صرخـة ..!…”رواية”

بقلم : نادية حلمي

نفوس إجتاحها إعصار جارف … انزلقت فى أبيار الغسق.. تعيش في الظلام كالخفافيش … تجدها في الجحور … وسط الموتى في القبور … بين ضباب الدخان … هزيلة الأجساد… فاقدة الصواب… هناك ألحسناء، والوسيم … الصغير … والكبير … الغني، والفقير…

عالم من البشر يعيش في الظلام..

ريهام فتاه السابعة عشر الحسناء الجميلة ذات الخصل المسترسلة حتى الخصر النحيل… ممشوقة القوام … كانت تسمع عن عالم الإدمان وتتعجب من بشر للموت يسلمون أرواحهم … تتنهد الصعداء حيث ما تسمعه من قصص وحكايات مرعبة … بعيدة عنها وعن أسرتها.

حتى فى ليلة هادئة إغتال سكونها الواقع المرير حين اكتشفت ريهام إدمان حبيبها سامر، وفي ذات الليلة تكتشف أيضاً إدمان شقيقتها علياء ذات العشرون ربيعاً… وما قد أزل نفسها إدمان والدها، حين علمت شعرت وكأن خنجراً قد إستقر فى قلبها… تراجع غرورها… توارت خجلاً وسط جدران غرفتها ، ومرار يشتد بالحلق … رعباً يعتلج أنفاسها … وبعد شهراً كاملاً تقابل حبيبها سامر إبن العشرون … وفي وجهة تصرخ عالياً لا … لن أسمح لك بذلك … بماذا ؟ … لن أسمح لك بتدمير نفسك وتدميري معك … مثلما دمرنا والدي … علياء شقيقتي أدمنت تباعاً وفضولاً ووالدتي تركت البيت وذهبت ، وتوفيت شقيقتي بجرعة زائدة وأغلق حبيبها أحمد باب الحياة على نفسه ليعيش في عزله خزناً عليها…

إنني أحبك حباً جماً ، وأن كنت تحبني عود عن الجحيم … تندلف الدموع من مقلتيها ولم تحرك دموعها ساكناً في نفس حبيبها…

شارداً يتأملها … ريهام تلاطمه على الوجه، وتصرخ : استيقظ … لا تتركني هكذا، واجه الشدائد … للضعف لا تستسلم … لا أحب ضعف الرجال … أحبك … ولا أقبل أن تكون موضع أحاديث الآخرين، يضحكون بك، ومنك يستهزؤن … لا أطيق عنك يبتعدون، كما لو من وباء بالجسد … لا تنظر لي هكذا … إفعل شيئاً حيال نفسك … شرودك يذكرني بأسوأ أيام عشتها … وبأسوأ ليلة مرّيت بها… ليلة وفاة علياء شقيقتي … نعم لا تحملق في هكذا … إنني أحبك لا تدمر حبنا … مثلما علياء دمرت نفسها وحبيبها.

يا ليتني ما أحببتك … نعم يا ليتني فلا ترمقني هكذا … نعم يا ليتني للمرة الثالثة وحين علم أحمد بإدمانها قرر فسخ خطبته بها إن لم تعد لصوابها … بكت … طلبت منه إمهالها فرصة ربما !! وأبدى أحمد استعداده لمساعدتها ووعدها بالوقوف إلى جوارها حتى تخرج من أزمتها وذلك لأنه يحبها حباً جماً … وجلست علياء بجوار أحمد حبيبها، وجلس أحمد على جوارها ، وصراع يمزقه … علياء بدفء فياض يجيش فى صدرها يغوص ويغدو لأعماقها وبِرقة تُغالب الصمت مستطردة: مسكين حبيبي … الزهرة التي غرستها فى سويداء قلبك ، وكنت تغار من النسيم أن يمسها ومن الشمس الضاحكة أن تداعب أوراقها … هبت عليها عاصفة هوجاء … فتركتها هشيما… أدركتها الأنواء فغادرتها حطاماً…

أنظر إلىّ … فهل تراني كما كنت ؟ … وكما تحب أن أكون ؟

أحمد : واجهي يا حبيبتي الصعاب … تصدى بكل قوة فإن للمرأة قوة روحانية تبعث فى القلب الأمل … ابعثي في قلبي الأمل … تنهض أوتار حبي راقصة فى صدري … أحبك يا حسنائي … أحبك.

علياء : فات الأوان يا حبيبي .

أحمد :  لا

علياء : تهدجت زفرات قلبي بين الأضلع .. أنني أشعر وأنا جالسة ، أن هذا المقعد يغدو بي إلى الموت … وأود أن أملأ عيني من كل شيء قبل أن أفارق. حبيبها حزيناً مطرقاً يغالب دموع عينيه ويكبت أنفاس صدره فيلتفت إليها وقد تكلف الإبتسام : ماذا تقولين يا حبيبتي!

… إننى أشعر بشيء غريب يسرى في جسدي زفرات قلبي … واهنه … وتستطرد علياء : إننى اشتم يا حبيبي رائحة الموت.

ينتاب حبيبها إحساس يماثل إحساسها … ينظر إليها وابتسامة زائفة تعلو ثغرة قائلاً : زهرتي إن ذبلت اليوم فإن فى جمالها الكامن ما يتحدى العواصف والأنواء … وسنراها غداً وهي تتمايل فوق غصنها ساحرة فاتنة.

وهنا ألقت بيدها المرتعشة بين يديه وقالت : ضُمني … ضُمني قبل أن أعتلي فراشي …

حبيبها يصمت واجماً فتغتال صمته بدفء فياض:

حبيبي منقبض الأسارير لما ؟ … وقطرات دموعها تجري على الوجه … فدارت به الغرفة كإنما إعتلى أمواج ثائرة … وما جت بنفسه إحساسات عنيفة مبهمة … إعترته كتلة إحساسات مجتمعة … ثم تنحل إلى عناصر منفردة فتترجمها النفس فى سرعة، فأحس بشىء من الخوف يمتزج بالحزن الشديد يتصور موتها فيجيش في صدره صراخاً … لا يا حبيبتي إنني أحبك حبا يقهر كل حب.

ريهام تعتلج أنفاسها رعباً … ويعتريني إحساس يماثل إحساسهما … مستطردة ويدخل والدى، ينظر إلينا صامتاً ويستدير صامتاً … شقيقتي : إلى أين يا والدى ؟…

إنتظر … فيلتفت إليها … وتعود : إلى أين يا والدي ؟ ضعف الموت تخلل جسدي … وأنت السبب … يتأملها صامتاً شارداً وتعيد جملتها : نعم … أنت السبب … أنت من فتح باب الجحيم … وتنظر نحو عينيه مسترسلة … نعم أنت فلا تنكر خجلاً…

وتقول ريهام : وكدت أن اسقط بينهما خوفاً فلا أحب حديثهما معاً … وتدركني ليلة عودتها فى وقت متأخر، كانت غريبة الأطوار … منفرجة الأسارير … تتصرف بهيستريا شديدة … يقابلها والدي ويسألها أين كنت ؟

تتراقص أمامه دون أي احترام بينما علياء تخشاه ، ويجذبها من زراعها … أين كنت ؟ .. وتتدخل والدتى وتمتزج الأصوات تدوي في الأذن دوي السماء عند هطول الأمطار … يرتفع صوت علياء في وجه والدي … وعلى الوجه يصفعها … ويغضب ذلك أمي … وتصرخ قائلة : حدث ما كنت أخشى حدوثه وأنت السبب … وهنا لم أدرك مقصدها … يصفعها مرة أخرى أين كنت ! ترتعد متلعثمة : لدى صديقتي … ومرة ثالثة يضربها فتثور والدتي قائلة : قبل أن تحاسبها راجع أخطاء نفسك . يشتد غضبه ويبقى خلفها حتى تعترف بالحقيقة المرة ، شقيقتي مدمنة … سقط والدي جالساً على المقعد مطرق الرأس ، ووالدتي بصوت مسموع تقول : ما يزرعه الأباء يحصده الأبناء … وها قد جاء يا عامر وقت الحصاد … يصيح في وجه والدتي :

كفى … ثم يألم يردًد : لمَ !! .. لمَ يا ابنتي ..! .

وعلياء بغضب : ولمَ أنت يا والدى ؟

أنا أخطأت …

علياء : وأنا كررت الخطأ

والدي : ابتعدي يا ابنتي …

علياء : ليس قبل أن تبتعد أنت.

والدي : من دلَّك على طريق الندم ؟

علياء : تباعاً وفضولاً … هواجس … أصوات خفية دارت بالرأس … أسمعها ولا أفهمها … قلت ربما بالتوهان والشرود لا تدركني الهواجس تكف عن ملاحقتي … تصمت الأشباح ويترك الفزع نفسي … فزع الجحيم وأنت السبب … أنت من فتحت الباب وتركته .. ذهبت لأرى ما خلفه.

والدى : الجحيم بعينه … أرجعي يا صغيرتي .

علياء : أن استطعت الرجوع أستطع أنا.

والدى : أنا على شفاه الموت … خطوة ويسقط الجسد .

تضحك علياء وأراها غريبة الأطوار.

والدي : لا تضحكين هكذا إنهم بنا يضحكوك وحوالينا يرقصون فرحين. من هم..!

… أشباح السموم … يدقون الطبول فرحا بالسقوط.

علياء : أراها جنه . في سمائها محلقة … أغرد كالطير المغرّد.

والدي : لوذِ فارّة من الجحيم يا صغيرتي قبلما تزحفين … وبالندم تصرخين حين يتحول التغريد إلى أنين …

( الجزء الثانى )

لمَ يا صغيرتي !!

علياء : لأرى من سرق والدي.

ومن حوَّل ابتسامتي إلى بكاء … لأرى

من سرق حنانك وعطفك وحبك

ومن حوَّل القوة إلى ضعف

والشموخ إلى استجداء.

أين والدي الوسيم الأنيق!

أين صاحب الكلمة والنفوذ؟

هل أنت … أم امامي رجل غيرك؟

سلبتك السموم عزة الرجال كما سلبتني كرامتي…

والدى : ماذا تقولين…؟

علياء : انهارت الأسوار العالية شموخاً …

ذبلت الوردة … إلتوى عودها خجلاًُ من عين الشمس …

أوثر الظلام كالخفافيش هروباً من أعين الناس نظراتهم تقتلني … معارفي يهربون مني…

كما لو الجسد حامل وباء يخشونه …

يا من كنت موضوع فخري ووسام على صدري حين كنت كالهرم ثابتاً … حين كنت قوي الشخصية … شديد العزة والكرامة … أبحث عنك ولا من وجود … أين ذهبت؟ … طواك الشرود … بددت الرياح العطر … جرفك الإعسار لابيار الغسق … وتباعاً مضيت خلفك … دفعني الفضول … تابعت خطواتك أليس أنت مثلي الأعلى؟ في الخير والشر ..؟. وأصابني ما خلف الباب الأسود … وجدت فيه هروبي ولا أعلم في السموم موتي استجبت لنداء الشيطان … قلت قد أجد دوائي … أصابني إدمانك بالهذيان..

والدي : يا ويلك من عذاب ينتظرك !

علياء : غريقة في بحر بلا شواطىء … جرفتني الأمواج لقاع الغريق … غريقه ومنقذي في يد السجان … تلاطمني الأمواج وهو سجين خلف القضبان … والدي جسد بلا روح … كالموتى في القبور … جسد بلا روح .. طريحّ في الجحور…

يا من كنت ثابتاً ثبات الجبال، لصوتك كانت تهتز الجدران… أوثر الموت ولا أني أراك تبكي كطفل صغير يريد الاحتماء من نفسه الضعيفة … ياليت الموت أدركني قبلما أراك ضعيفاً ضعف الصغار..

تستطرد ريهام والدموع تنهمر من مقلتيها … وبأنامل ناعمة تجفف دموعها قائلة: ويوارى والدي وجهه … يستدير بعينيه بألم واستخذاء كأنه يريد أن يحجب ما قد يبدو عليه من دلائل الضعف النفسي … وخلف باب حجرتي واقفة في ظلام  الليل الدامس سامعه رائيه حزينة باكية وعلياء مسترسلة بالامتعاض تتهدج أنفاسها في الصدر بينما والدي للسمع مستسلماً، وحسرة فى عينيه ، وعلياء تسأله : أين أنت الآن منا!؟ ذهبت بعيداً أصبحت في بُعد المسافر … مسافات وقعت بيننا … والمسافة خطوة.. ويؤلمني إستسلامه، ويمزقني ضعفه أمام شقيقتي … أبي الذي كان يهابه الجميع ذليل ضعيف.. وتستطرد علياء : وأشعر بلدغه الحية في الجسد أتألم له ويقشعر البدن وصوتها في الوجه يعلو: وأبي صامدً مستسلمً … يا من كنت تصعد في وجه الشدائد ، وتعود سالماً آمناً … الآن تزرف كالأطفال عينيك الدموع… لمً؟ جعلت الناظرون ينظرون إلينا بعين الساخر والمستهزئ وتصمت شقيقتي باكية … يسألها والدي بأنفاس تتهدج ويأسا في النفس يخاطبه … منذ متى وأنت تعلمين؟

– منذ الهيئة الشامخة سقط شموخها ضعفاً … منذ أن أخذ منك الإدمان موقف السجان وأصبحت عبداً داخل قضبانه.

– منذ عرف الغضب طريق روحك .. أنت يا من كنت مثال للحكمة.

– منذ أن استحال طبعك، وضاق بالصدر الكلام… تارة تهذي تأثراً كفاقد الصواب، وتارة تحلق في سماء الهدوء وتصبح كالطير المغرد في سلام ومنذ أن عشقت المكوث كالخفافيش في الظلام تجلس وحيداً بين الجدران … وحين أذعنت للشيطان وأوثرت الشرود ، وفضّلت التوهان وقررت الموت … ساورني الشك وأصبح يقيناً حين صرخت والدتي

وفي ليلة واجهتك بالحقيقة المرّة بعد أن ضاق صدرها بالغضب كانت ليلة موحشة تركت الزوجة حبيبها وحيداً بين الجدران ودمعها يتقاطر على الوجه كحبات المطر وذهبت ، حينها أدركت أن والدي مدمناً … إنهرت ليلتها بكيت كثيراً ، نظرت للسماء … خاطبت النجوم… ماذا أفعل ؟ … احترت ، وأثقلتني الحيرة تعباً … ماذا أفعل ! توترت… تناولت المهدئ … ماذا أفعل ..! ولم أجد ملاذا للهروب من تعب النفس سوى الجحيم … سقطت لأهرب من النفس فأصابني داء الموت دون أن أعرف كيف قد أصابني … ربما بتشجيع من أحد ، وربما بإدمانك وجدته سهل المنال … وقد حدث … أدمنت يا مثلي الأعلى.

أطلبها مستجديا … مستعطفاً … الرحمة بشقيقتي ريهام .. عودَ عن الجحيم … وكفى…

وطأت بقدميك أناسا يحبونك … للأهواء سحقتهم بينما كنت يوماً تؤثرهم أكثر من روحك..

عرضت نفوسهم للأنواء … ومن المتاعب هلكت أرواحهم .

نسيت يا أبي جملتك الشهيرة ” لا يضعف الإنسان إزاء أنواء الصعاب حتى لا تختال الشدائد … بالغضب نفسك وهي عابرة عابرة … فقط مع كل طلعة فجر استنشق رحيق العطر … ستجد الحياة خلاّبة ساحرة”.

أهذه غاية المطاف … السموم يا أبي هي الأمنية التى بها أطفأت سراج حياتنا.

ويجفف والدي دمومه قائلاً : بنا يا صغيرتي نجمع حطام الذكريات التي عبثت بها العواصف وبددّتها الخطوب … حاولي جاهدة قد نلملم الشتات وتتهدج زفيرات صدره مستطرداً : نعم يا صغيرتي قد نلملم الأجزاء المتناثرة.

وتعود علياء : إغلق باب الجحيم قبلما تلتهم النار المتأججة خلفه شقيقتي ريهام .. عودَ لنفسك … ربما تدركها قبلما إعصار شديد الرياح يجرفها … تخور قوتها .. وتسقط مستسلمة … يبكي والدي ، وعلياء تستطرد : لا تبكي لن يجدي البكاء بشيء .. ما قد حدث … حدث يا من كنت في الصعاب مثلي..

ويعود والدي : أموت وتعيشين أنتِ من أجلها.

علياء : دموعك تراكمت فوق الثنايا … يا من كنت وساما على صدري… جفف الدمع …

وبصوت كأنه آتٍٍ من عالم بعيد وأنفاسه بالعبرة تختنق . تنحدر من عيني دموع غزيرة حارة … ولكن لا تخفف النار المضطرمة بين أضلعي .. نار اليأس .. يئست من حياتي فليدركني الموت … قد موتي يريح كثيرين..

علياء : طفرت دمعتان من عينيها وأنفاسها اعتلجت في صدرها قائلة : أتُريد الموت هروباً من المسئولية؟ وتتركنا في عالم واسع الأطراف وحيدتين في عالم لا نعرف عنه شيئاً …

وتصمت شقيقتي علياء ودموعي خلف باب غرفتي تنساب على الوجه إنسياب سيول المرتفعات، سامعة رائيه ما يدور بينهما، وقلبي في الصدر يخفق مضطرباً … إنتابني شعوراً بالخوف … تصورت نفسي وحيدة وسط عالم كبير … عالم غريب … إمتزجت فيه كل الأصوات…

أصبحت لا أفرق الطيب من الشرير … ولا أعرف الشرير من الطيب .

ويعود والدي بشيء من اليأس الشديد بأنفاس واهنة: أنني مشفق عليها … شقيقتك يا صغيرتي أخشى أن يدركها شيطان لعين … ويجرفها التيار لأبيار الغسق … الرياح القوية أرتفع غبارها إلى السماء … أخشى عاصفة هوجاء ينشط ريحها وفي غفلة تسقط في قاع الغريق.

 

( الجزء الثالث )

علياء وحنق يأخذها : إذاً عود يا أبي إلى نفسك لتقف أنت في وجه التيار وتحميها من السقوط . الم يكفيك سقوطي ؟؟… الم يكفيك شرودك ؟؟

وتندلف دموع علياء غزيرة وبصوت يختنق في الصدر .

تعود قائلة : أنا لا تعيل همّي ولا تعيرني إهتماماً … كل شيء سينتهي…

وهنا لم أتصور غير أنها ستقهر بإرادة عذابها .. تتغلب على ضعفها وعن السموم تبتعد ولكن ما قد حدث مصيبة … نهت شقيقتي بجرعة مضاعفة عذابها، بينما شفاؤها كان ممكناً، ولكن الشيطان دفعها لخطأ أكبر وهو الإنتحار ، والله لا يحب زاهق الروح.

… مرّت شهور وصورتها لا تفارق العين، أتذكرها وأبكي، وحبيبها أحمد في عُزله غالق باب الحياة على نفسه حزناً وأبي سجين غرفته لم يتغلب على ضعفه، فقد قهره الضعف … كلما حاول سقط ، لأن الإرادة … إرادة السموم وليس إرادته هزمته السموم، وعليه تفوقت ، وأصبح ذليلاً لها، وبها هزيل الجسد – وأخاطبه بصوت مرتفع: أرادت النفس التنفيس عن غضبها يا والدي.

إنتابك الخوف بي بعد أن ضاعت شقيقتي علياء … تخشى عاصفة ينشط ريحها فتجتاحني فى غفلة من نفسي لقاع الغريق … تلاطمني اللجج، ويدركني الموت كما أدركها … لا يا أبي … يا من أحببته أكثر من النفس … صورة المدمن سوداء قائمة السواد … كاحلة … لا تبشر بالحياة وسبيلها الموت، وقبل أن تُنهى كلامها يصرخ سامر في وجهها كفى … حديث عن السموم والموت …

… هل قلت شيئاً خطأ أغضبك ؟ يتلعثم … لا … لا شيء …

إذا لمَ نهضت تأثراً كالموج الغاضب في صدر الغريق.

ويعتريني الشك ، ويخفق بالخوف قلبي …

أسأله وأتردد: لا تقول إنك لا تستطع … يصمت واجماُ ، وهنا يشتد خوفي … أقلق على حبي وأسأله مرة أخرى: لا تقول أنك لا تستطيع يا حبيبي …

يطول صمته . وهنا أوجس بما يدور في نفسه … يتأملني ومسحه حزن في عينيه … يتأملني وشرود يقتلني … أمتعض ، ويغضب أهز أكتافه … لا ترمقني كتائها أبله … أمقت شرود البلهاء … أبغض نظرات الساكر المخمور … أستيقظ في نظراتك توهان وشرود طويل … وأنا التي تصورت في لحظة أنك قادر بما تقول …

ويستدير بوجه غضباً …

أسأله والغضب يجتاح أنفاسي : أترى في قولي ظلماً لك ؟ ولا ترى في خداعك ظلماً لي ؟ … خدعتني حين أحببتك لم تصارحني بإدمانك … كان عليك بمصارحتي ولي الإختيار . استرسل في حبي أم لا … أمخطئه أنا في ذلك؟

وفجأه ، يدفعني الحب وبرقة الأمس شعره الناعم شديد السواد وأقول ولكن لا … لن أتركك تدمر نفسك … أحبك … أحبك يا حبيبي حباً شديداً ، ولا أحب أن افتقدك بالموت، تموت وأحزن.

يرتعد سامر في مكانه وفي عينيه أرى خوفاً وفي صدره صراخاً ، كفي وأنا مسترسله: نعم يا حبيبي لا أريد بالسموم أن تصبح مجرد ذكرى في حياتي أو إنسان فاقد الإحساس بكل شيء حواليه مثل والدي، أحياناً يدفعني للجنون … أصرخ وأصرخ … ولا من سامع … ابكي وابكي ولا من شاعر.

وتعود ريهام بتحدى يغتال كل التحديات …

ولكن لا يا حبيبي بعد الآن لن تتجاسر نفسا شيطانية بالسموم تدمرك لتنعم بموتك لأنني سوف أقف إلى جوارك ومعاً سنتحدى كل من هم بالشر يتحدون … فقط قاوم وسامر مطرقاً واجماً كأنما يسمع صحيفة الحكم عليه بالإعدام … هذا ما قد رأيته في عينيه … إعتراض … ثم إعتراض … ولم أفقد الأمل في استجابته لرغبتي … الحب قادر … قد بدافع الحب يعرض عن السموم، وللشفاء يستسلم … ويخبرني سامر … من الذى دفعه لطريق الندم فينتابني بالصديق الخائن غضباً … أثور قائلة : كم أود إنتزاع قلبه من صدره يا حبيبي … أنه خدعك بالخداع أوقعك في الجحيم … أبغض من سرق حبيبي … وأتذكر شقيقتي علياء ، وأتصور والدي … وفزعاً يهز جسدي الرشيق.

تقول ريهام، فى الحديث مسترسله : وحبيبي صامتاً شارداً جعل صوتي يرتفع في وجهه أمستيقظ أنت … أم تائهاً شارداً…

وأغُمَضَتْ ريهام العين … أرخت أجفانها . تهدجت أنفاسها وقالت بصوت شديد اليأس : أطفأت البسمة فوق الشفاه يا من حباً أحببتك … هناك طريقان … طريق للموت، وطريق للحياة. وعليك أن تختار … وإنما قبل الإختيار تذكر إنني أحبك حبا جما حتى الا تغتال بخطأ آخر شريان الحب الصادق في سويداء القلب… وإنما لو سيجرف الحب نفسي لهاوية الظلام سأغتاله قتلاً … سأسحقه سحقاً راضية مرضية، ولا أزحف يوماً مستجدية شريراً … مستعطفة شيطاناً لجرعة موت … لن يحدث مهما بلغت الرياح قوتها … لن تجرفني زوبعة عاصفة لقبور الموتى … لن يجتاح إعصارا سلام روحي ، وبالأنواء للغسق يدفعني … ثابتة ثبات الجبال … شامخة شموخ الأهرامات … لن أحصد ثمار ما قد زرعه والدي وبه رحلت متأثره شقيقتي مهما بلغت الأعاصير قوتها وأرتفع غبارها إلى السماء … سأظل الحسناء النقية نقاء الرضيع … نقاء الجنين في الأحشاء … ذات العطر الأخّاذ … لن تطفىء السموم يوما بريق الحسن. ولمعان العين، ونضارة الوجه. لن تطفىء على الشفاه ابتسامتي … وتسرق إرادتي وأمالي … لا يا حبيبي … وتلامس ريهام برقة شعر حبيبها سامر، وبعذوبة فياضة تحرك سكنات القلوب العاشقة ، تستطرد : يا حبيب القلب … يا قره العين … أحبك … للحب استرسل فى طريق الشفاء .. بيننا عهداً بيننا وعداً أكون عروسك ليلة العرس … عروسك الساحرة الوجه… الأخاذه الصوت أليس هذا قولك ؟ يا حبيبي لقد بالسحر فُتِنَت الروح … وحين أراكِ يتخللنى عطركِ الأخاذ … وحين أنظر لمقلتيكِ تُغازل نظراتكِ فؤاديِ .. وبالرحيق تقفز أوتارىِ واثبة للرقص … فيلبقى شذاكيِ ولا يبرح كونيِ يوما … أليس هذا قولك ؟ وأجبتك قائلة : لن يبرح عبير حبي زفرات صدرك ما دمت أحيا … فقط يا قره العين أمضى في طريق الشفاء، هناك عهداً وهناك وعداً …

أسئلة تراودها … هل سأصمد ثابتة إزاء الرياح العاصفة التى أرتفع غبارها للسماء؟ أم سأخور منزلقة فى غسق الظلام البعيد مثل كثيرين من الأبرياء.

سقط والدي ضحية السموم واذل الإدمان كبريائه فانهارت الجبال الشامخة في العين ، وقد تباعا قادت الصدمة شقيقتي فانزلقت أيضا قدماها على ذات الدرب المظلم… وبعد عذاب تناولت جرعة تفيض بروحها لتضع حدا لعذابها … وفى خضم أحزانى يسقط حبيبي …

لم أيها الشر ! لقد فاضت الأرض بك … إنهار الجبل ورحلت شقيقتي … إنهار الجبل وضاع حلمي … تاه حبيبي، وعلى درب العذاب ماضيا …، ذليل … مكسور … وقد شق ذله قلبي … أذل الإدمان نفسه … رأيته جاثياً تحت قدميك أيها الشر … صَرخ حبيبي من أعماقه حينما انبثقت صرخة من أعماقي حزنا عليه … زلزلت جوف الأرض…

( الجزء الرابع – الاخير )

وتتقوقع ريهام في زاوية مظلمة من الحجرة في ظلمة الليل الحزين ، والما ينبثق من سحيق قلبها … أين أبى … ؟ وأين حبيبي … ؟ وأين شقيقتي … ؟ أنهما على درب الموت سائرون وقد بعثرت الأنواء كيان الجسد الواحد ، حين رحلت شقيقتي … إنهار كل شيء من حولي وحين أدمن حبيبي … تاه حلمي … وحين أدمن أبى … إنهارت الجبال الشامخة … فلمن أشكو أوجاعي…؟

حلمي جاثيا على ركبتيه … زاحفا من أجل جرعة سم … والشياطين يرقصون فرحا … يلتفون حوله … بالطبول والرقص وحبيبي يحاول بكل ما فيه من طاقة الهرب ، ولكنهم يستهزئون بضعفه … يلاطمونه ، وهو زاحف على بطنه متوسلا لجرعة موت … أهان كبرياؤه … واذل نفسه .. وقلبي يتمزق عند إعياء الحبيب المستسلم للذل … أشتد الظلام ، وعلت طبول رقص الشرور وتقوقعت متوارية فى زاوية الحجرة حتى لا يرانى الشر المتربص بالبشر … وعند استسلام الحبيب لرغبة السموم تصرخ الأم … ولدى … وبصوت دفين يعلو فى صدري ازيدها اصرخي يا أم … اصرخي … يا أم الولد ويا أم كل ولد … قد : يُحرك الألم مكفون الصدور … قد تتكاتف الآلام فى وجه الشر، وقد تحرك الأوجاع كل فطرة دم صارخة فى العروق … وكل ذره رمل جففها الظمأ ( وهنا تصرخ أم الحبيب وتصرخ كل أم شريد مستنجدة بالسماء وتغنى الأم بالم يفتر القلوب … يا أرضى … يا شمس يا سما قد توقظ الامها الضمائر القاتلة … الضمائر الفاعلة كل شرور، وتحيط الأم بالحبيب المستسلم، وتحيط بأحد أبنائها من ضحايا الإدمان وبصدرها تضمه ، تأخذه على جسدها المتشح بالسواد وسط دقات الطبول ورقصات الشياطين ، وبذلك الفزع أصرخ في وجه الشر … اصرخ في وجه جنود الشيطان … لا أيها الشر لن تنول يوما منى … ولن ترقص فرحا فوق جسدي … لأنني لن أرقص معك رقصة الموت… لقد زاحم الشر البشر على الأرض … ومع ذلك لن تهلل طبولك لسقوطى يومها مهما بلغت الرياح قوتها أننى أراهم يتساقطون كالثمر المعطوب واحد يلو الآخر … يترنحون … يتأرجحون ضعفاً، يزحفون… يتوسلون بلا عقول فلن يحدث لي ذلك يوما …

بينما صقيع الخوف يُجمد أطرافى … وصوتى المنبعث من الخوف يشق بطن الصمت … بصيص نور يكبح قلب الليل الحزين … يوقظ الأمل الحزين وبعتاب يبلل بالدمع مقلتيها تخاطب ريهام شقيقتها الراحلة … لمَ رحلت…؟ وتركتيني للفراق يغتال روحى شوقا ؟ … كل شىء توقف عن العطاء … توقف عن التنفس … غابت الشمس ولم تشرق … جف العود ظماء ، وشقق الظمأ حلقى … لمَ رحلتي … صرير الأم رعدُُ في  أسماعي يهزهز الخوف جسدي … لمَ رحلتي…؟ هل لأواجه الصاعب وحدي … وترفع ريهام للسماء وجهها متوسلة … فتراودها إرادة واثقة تمدها بالأمل … أمل يسبط في الصدر أنفاسه ، وبه نور يتخلل نافذتها … يشق قلب الظلام الحالك … يأخذها من قوقعتها … تنهض ريهام على صوت الأم الحزين بما أصابه من مواجع فى الأبنة علياء والزوج وحبيب ريهام مصائب قد تراكمت بسبب شر السموم … تفتح ريهام عيناها لتجد نفسها على صدر الأم … تجهش بالبكاء … يبلل دمعها ثوب الأم، ويتراكم دمع الأم فوق ثنايا الوجه كما تتراكم ثلوج المرتفعات عند هطول الأمطار ، وعند ذلك تبكى الأم الكبرى … تبكى أطفالها … تستنحد مجدداً بالسماء ، تغنى أغنيتها المعنية ” يا أرض يا شمس يا سما … بينما ريهام تلوم أمها التى لازت بالفرار من مسئوليتها تعاتبها لم تركني والدى يواجه المصير وحده … لم تركتى شقيقتي حتى أنهى الإدمان حياتها … وتسترسل دموع الأم وتُغرق الثوب الداكن فوق الجسد ، بينما الثغر مكبلا باغلال الصمت ، ووجهها مرفوع نحو السماء … ربما تُعبر السماء عن الامها وتشعر صغيرتها بمكنون صدرها … ربما تشعر بما أُجيش بين أضلاعها … وإذ بنور يعبر عبر النافذة يشق صدر الظلام الدامس وتدركه الشمس، ويبدد دفؤها صقيع الحوائط، برهات ويظهر الأب بعد غياب علاج طويل مُعاف تهلل الأبنة ذات الثمانية عشر … ترفع رأسها شموخا لشفاء والدها … ينطلق لسانها العاجز كان خجلاً … وتدعو الصديقات والأصدقاء لحفل كبير ووسط أضواء الحفل يراودها أمل في شفاء حبيبها … لقد شفاء والدها بعث الأمل في نفسها … وتخاطب ريهام من على بعد بعيد الحبيب التائه… هناك أمل حبيبي في الشفاء … يا سويداء القلب هناك أمل … حيث الله لا يخزل مؤمن ، وأنا مؤمنة بعون الله ورحمته .

وابتسامة تطوف وجهها الفاتن … وإذ بالإبتسامة ينطفىء على الوجه بريقها والفرحة تذوب فى قلبها … علا صوت حبيبها سامر وأسمعها ما لا كانت تحب سماعه … فجَّر بالقول بركان قلبها الكامن بالنار مشتعلاً أخبرها وحزناً يمزقه إنه لا ولن يكون يوماً عريس عُرسها في ليلة العُرس … إرتجافاً إرتجفت أوصالها … لمَ؟ … لمَ؟ … يتلعثم سامر : لأني … ولأني … لن أستطيع … ثم يندفع بالقول كقاتل يطعن ضحيته… لأني لن أستطيع الأعراض عن الإدمان.

وتندلع نار صدرها … متدفقة صارخة بأعلى صوت من داخلها ينبعث صراخها … يخرج من سحيق أعماقها لا …. لا …. لا …. لا ….

وتسقط صامتة واجمة … يعتري المكان صمتاً ووجوماً ثم تعود هادئة هدوء الهزيل المحموم… المطعون فى قلبه قائله : إذاً لك طريقك، ولي طريقي وكل منا يعرف طريق خلاص نفسه …

تتركه ريهام لهلاك الإدمان وتمضى بإحساس الغريق الغريب فى عالم واسع الأطراف شديد العواصف والأنواء وخوفاً يساورها هواجس تدور في الرأس هل ؟ … وهل ؟ … هل سأثبت أمام الأعاصير القوية التى ارتفع غبارها أم سأهوى في غسقها ؟ والنفس ثابتة ثبات الجبال … شامخة شموخ الأهرامات وأسئلة كثيرة تراودها ولا تجد إجابة .

انتهت

اقرأ للكاتبة

وسقطت في قوقعة الصمت ” قصة حقيقية ” ( 1 )

شكرا للتعليق على الموضوع