احمد ثاقب يكتب :كلها بقت علماء اجتماع !

يقول الفيلسوف زيزو النوبى «كله بالفلوس»، على نغمات صاخبة مع الكثير من «السكسكة»، يترنح عليها الشباب، وتهتز معها الرؤوس، مؤكدةً تلك الحقيقة المرة، توضح حجم الكارثة الحتمية التى ستحط على رؤوسنا، و قد سبقه أولاد سليم اللبانين، ليدلوا بدلوهم بتلك الجمل الرنانة أيضاً «مافيش صاحب بيتصاحب»،ليرددها الكثيرون، مؤمنين كامل الإيمان أن الأمر لا جدال فيه.

ترى رواد الحكمة لمواقع التواصل الاجتماعى يكتبون منشورات يدمج بها مصير.. هذا المصير هو مصيرك أنت وحدك فقط، و ستناله لا محالة، مثال على ذلك «إن لم تجد لك حاقداً فاعلم أنك إنسان فاشل».. فلا مجال لأن تكون شخصاً ناجحًا ومحبوبًا أيضًا. وهناك حكمة تقول «اللى يجي عليك مرة هيجي عليك الف مرة».. فهذا المسكين الذى قد اخطأ التقدير فى يوم ما، قد رافق اسمه إلى الأبد لقب الوغد. أو مثلاً «التليفونات متصلحة…..وقت المصلحة»، و الكثير و الكثير من الجمل الحتمية التى تحدد مصيرك.

بعض المسلسلات و الأفلام قطعًا لا تخلو من تلك الحكم، مثل قول الفنان مصطفى شعبان الخالد«ماحدش بينجرح أوى إلا لما يحب أوى»…. هذا أمر لا أريد التعليق عليه، فقط أردت التذكير به، أو الفنان فتحى عبد الوهاب حين قال «أنا دمى ده بيجرى فيه كور بيضة و كور حمرا و نسوان»، ليدلل الفنان على مدى عشقه للنساء، بوجود «نسوان» فى عروقه.. ثم تأتى الجملة الرنانة على لسان الفنان أحمد صيام فى فيلم السفارة فى العمارة «صحيح الست ديه عاهرة إلا أنها صاحبة مبدأ…… يكفى أنها رفضت اللى انت قبلته»، مشيرًا للفنانة ميسرة حين امتعضت و انهالت بالصراخ على «شريف خيرى» عادل إمام، حين علمت أنه يسكن بجوار السفارة الإسرائيلية.. وهذا المشهد فى حقيقة الأمر يوضح أن الحس الوطنى للعاهرة قد تأجج، و هو مشهد نراه يوميًا فى القنوات.

فيديوهات مواقع التواصل الاجتماعى لم تسلم من الأمر بالتأكيد، فأذكر أنني صادفت أحد المقاطع على موقع التواصل الاجتماعى فيس بوك بعنوان «شباب مثقف يناقش موضوع الحجاب»! هذا كان اسم المقطع. وبعيدًا عن غرابة أن ينعت شخص نفسه بالمثقف، كان ما يُقدم هو مناقشة حول ضرورة ارتداء الحجاب، وقدم في صورة جلسة أصدقاء على قهوة لا أكثر، لتتحطم كل طموحاتى للعثور على أي جديد.عالم الاجتماع الذى طمحت أن أجده لم يكن موجودًا. شاهدت فيديو آخر يتحدث عن كيفية تغير حياتك، لأرى شاب يسلط عدسة الكاميرا نحوه،  و يحدثنا عن كتاب «السر»، يقول أنه حقق أمانيه، وأنه قد كتب فى ورقة كل ما تمناه ليجده بعد عدة أشهر، لينظر لحياته أخيرًا و يجد أمنياته قد تحققت. أما عن قصة الفنان أحمد حاتم و خطيبته، فمن الناس من أكد أن المتحابين من الاصدقاء إذا أفصحوا عن مشاعرهم و لم يتخوفوا من الإفصاح، فسيصبحوا مع شريك الحياة الذى يفهمهم إلى الأبد.. و الواقع أنها ليست الحقيقة الوحيدة، فربما يصبح الشريك أسوأ شخص عرفته فى حياتك.

الظاهرة أثارت ذهنى بشدة، فالكل يقول الحكم و المواعظ، بل و يعممها، و فى الحقيقة أغلب تلك الحكم لا تمت للحكمة بصلة، بل هى مجموعة من الأحكام المطلقة، الأمر الذي يستدرج عقلك للبحث فيه.  مع هذه الموجة، كان لفيديوهات مواقع التواصل الاجتماعى نصيب الأسد من هذه الحكمة و التحليلات، انتشرت الكثير من الفيديوهات المنتقدة للمجتمع، و فى بعض الأحيان المتجنية عليه،-هذا لا يعنى أن المجتمع صالح وهناك من يتجنى عليه-، لكن لم تضف تلك التسجيلات أى جديد أو أى طرح فى الواقع، ولا يحقق من تسجيلها سوى عدد كبير من المعجبين أو المشاركات، إعجابًا بالجمل الساخرة التى يحتويها الفيديو، ليستمر صاحب الفيديو فى وضع الكثير من التفاهات، إيماناً منه أنها تلقى لها روادًا.

المعرفة مفتاح الحكمة، والمعرفة اصبحت عملة نادرة، و بالتالى الحكمة لا محالة أصبحت نادرة، و المعرفة لا تقتصر على القارئ فقط، فالمعرفة تأتى من الخبرات الحياتية و المشاهدات أيضًا، الأمر الذى فقدناه اليوم.

الحكمة الرخيصة، قد يكون هذا أفضل تعبير عن هذه الأفكار النابعة من اللاشئ، لا يبذل فيه صاحبها اى جهد، فقط  يتجه لما يريد الناس سماعه ليتقمصوا دور الضحية، أو دور المغلوب على أمره، ليعطى نفسه هذا الإحساس بأنه غير مقصر، و لكن الظروف هى التى أطاحت بكل أحلامه أرضًا، فتركته حبيبته، و خدعه البعض من الأصدقاء، وفقد عمله بسبب «أسافين» زميله، أو أى من هذه الاشياء التى هى أمور لابد من وجودها، لا أعلم لما كل هذا العذاب و القهر المبالغ فيه.. هذا الأمر ليس مقتصرًا فقط على طبقة اجتماعية محددة، فالكثير من الأصدقاء من مختلف الطبقات الاجتماعية يراودهم هذا الشعور، ويتشدقون بهذه الحكم الفارغة.

صديقى تركته حبيبته من عدة أشهر.. قالت له أنها ترغب فى إنهاء تلك العلاقة لأنها لا تريد هذا النوع من العلاقات، لم يمر الشهر حتى رافقت آخر على نفس الطريقة، ربما كان هذا سببًا كافيًا بالنسبة لى، حين أراه يسب كل الفتيات فى حنق، ويتوقع دائمًا الأسوأ منهم، هذا مربط الفرس، أن الكثير ممن يكتب تلك الحكم، يتحدث من منطلق تعميم التجربة الشخصية، فقط يريد إثبات صحة النظرية، ليتلقى متابعيه هذا العبث على أنه الحقيقة المطلقة.

يمكننا القول أن افتقاد القبلة هو ما يجعل هؤلاء حكماء اليوم، فالطبيعة و الغريزة الإنسانية تجعل البشر باحثين دائمًا عن القبلة أو الحكمة، وحين يفقدونها تبدأ رحلة البحث عن القبلة المناسبة، و إن لم يجدوها، اتبعوا أقرب قبلة متاحة لهم.. هذا ما نراه اليوم، ندرة المعرفة جعلت البعض يتجه للأقرب، ليجعله قبلته و مرشده فى الدنيا، فتقوم الغريزة الإنسانية بمهمتها، البحث عن ما هو مفقود فى وقت الحاجة، ليبدأوا البحث عن من يرشدهم و يكون حكيمهم، فلكل زمان حكماؤه، وهؤلاء –حكماء فيس بوك- هم حكماء هذا الزمان، هذه حكمة اخرى بدورها.

شكرا للتعليق على الموضوع