ناصر اللحام يكتب : لا يوجد شيء اسمه أخلاق الصحافة
بعد ربع قرن في المهنة، بحثت ولم اجد شيئا أسمه ( أخلاق الصحافة ) وانما هي فكرة نقلها “متحمسون ” الى العواصم العربية بهدف نظم العلاقة الداخلية بين المؤسسات الاعلامية والافراد والمصادر ، ومحاولة يائسة لحماية حرية الصحافة من قمع الانظمة والحكومات في فترة الستينيات والسبعينيات .
والاخلاق موجودة في كل المجتمع وليس للصحافة فقط .
فاما ان تكون اخلاقي في كل شئ او لا اخلاقي .
وقمة الاخلاق في الصحافة ان تنتصر للطفل في وجه الجنرال ، وللمواطن في وجه السلطان ، وللفقير في وجه الشركات الكبرى وللضعفاء اما الاقوياء ، وللمساكين امام الجبارين .
وربما أن العالم الغربي الرأسمالي كان ولا يزال بحاجة الى ” دينمو ” حيوي يردع جشع السباق المحموم نحو الماديات والتوظيف ، ويعيد تأهيل النفس البشرية لتحافظ على توازن العقل في ظل نظام حديدي صارم يقدّس المكلية الشخصية ويرفعها الى مقام عال ومنزلة لا تتطاول عليها الشركات والكارتيلات .
ومن البداية انا لا اكافح ولا أكتب ضد أخلاق الصحافة ، لكنني أرى ان الاخلاق هي مفهوم عام، وليس محصورا على الصحافة ـ فلا يعقل ان يكون الصحفي اخلاقيا في المهنة وغير أخلاقي في الحياة !!! ولا يمكن للمجتمع ان يقر بوجود مثقف غير اخلاقي !!!
الاخلاق تختلف عن القوانين فهي موازية لها في المقام تحت مظلة القيم ، وقيم كل مجتمع مستمدة من قوانينه وعاداته وتقاليده ودينه ومعتقداته وانظمته ولوائح الضبط فيه والامثال الشعبية والنظام التعليمي.
وما هو أخلاقي في مجتمع كندا قد لا يكون اخلاقيا في مجتمع السعودية ، وما هو اخلاقي في قندهار قد يكون لا أخلاقيا في موسكو .
وفي تطور الرأسمالية الى الامبريالية ، فقد الفرد في المجتمعات الغربية قيمته ، فعاد المثقفون في تلك المجتمعات الى القرون الوسطى واعادوا الاعتبار لقيم العدالة والتوازن و”الشرف الوظيفي” والنبل، واستخرجوا كتاب سبينوزا عن الاخلاق في القرن السابع عشر ونظريات اخرى واعادوا الاستعانة بها وتوظيفها في انشاء ( أخلاق الطب ) و( اخلاق الصحافة ) و( أخلاق العلوم ) وغيرها .
وكان القصد منها الدفاع عن الملكيات العامة والملكيات الفردية في وجه الشركات الكبرى التي أكلت الأخضر واليابس .
امّا في المجتمع العربي فلم يكن هناك اية حاجة للدخول في هذا الامتحان ، لان المجتمع العربي لم يتطور بعد الى الصناعات الثقيلة والشركات الكبرى وانما هو بالحد الأعلى لا يزال في مرحلة الكمبرادور الذي يوزع منتوجات الغرب ولا ينافسها أبدا .
ان المجتمع العربي لا يزال محكوما بـ ” العيب” و “الحرام” وهو لم يتخط التفوق الاخلاقي التنافسي من خلال الاغاني والاناشيد . ولا يزال الحداثيون في العالم العربي يشتركون مع السفليين في ضرورة ضبط المجتمع من خلال :
حكم الدين – المسجد او الكنيسة
القانون المدني
الانظمة
اللوائح الداخلية
ولو تخيلنا ان مؤسسة اعلامية ما، او صحفيا ما ، نجح في اجتياز الحدود الاربعة المذكورة فانه سيكون في مرحلة الفناء والتحطم ولا يحتاج الى محاكمة أساسا .
وقد رأينا مبدعين وصحفيين كبار تحطموا على بوابات القلاع الاربع المذكورة.
ولن تجد قاضيا عربيا واحدا يحاكم مواطنا او صحفيا او طبيبا لانه بخيل ، او نذل ، او خسيس . لكنك ستجد الالاف من الذين حوكموا بسبب الاجتهاد، والمبادرة، والمحاولة، وتحدي الجمهور، أو خدش الحياء العام ، او المعارضة ، أو تأليب الرأي العام ، او تهييج العوام .
ان اخلاق المجتمع العربي ، لا تزال مصنوعة من أشد الحبال ومحصنة بأقوى القلاع .. وهي التي تحكم الصحافة وتحكم السياسة وتحكم التمريض وتحكم المواصلات العامة ، وتحكم الطيران ، وتحكم عمل المضيفات والمغنيات والمعلمات .
عامل واحد يلعب دورا في تغيير قواعد الاخلاق سلبا أو ايجابا ، وهو ارتباطه المباشر بالعملية الانتاجية في المجتمعات ، ودرجة توازنه وتوافقه مع القواعد الاساسية للدين والقوانين .
اما اللوائح والانظمة فهي التي تتغير كل مرة.
أما الاخلاق العربية التي أراها بالمجمل العام ايجابية وتبحث عن العدالة والدفاع عن الضعيف ، وان كانت تعمل تلقائيا على تثبيت الاقوياء .
فلم تتغير منذ الف سنة ، ويبدو انها لن تتغير لالف سنة قادمة .