الذكاء الثقافي: موهبة خفية تحدد قدرتك على النجاح
في عصر العولمة الذي نعيشه، قد يعتمد أداؤك الوظيفي على نسبة الذكاء الثقافي لديك. فما هو الذكاء الثقافي؟
تخيل لقاءك للمرة الأولى بشخص يأتي من بلد بعيد ولكنه يجيد لغتك. قد يبدو أنه لا يوجد حاجز يحول دون اتصال مباشر بينكما، فهل تكيف نبرة وإيقاع صوتك، أو تباعد فترات التوقف في كلامك، من أجل سهولة التواصل معه؟
وماذا عن تغيير لغة جسدك وسلوكياتك، وتعابير وجهك وفقا لخلفية الشخص الذي أمامك؟ هل تجلس أو تقف بطريقة مختلفة، وتنتبه للغة إشارة يديك؟
هذه ليست سوى مجموعة من التحولات الدقيقة في السلوك التي يمكن أن تساهم في تحديد مستوى ما يعرف بـ”الذكاء الثقافي” (سي كيو) لدى المرء. وهناك أدلة متزايدة تشير إلى أنه يستحق التعلم.
ويكتب عالم الاجتماع ديفيد ليفرمور في كتابه “اختلاف الذكاء الثقافي” قائلا: إن “أول ما يتنبأ بنجاحك في عالم بلا حدود هذه الأيام ليس نسبة ذكائك، ولا سيرتك الذاتية، ولا حتى خبرتك. إنه ذكاؤك الثقافي”.
ووفقا لأحدث الاستنتاجات، فإن مستوى مرتفعا من الذكاء الثقافي يمكن أن يكون عنصرا حاسما في مجموعة واسعة من المهن، بداية من المصرفيين، إلى الجنود، والعلماء، والمدرسين، أو أي شخص يتعامل بانتظام مع أناس من خلفيات متعددة.
إذن ما هو الذكاء الثقافي؟ ولماذا يكون أعلى لدى البعض مقارنة بالآخرين؟ وكيف يمكن لنا تعزيز هذه القدرات؟
اختلافات ثقافية
أجرت سون آنغ، أستاذة الإدارة في جامعة نانيانغ التكنولوجية في سنغافورة، الكثير من الأبحاث حول الذكاء الثقافي. وفي أواخر التسعينيات، كان عملها يتعلق بتحديث أنظمة الكمبيوتر في سنغافورة لمعالجة الخلل الشهير الذي كان يعرف بمشكلة “Y2K”، وهو خلل في برامج الكمبيوتر كان يخشى أن يؤدي إلى القضاء على شبكة الحواسيب العالمية في مطلع الألفية. وقد شكلت آنغ فريقا من المبرمجين لحل هذه المشكلة.
وكان الفريق يضم ألمع العقول في مجال البرمجيات، ومع ذلك فقد وجدت آنغ أنها لا يمكنها العمل مع أعضاء هذا الفريق. فقد كانت مجموعات العمل غير فعالة، وفشلت في الاتفاق. وكثيرا ما كان يبدو أن الأفراد توصلوا إلى حل، ولكنهم كانوا ينفذونه بطرق مختلفة تماما ودون جدوى.
من الواضح أن المسألة لم تكن مسألة خبرة أو حوافز. وبدلا من ذلك، رأت أن هؤلاء الموظفين ذوي القدرات العالية يتعثرون أمام الاختلافات الثقافية لدى كل منهم، وهو ما أدى إلى انهيار التواصل والتفاهم فيما بينهم.
وقد قادت هذه الأفكار آنغ إلى التعاون مع عالم النفس التنظيمي بي كريستوفر إيرلي، الذي كان يعمل حينئذ في كلية لندن للأعمال، وهو الآن عميد كلية الأعمال والاقتصاد في جامعة تزمينيا، بأستراليا. وقد عملا سويا على بناء نظرية شاملة للذكاء الثقافي، والتي يعرفانها على أنها “القدرة على العمل بفاعلية في مجموعة متنوعة من السياقات الثقافية”.
وعادة يقاس الذكاء الثقافي من خلال سلسلة من الأسئلة التي تقيم أربعة مكونات مختلفة. الأول هو “محرك الذكاء الثقافي”- أي الدافع لمعرفة المزيد عن الثقافات الأخرى. ثم هناك “معرفة الذكاء الثقافي”، أي فهم بعض الاختلافات الثقافية العامة التي قد تواجهها. أما “استراتيجية الذكاء الثقافي”، فهي تدرس كيفية تعاملك مع التحديات الصعبة والتعلم منها، بينما ينطوي “تنفيذ الذكاء الثقافي” على مرونتك السلوكية، وما إذا كان بإمكانك تكييف سلوكك وفقا لكل موقف.
قد يكون لشخص لديه ذكاء ثقافي منخفض ميل لرؤية سلوك الجميع من خلال عدسته الثقافية. وإذا كان يأتي من بيئة أكثر كياسة ولطفا، على سبيل المثال، ويلاحظ أن زملاءه اليابانيين أو الكوريين يلزمون الصمت كثيرا في اجتماع ما، قد يفترض أنهم عدائيون أو ضجرون.
وفي مجال الطيران، تسببت مثل هذه الاختلافات الثقافية أحيانا في انهيار الاتصالات بين الطيارين ومراقبي الحركة الجوية، وهو ما أدى إلى وقوع حوادث تحطم مميتة.
لكن شخصا يمتلك أعلى مستوى من الذكاء الثقافي قد يدرك أن الصمت في مثل هذا الاجتماع هو علامة على الاحترام، وأن ردود الفعل لن تقدم ما لم تطلب صراحة. ونتيجة لذلك، فإنه يتأكد من إتاحة فرص مناسبة في الاجتماع كي يدلي الآخرون بآرائهم.
ولعله من غير المستغرب أن العديد من الدراسات قد استكشفت كيفية تكيف المغتربين مع الحياة في الخارج، وأظهرت أن أولئك الذين لديهم أعلى مستوى أولي من الذكاء الثقافي سوف يجدون التأقلم مع حياتهم الجديدة أسهل.
إلا أن الذكاء الثقافي يمكن أن يشير إلى جوانب أكثر موضوعية من الأداء الوظيفي، مثل أداء المبيعات الدولية، ومهارات التفاوض، والقدرة القيادية الشاملة.
ثلاثة أشكال من الذكاء
إحدى الدراسات التي أجريت في عام 2011 عملت على قياس نسبة الذكاء (IQ)، والذكاء العاطفي (EQ)، والذكاء الثقافي (CQ) لنحو 126 ضابطا يدرسون في الأكاديمية العسكرية السويسرية، وهم يشاركون في مهام مختلفة تدعم الأمم المتحدة في أراض أجنبية، وفي تدريبات دولية.
ورغم أنه بدا أن جميع أشكال الذكاء الثلاثة ساهمت في أدائهم الكلي، إلا أنه تبين أن الذكاء الثقافي كان أفضل عامل تنبؤ، إذ كان مسؤولا عن 25 في المئة من نسبة نجاح الضباط في المهام الدولية.
وفي حين أن الأشخاص من ذوي الذكاء الثقافي العالي قد ينجذبون بشكل طبيعي لوظائف دولية، فإن هذه الدراسات تشير إلى أن الاختلافات في الذكاء الثقافي يمكن أيضا أن تتنبأ بأدائهم في حال تعيينهم في وظائف معينة.
وهذا التقييم يقود العديد من الشركات إلى النظر في اختبار الذكاء الثقافي ومعرفة كيفية تعزيز درجات ذكاء الموظفين على مقياس الذكاء الثقافي. وقد استخدمت مؤسسات، مثل ستاربكس وبلومبرغ وجامعة ميشغان، الخدمات التي يقدمها مركز الذكاء الثقافي في ميشغان، والذي يقدم اختبارات عبر الثقافات المختلفة، ومجموعة من الدورات.
والأمر المهم، كما يقول رئيس المركز ليفرمور، أنه يمكن تعلم الذكاء الثقافي. ولكن لا يوجد بديل للخبرة المباشرة الشخصية في بلد آخر، رغم أنه يبدو أن الناس يتعلمون في الغالب من التعرض لمجموعة متنوعة من الثقافات المختلفة إذا أردوا تعلم تلك المهارات القابلة للتعميم.
ويقول “في حين أن فهم ثقافة معينة يمكن أن يكون مفيدا، فإنه قد لا يتنبأ إطلاقا بكل قدراتك على الانخراط بفاعلية في مكان جديد”.
ويضيف “في الواقع، توصلت أبحاثنا إلى أن الأفراد الذين أمضوا وقتا مطولا في مواقع متعددة يكون لديهم على الأرجح معرفة ذكاء ثقافي أعلى من أولئك الذين عاشوا عقودا عديدة في بيئة واحدة في الخارج”.
لكن يبدو أن تعليم بعض المفاهيم الأساسية بشكل واضح يسهل تلك العملية. فيمكن للموظفين الخضوع لاختبار الذكاء الثقافي، ثم العمل مع مدرب لتحديد التحديات المحتملة.
وفيما بعد، يناقشون تلك التجارب والطرق التي يمكن لهم تطويع سلوكهم من خلالها في المستقبل. وباستخدام هذه الاستراتيجية، بدا أن المصرفيين المغتربين الذين ينتقلون إلى الشرق الأوسط، وآسيا، تكيفوا تماما مع حياتهم الجديدة خلال ثلاثة أشهر فقط، بينما استغرق الموظفون المغتربون الذي لم يحصلوا على أي تدريب ثقافي تسعة أشهر كي يصبحوا قادرين على العمل بكامل قدراتهم.
بيد أن الذكاء الثقافي لا ينمو لدى الجميع بالخبرة فقط. وحتى بعد سنوات من العيش في الخارج، يبدو أن فهم بعض الناس للثقافة الأخرى لا يزيد كثيرا، وقد يبدون مقاومة للتدريب أيضا.
ويحاول الباحثون الآن اكتشاف أسباب هذه الاختلافات. وتعتقد ميلودي تشاو، عالمة النفس الاجتماعية في جامعة هونغ كونغ للعلوم والتكنولوجيا، أن إحدى الإجابات عن ذلك تكمن في عقلية الفرد.
وقد استلهمت هذه الفكرة من أعمال عالمة النفس التربوي كارول دويك، التي بينت أن معتقدات الناس حول قدراتهم غالبا ما تصبح نبوءات لإرضاء الذات.
فمن ناحية، ينظر بعض الناس إلى قدراتهم على أنها “ثابتة” وغير قابلة للتغيير. فيما قد يكون لدى آخرين “عقلية النمو”، وهو ما يعني أنهم ينظرون إلى قدراتهم على أنها أكثر مرونة، لذا من المرجح أن يصمدوا خلال المعاناة ويتقبلوا تحديات جديدة.
وتتراكم هذه الاختلافات بشكل سريع، ما يعني أن الشخص ذا العقلية الثابتة قد ينطلق مع موهبة طبيعية أفضل، ليتخلف سريعا وراء شخص يتمتع بعقلية النمو.
أعمال دويك نظرت في المفاهيم التقليدية للذكاء، ولكن تشاو أظهرت أن هناك عملية مماثلة تكمن خلف التغيرات في الذكاء الثقافي أيضا.
فإذا كان شخص ما يعتقد أن الصفات الثقافية ثابتة، على سبيل المثال، فقد يواجه توترا أكبر أثناء تفاعله مع السكان المحليين، وقد يتعثر بعد لقاء مربك أو صعب دون التفكير في طرق للتكيف في المستقبل. ونتيجة لذلك، قد تبدو هذه الاختلافات الثقافية وكأنها حدود يستحيل التغلب عليها.
تقول تشاو “إن معتقدات الأفراد تخلق ‘حقيقة’ بالنسبة لهم”. وتقول إن الشركات يمكن أن تقيس هذه المعتقدات الضمنية إضافة إلى الدرجات الأولية للذكاء الثقافي لموظفيها، من أجل تحديد من الأكثر ترجيحا للاستفادة من خبرة دولية مقترحة.
وتحذر تشاو من أنه رغم هذه الطرق الجديدة من التفكير بشأن الذكاء الثقافي، فإن البحوث في هذا المجال لا تزال في مهدها.
وتقول “الديناميكيات الدولية وديناميكيات ما بين الثقافات تتغير بسرعة كبيرة، ولا يزال لدينا الكثير لتعلمه بشأن كيفية تعزيز الكفاءة الثقافية للأفراد”، وفقًا لما نقلته هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”.
وفي عالم تتوثق صلاتنا العالمية أكثر من أي وقت مضى، لا يمكن لذلك الفهم الجديد أن يأتي بسرعة كافية.