ناصر اللحام يكتب : توجيهي بلا توجيه .. المستحيل أمر نسبي
أحيانا . تعتبر المبالغة عنصرا أساسيا من عناصر الفن الناجح مثلما نجد في معظم اللوحات الشهيرة والأفلام الناجحة ، التي نشاهدها وتنال إعجابنا . حيث يتحمل البطل أوجاعا لا يمكن للبشر تحملها ، ويتعرض لإصابات قاتلة وينجو ، ويظهر فيه صفات لا يملكها غالب البشر ، فالمبالغة تعطي قيمة أكبر للأشياء ومساحة أوسع للأحجام ، ووقتا أكثر أو اقصر مما هو عليه في الطبيعة . ولو دققنا في الرسوم الكاريكاتيرية الناجحة، وقصص الأطفال ، والرسوم المتحركة لوجدنا أن سمكة القرش تضحك والديناصور يبكي والوردة تساعد الأطفال في الزراعة والأسماك تتكلم وهكذا . وفي الناتج نحصل على عالم خيالي مفترض يرسم الابتسامة على وجوهنا ويجعل منا أطفالا نريد تصديق هذا الخيال اللذيذ وليس الحياة التي نعيش فيها ونحن في سن النضوج .
في الإدراك البشري هناك مبالغة ضرورية وهناك مبالغة مفتعلة ، وفي حالة المبالغة الضرورية تكون هي ضرورة للنجاح ، ولولا المبالغة في الأحلام لما كان الأسرى ينجون من عتمة زنازين السجون . ولولا المبالغة في حب الوالدين لما تشكلت الأسرة بشكلها الحالي ، ولولا المبالغة في عطف الأم وحنانها لفقدنا الأمومة . وهنا تتحول المبالغة إلى جمالية من جماليات الحياة ولازمة من لوازم النجاة ، ولو أن ردة فعل الأم تجاه طفلها تصبح من دون مبالغة ولهفة ، لصارت الحياة مجرد متحف شموع .
أما المبالغة المفتعلة ( ضرورة غير محسوسة ) ، فهي في المتخيل ، حيث نقوم نحن البشر وعن قصد بتحفيز المؤثرات ( غالبا نحن لا نحفزها وإنما نسمح لها أن تتفاعل لوحدها ) لتسكن في متخيلاتنا المدركة وتعطينا نتائج أقوى وأكثر زخما من النتائج الطبيعية . وعلى هذا تسير معظم الأحداث التاريخية .
ولو قرأنا خطابا واحدا من خطابات نابليون بونابرت لجنوده وحثهم على فتح العالم لوجدنا أن المبالغة هي الشرط الأول لنجاح الحملة الفرنسية ، وكذلك أحلام محمد علي باشا بإقامة دولة عربية صناعية في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر ، وهي مبالغات ناجحة وكادت تتحقق لولا قرار العالم بمحاربته وإفشاله وإدخاله لاحقا لمستشفى الأمراض العقلية قبل أن يحاول ابنه إبراهيم باشا تحقيق حلم والده حتى جاء الخديوي وانتهت القصة بشكل تراجيدي . والاهم من هذه القصص انه وحين توقف العالم العربي عن المبالغة في الأحلام وقبلوا بالحد الأدنى من الطعام والنوم تحولت الشعوب العربية إلى مستباحة ومستعمرة من جانب الأمم التي واصلت الحلم .
المبالغة في الحلم تكاد تكون الخطوة الأهم في رفض الواقع المفروض والثورة عليه ، هي ثورة العقل على الخنوع ، وهي انتصار الحب على الخوف ، وهي شرط حتمي قبل القيام بقفزات تاريخية كبيرة ، قس على ذلك خطابات جمال عبد الناصر وخطابات عرفات ولا تمنع نفسك من الشعور بالندم والتقصير وأنت تغمض عينيك وتستمع لأغاني ايديت بياف .
والأهم هو المبالغة العلمية .. لان العلوم الحديثة وبالأساس الفيزياء صارت تعتمد على إمكانية تخيّل المستحيل . وفي حال أنك لا تملك القدرة الذهنية والجرأة العقلية على تخيل المستحيل فانك لن تكون جزء من المستقبل .
هل يمكن السفر عبر الزمن ؟ هل يمكن أن نتخاطر بدلا من أن نتكلم مع بعضنا ؟
هل يمكن أن نلتزم الصمت وفجأة نكتشف سوسيولوجيا أننا قمنا بنفس التخطيط لفعل ذات الشئ دون نتحدث عنه علانية !!
هل يمكن نقل المادة من مكان إلى مكان عبر الصورة بدون كثافة ؟
هل يمكن للإنسان أن يسافر بواسطة الناقل الكهرومغناطيسي ؟
هل يمكن أن يطير الإنسان آو أن يمشي فوق الماء ؟
أسئلة يراها الساذج مضحكة .. ويراها العلماء مثارا للتحدي ؟
ولو أننا كتبنا مقالة قبل عشر سنوات نقول فيها أن الاتصالات ستصبح مجانية والى كل العالم وانه سيكون هناك فايبر وواتس اب وسكايب وسناب تشات لضحك القراء حتى بانت نواجذهم ..
المبالغة العلمية ، التي تسابق الزمن وتكسر حواجز الخوف هي التي تصنع التاريخ . وفي حال انك قمت بعرض فكرة وضحك عليها الناس لا تغضب ولا تيأس . لان معظم الاختراعات العلمية التي تحكم العالم في يومنا هذا كانت مثار سخرية من عامة البشر حين تم طرحها لأول مرة ، وقبل نحو مئة عام وحين قال احدهم انه يمكن صناعة مصعد للبنايات العالية بدل السلالم حتى الطابق 100 فوق الأرض ، ضحك البسطاء ، وبعدها تواصلت الاختراعات العلمية حتى ملأت الدنيا .
ولا أنصح طلبة كليات العلوم أن يدخلوا في جدال مع الآخرين لإثبات إمكانية تحقيق المستحيل ، سواء كان هذا المستحيل سياسيا أو اقتصاديا أو علميا او في الثورات الاجتماعية .. لان التشكك قد يقتل الفكرة ، وقد يستنزف عقولكم ويمنعكم من مواصلة التفكير الإبداعي والاختراع .
المستحيل أمر نسبي …
اقرأ للكاتب :
كيف تصبح وسائل الإعلام بعد ثلاث سنوات ؟