سجن الفراشة ” قصة واقعيّة ” ( 13 )
اقرأ : الجزء الثانى عشر
لم يكن من السهل أن أقف ببساطة في وجه موسى، وأقول له:
– “أنا راحلة نهائيّاً إلى بيروت، ولتحترقوا بنار جهنم بعد رحيلي”.
الأمر أشدّ تعقيداً من مواجهة عنفيّة ستنتهي حتماً بخسارتي.
كان الطبيب الذي أجرى لي جراحة في قدمي، قد أوصى بعمليّة ثانية بعد بلوغي الثامنة عشرة من عمري. لذا بدأت أتحضّر لإجرائها، بجمع المال اللازم لها. ساهمت منى بما تقدر عليه، وكذلك فعل إميل، وهو شاب لطيف تعرّفت إليه منذ فترة قصيرة في منزل صديقة لي تدعى نوال تسكن بمحاذاة منزل منى في الأشرفية. أبدى رغبة صادقة بمساعدتي، وتوطّدت علاقتنا سريعاً في خلال زياراتي المتكرّرة لنوال. راح تعلّقي به يزداد يوماً بعد آخر، وخصوصاً أن عاطفته ملأت فراغات ساحقة في روحي اليابسة. قبلت مساهمته الماديّة بدون حرج، واتخذته لي معيناً وصديقاً في مواجهة المرحلة المقبلة من حياتي.
الجمعية الاجتماعيّة التي كنت أتردّد عليها في منطقة “القبة”، قدّمت بدورها قسطاً مهماً من كلفة العمليّة. هذا الأمر ساعدني على شراء حرّيتي، والانعتاق من سطوة الماضي.
علم موسى بالمال الذي كنت أجمعه فراح يتودّد إليّ، ويعاملني بلطف بالغ، ويدافع عني أمام نزوات يوسف، وتهجّمات أمي.
– “موسى، قلت له يوماً، سأعطيك مبلغاً كبيراً من المال إذا سمحت لي بالذهاب والعيش عند منى فترة طويلة. بعد الجراحة سأقضي فترة قصيرة هنا، ثم أذهب للنقاهة في بيروت لستة أشهر. هل توافق؟”.
وافق طبعاً على هذا العرض السخي، ولم يبدِ أيّ اعتراض. ضمنت بذلك تذكرة رحيلي الذي أردته نهائيّاً. كان في بالي ألا أستقرّ عند منى، لأن باستطاعة أهلي أن يزوروني ساعة يشاؤون، ويستعيدوني عندما تجفّ ضروع مداخيلهم. السبب الآخر هو أنني أردت ألا أشكل عبئاً دائماً على أحد، فأستقلّ بحياتي وأختبر معنى الكفاح من أجل مصيري.
الفترة الأخيرة كانت نكداً مستمرّاً مع أمي. أجريت العملية لقدمي فلم تزرني مرّة واحدة في المستشفى. عندما عدت مجصّصة إلى البيت، خدمتني أختي رانيا إلى أن بات في إمكاني الاتكال على نفسي في بعض الشؤون الصغيرة. عندها حان وقت الرحيل، قلت في نفسي. واجهتها بمخططاتي، فزاد استياؤها من نزعتي التحرّرية. أذكر جيداً تفاصيل الحوار الأخير الذي جرى بيننا.
كان أشبه بتبادل القذائف والخناجر، وسط العويل والصراخ والبكاء.
بدأ التشاتم حين حملت حقيبتي صباحاً وهمّيت بالمغادرة. كانـت
أمي جالسة تتناول قهوتها.
– “ستذهبين مجدداً إلى بيروت؟ لم يعد يرضيك العيش معنا؟”. بادرتني بنبرة ساخطة.
– “لم أكن راضية يوماً عن العيش هنا. هذه المرّة ستطول غيبتي” .
– “لا ردّك الله، أنتِ وفجورك! “.
عند سماعي هذه العبارة المشحونة بالحقد، انفجرت براكيني الداخليّة دفعة واحدة. عُمْتُ كقارب تائه فوق بحيرة مآسيَّ، واسترجعت جراح حياتي واحداً بعد الآخر. كنت أعرف وقتها أنها المرّة الأخيرة التي أقف فيها على عتبة هذا البيت، فتضاعفت نار مشاعري وضياعي.
صرخت في وجهها كثور وقع على حدّ السكين، فلم يعد يهتمّ إلا لإطلاق أقصى خواره البائس:
– “أيتها العاهرة، لم تكوني يوماً أماً لي، وكلّ ما كان يعنيك هو أن نعمل بصمت في بيوت الأسياد، فيما تدورين أنت لبيع جسدك. لم تكتفي بتحطيمي مرّة بعد مرّة, وبانتشالي من راحتي ودفئي في منزل منى لترميني كالعفن في زريبة الحيوانات هذه لثلاث سنوات. ماذا فعلنا لكِ لتكوني سقيمة الروح إلى هذا الحدّ؟ تجروئين على لعنتي بدلاً من رعايتي وإظهار بعض الحنان! ألا تكفيني إعاقاتي التي ابتليت بها من جراء الإهمال والقسوة والظلم الذي لقيته؟ ألا تكفيني نوباتي العصبيّة وجنوني، نتيجة إقحامي في جحيم هذا البيت؟ سأدعو عليك طيلة أيام حياتي لتعيشي الوجع الذي أعيشه.
سأسترجعك في ذاكرتي ليلاً نهاراً، لأبصق على صورتك أبشع مشاعري والعبارات. ستظلين أنتِ وأبي كابوسي الأكثر إيلاماً. لن أنسى ما فعلتماه بي ما حييت، ولن أغفر ذنوبكما مهما طال بي العيش”.
– “كنت أعرف منذ زمن بعيد أنك تحوّلت إلى حيوان حقيقيّ ليس لديه أيّ احترام أو تقدير لأهله.
لقد اعتدتِ اللذّة الرخيصة في بيروت، ومعاشرة الشبان.
اذهبي إلى أحضانهم، ولا داعي لتذكّريني كلّ مرّة بما حصل معك. أخواتك لم يتذمّرن يوماً ولم يشتكين من شيء.
منذ ثلاث سنوات وأنت تفسدين الأجواء هنا، وتفجّرين جنونك في وجوهنا. لا أعرف لماذا علينا احتمالك أكثر من ذلك. ارحلي وموتي هناك، ودعيني أرتاح منكِ!”.
– “كنت ثـقلاً على قلبكِ هنا، أليس كذلك؟ عائلة موبؤة لا تبذِّر إلا الفاسدين والأشرار! هذا حبيب قلبك موسى، دفع بابنته إلى الاستعباد، ولم تحركي ساكناً لتخليص المسكينة من هذا المطهر. لا أطيق كلامك ونواياك وطريقة حياتك. سأحمل ما تبقّى من كياني المنخور وأرحل. لو أخبروني أنك قضيت نحبك على الطرقات، وشلّعتك أحذية العابرين، فلن أشعر بالأسف أو بالإشفاق. أعدك أنك لن ترين وجهي بعد اليوم، وسيكون حسابك عسيراً في السماء!”.
تراشقنا طويلاً بالأحقاد المتبادلة، وغـادرت باكيـة ومفجوعـة بحرقة السنين الماضية التي معستني. طويت بذلك الفصل الأخير من علاقتي بأهلي، وأنا أحمل فوق منكبيَّ طَرَقات معاولهم، وآثار حسِّهم الميت بمسؤوليتهم عن حياة البذرة التي لقّحوها يوماً، ثم رموها فوق الأشواك لتـنهـش طفولة منزوعة الحقوق والكيان والطمأنينة.
تابعونا : الجزء الرابع عشر
اقرأ اجزاء الرواية :