.
من ناحية ثالثة، آن الأوان للقضاء على ظاهرة احتكار القادة للمناصب التنظيمية والسياسية لفترات طويلة، لما لها من آثار ضارة. يمكن مثلا تقييد فترات خدمة القادة بدورتين متتاليتين مهما كان المنصب، ذلك من شأنه أن يتيح الفرصة لدخول عناصر جديدة وبالتالي رفع مستوى دوران النخبة وتجديد الكوادر والدماء، كما أنه يتيح قدراً من المسائلة المستمرة، وهو حتماً سيقلل من حدة الصراع على المناصب.
بقيت نقطة أود الإشارة إليها هي أن التطلع لهذه الرؤية الجديدة لا يحمل- ولا يجب أن يحمل، المعنى الانقلابي ضد كل ما هو قائم، ففيه موروث يمكن البناء عليه، كما لا يجب أن يحمل أيضاً معنى الخصومة الجيلية، فليس هناك جيل بأكمله إصلاحي وتقدمي بينما الآخر محافظ ورجعي، والأجيال تتواصل وتتكامل وتعمل معاً للحفاظ على الحيوية السياسية المطلوبة، مثلما لا يصح تصنيف الاتجاهات والتيارات الفكرية والسياسية وفق نفس الثنائية، فالجميع شركاء في البناء والتطوير.
آخر القول… بصراحة… وموضوعية..لا يمكن تصور عبور فتح إلى المستقبل بدون رؤية جديدة، منفتحة على ذاتها وعلى المحازبين والجماهير، تكون متسامحة في توجهاتها، متصالحة بين أجيالها، متواصلة مع جماهيرها، بهذا تتحدد بداية الانطلاق إلى العهد الجديد المأمول دون خوف… لتفعلها فتح ولن تخسر إلا الخوف ذاته.
كل عام وأنتم والفتح والثورة بخير.