سجن الفراشة ” قصة واقعيّة ” ( 14 – الاخير )

اقرأالجزء الثالث عشر

عَبَرَت السنين على حنان الصبية مفلوجة بكوابيس الماضي.

ست سنوات مضت عليَّ، منذ اخترت الوحدة والهروب.

 حاولت منى أن تستبقيني تحت جناحيها، لكنني مانعت.

سرعان ما وجدت عشاً صغيراً يأويني، ويحميني من غارات أهلي.

 حاولوا كثيراً أن يجدوني “لأن الفتاة لا يجوز أن تترك بيت أهلها إلا لتلتحق بزوجها، أو إلى القبر!”،  قالت أمي لمنى يوم جاءت تسألها عني.

“لكنه قبرٌ ما هربت منه يوم غادرتكم”،  أجابتها منى، ثم أنكرت أن تكون على علم بمكان سكني.

– “تتصل بي على الهاتف أو تزورني في بيتي بين الحين والآخر، لكنها رفضت أن تطلعني على عنوان بيتها. كانت تعرف أنكم ستحاولون البحث عنها لاسترجاعها. دعوها بسلام! اخترتم لها جحيمها قبل أن تبلغ سن الرشد،  فدعوها تصارع الآن للخروج منه”.

لم يكفّوا عن التنقيب عن الدودة الطموحة التي خرقت تراب القبر، وخلعت جلدها، وتنكّرت لقطيعها.

استهدوا إلى منزل إميل بعدما اطّلعوا على الصلة الوثيقة التي تربطني به.

أفلتوا تهديداتهم وكلماتهم المتخلّفة، ثم آبوا خائبين.

 حافظ إميل على حلاوة لسانه، وأفهمهم بهدوء أن علاقته بي لا تعدو كونها علاقة صداقة، ولقاءاتنا الوحيدة معاً تتمّ في منزل منى.

كان ذلك في السنة الأولى لمغادرتي.

بعدها، تلاشت عزيمتهم، وسلّموا بالأمر الواقع.

منذ ذلك الحين لم أرَ أحداً منهم ولا نية لي لفعل ذلك في المستقبل.

 وحدها بعض الاتصالات الهاتفيّة بأختيَّ رانيا وإلهام، تذكّرني بجذوري.

حاولت أن أقنعهما بعد رحيلي بالإقتداء بي، لكنهما ضعيفتان وراضختان.

 “لا يجوز أن تعيشي وحدك”، يقولان بقناعة.

إلهام تعاني من ضعف عقلي واضح.

 لم أعبر كثيراً إلى أعماقها بحثاً عن حياتها المحروقة.

 لم تسنح لي الفرصة، وهي كانت منغلقة ومنفجرة إلى أقصى الحدود .

تدور حياتي حتى الهذيان حول نقاط مطفأة.

أعلو وأهبط على وقع انفجاراتي العصبيّة.

كنت أظن أن الماضي سيمحى بسهولة بمجرد قصّ الحبال التي كانت تقيّدني على شفير الجحيم.

وحدي في هذا العالم أدرك أن هذا الظن ليس إلا وهماً يلامس اللامعقول.

الجميع يقولون إنني فتاة استثنائيّة لم تحترق بألسنة الشياطين.

منى تعترف لي وهي دامعة بأنني “قدّيسة”.

 إميل الذي يعاني منذ سنوات من جموحي ومواقفي المشدودة، كرّر لي ألف مرّة أنني طبيعيّة وأهمّ من كلّ اللواتي عبرن في حياته.

 المسؤولات في الجمعيات الإنسانيّة التي أتردّد عليها للخدمة والمشاركة، يقدّمنني كمثل يحتذى به:

– “انظروا إلى حنان. عبرت أدغال البشريّة من غير أن تلطّخ سمعتها أو تنجرف في العواصف المرعبة. لم تتحوّل إلى فتاة شارع تبيع جسدها من أجل المال أو ضعفاً وانكساراً. أخلاقها رفيعة، هي التي ترعرعت وتغذّت فوق أغصان منخورة تعجّ بالقيح والاغراءات الخبيثة. تـثـقّفت وتعلّمت فيما أرادوها أن تظلّ جاهلة ومحدودة. واجهت سطوة أهلها وظلمهم وسقوطهم المريع، ونجحت في تشييد حياة جديدة ونظيفة لها. ليس بالضرورة أن يتحوّل الأطفال المجروحون والمعذّبون إلى مجرمين ومنحرفين. الإنسان باستطاعته دوماً أن يختار المصير الأفضل ويلملم أشلاءه ويمشي إلى آفاق بيضاء ومضيئة”.

ربما أنا على قياس هذه الصورة الورديّة، ولكنني بالتأكيد شيء آخر، يضاف إلى كلّ ذلك.

كثيرة هي الأيام التي جاهدت فيها لأغتني وأعوّض مسافات الأحزان الشاسعة التي قطعتها، لكنني لم أنجح بعد في ترويض اضطراب مشاعري والجنون الذي يعوي في داخلي كلما أغلقت الباب على نفسي ووجدتني وحيدة أمام المرآة.

لا أعرف لماذا لم تمحُ السنين الرائعة التي اجتزتها في مراهقتي والتحرّر الذي أعيشه الآن، الحقبة السوداء من طفولتي والسجن الآخر الذي اختبرته لسنوات ثلاث!

لم أسقط! صحيح، لم أسقط.

صنعت مصيراً مختلفاً عن مصير شقيقاتي، أو هو الله أعانني ووضع أناساً كمنى على دربي. لكن، ما الذي تبقّى مني؟ جسد معاق، وأعصـاب مفكّكـة، وخـوف طفولي لم يبارحني ليلة واحدة من حياتي!

كافحت ولم أندم، وسأظلّ في كفاح وقيام حتى آخر رعشة في عروقي. ولكنني هنا، أحاول أن أخلع البريق الذي يحيط بي، والثوب اللائق الذي يسربلني، لأكشف عن كوابيسي المظلمة.

كلّ ليلة، آوي إلى عزلتي فأجد الأشباح بانتظاري. تحملني ساقٌ معطوبة، وأحمل يداً يابسة وضعيفة، وأتمسّح بحيطان الممر المؤدي إلى غرفتي. حين تعصف الريح في الخارج، ترتجف مفاصلي وترتعد أحاسيسي كمخلّع في بحر هائج وغارق في العتمة. تحمل إليَّ طيف “أمل” وصوتها الذي روّعني طويلاً، فأتحوّل إلى طفلة ضعيفة في السابعة من عمرها ترجو جلادها أن لا يرميها وحيدة في الظلمة والصقيع، فلا تسمع إلا جملة واحدة تتكرّر وتتكرّر في رأسها المشلول:

– “حتى الشياطين تشمئز من الاقتراب منك، فمما تخافين؟”.

تختلط الأصوات، وتعلو الضحكات، وتكشّر الوجوه عن أسنانها الحادّة:

– “أنتِ خادمة، تقول أمي، ويمكنني أن أفعل بكِ ما أشاء” – “لا يأتي منك إلا المصائب” – “ماذا تفعل بها؟ أطعمها الزبالة، ألا ترين!” – “إذا لم تفعلي ما طلبته منك، سأخنقكِ بيديّ هاتين” – “اخلعي هذا الشورت الذي ترتدينه، لأرى ماذا يوجد تحته” – “هيّا، ألا تريدين أن تلعبي، العبي بهذا الشيء! ” …

صراع ومخاوف وحيوانات تلاحقني في كلّ نبض.

– ” مَنْ هناك؟ أرجوكم دعوني وحدي. أقفلوا أبواب لعناتكم في وجهي”.

الصدى لا يرتاح ولا يخفت.

– ” أنتِ خادمة! خادمة! هل فهمت! “.

– “سيّدة أمل، أرجوكِ لا تؤذيني. أنا جائعة، جائعة، أريد أن آكل، والعطش يحرق صدري فلا أقدر على التنفس إلا بصعوبة. لا تمنعي الماء عني أرجوكِ”.

تمتدّ أيادٍ خشنة من قلب الهذيان، وتمرّغ أشواكها فوق جسدي. يتحوّل أبي إلى جسدٍ عارٍ، وأعضاؤه إلى خناجر تخترقني.

 أنزف من كلّ مسامّي، وتلطّخ دمائي الأرض والحيطان.

 أزحف فوق حجارة تلك الغابة، تطاردني شهوة رجل وعدني بحضن أمي، وحضن أمي بعيد ومتوارٍ خلف جليد البشر.

 أنفض رأسي بهلع، علّها تتساقط هذه البشاعات والصور المخيفة.

أشدّ شعري علّه ينقلع ذلك الوعي الذي يدميني، ويسحب معه ذاكرة لا ترضخ للمهدّئات. الريح لا تكفّ عن العصف في الخارج.

هل هي ريح ما يضجّ كيوم الدينونة، أم هو نحيب طفولتي يتردّد في صدري؟ لم أعد أعرف! أصرخ وأصرخ في ذاتي:

– “أنا لست قويّة، أنا لست شيئاً! أنا طفلة العذابات والثلج الذي قرض جسدي وذهب بجزء منه.

أبي. أين أنت يا أبي؟ ماذا فعلت لك لترميني في هذا المستنقع؟ أين هي روحك اليوم؟”.

الكره يشلّعني، والغضب يذهب بطمأنينتي، والوحدة تصلبني في صحراء الوحشة. أحاول أن أغفر فأنسى، فتنوص محاولاتي عند أبواب الكوابيس الليليّة. جميعهم مخدوعون. لا أحد يفهم لماذا مازلت سجينة سنوات العتمة. حتى أنا لا أجد تفسيراً لذلك! شيء واحد أكيدة منه، أَشْبَه باليقين: لا يمكن أن نعبث بالطفولة من غير أن نحطّم شيئاً.

ليست هناك ممحاة سحريّة تلغي الماضي وتبني حياةً من غير ثقوب.

 إنها حياتي ما حطّموها حين عبثوا بطفولتي، وأشعر أنه يلزمني حياة أخرى لاسترجاعها.

ومع هذا… أنا أحاول. هذا الشرّ الذي فجّر براكينه في وجهي، لم يستولِ على ذلك الضوء الخافت في روحي.

الجسد والأعصاب والكوابيس تعيق سلامي وفرحي، وتجعل مني حتى، شلواً بلا طائل. لكنني لم أقتسم خبزي مع الشياطين. هل أنجح يوماً في الوقوف في وجه كرهي المخزون، وألاشيه بنظراتي؟ هذه هي عورتي الأكثر ضعفاً. هذا هو السكين المسموم الذي مازال مغروزاً في أعماقي السحيقة.

اليوم، أنا طفلة خائفة بلغت الخامسة والعشرين من عمرها، مسجونة داخل غرف الرعب الباردة. ثمة جروح لا تستجيب للمسات الدفء.

في هذه اللحظة، سأبدأ يوماً آخر من حياتي. أرتدي وجهاً يشبه الوجوه الكثيرة المتزاحمة فوق الطرقات،  وأمشي به تحت قوس الإعجاب والتشجيع. كلّ طفل أصادفه فـي دروبـي المرتابـة،

يرشقني برعشة الخوف، ويخضّ أعماقي.

أناديه بين شفتيّ المرتعشتين:  “حنان، حنان”، فمن يعرف أيّ جحيم  يعيش في روحه الضعيفة ؟؟؟

انتهت …

الكاتب والاديب سمير فرحات
الكاتب والاديب سمير فرحات

 

شكرا للتعليق على الموضوع