حسين علي حسين يكتب : تجربة الحج

في العام 1384هـ (1964م) أديت حجتي الأولى، حينذاك كنت في السادسة ابتدائي، صغيراً ونحيفاً، وفوق ذلك كنت وافر النشاط، لذلك لم أشعر بوعورة الطريق، رغم أن السيارة التي كنا نركبها، كانت من تلك الشاحنات، المخصصة لنقل البهائم! قسمت الشاحنة إلى دورين، بواسطة ألواح الخشب، الدور الأرضي للنساء، والدور الثاني للرجال، أو الذكور عموماً، ومن يجلس في الدور الأخير، معرض طوال الرحلة، لتقلبات الطقس: الهواء الشديد، الشمس، الغبار، الأمطار، النساء كنّ أكثر حظاً رغم كتمة السقف، وقلة التهوية، ومع ذلك فقد كان رفاق الرحلة، ومنهم والدي رحمه الله، وكان قائداً للرحلة أو الحملة، هؤلاء الحجاج، كان أمام بعضهم، علبة لإطفاء السجائر، وبعض هؤلاء أمامه شيشة، تستخدم عند وقوف الشاحنة، في أي محطة، وكانت الرحلة تستغرق يوماً واحداً أو أكثر، وكان مع الحملة كامل لوازم الحج: الواعظ في المقدمة، فمنه تعرف الأحكام الشرعية في المشاعر، التموين بما فيه الخطب والقدور، الخيام، وسائل الإنارة، الطباخ، قرب الماء، ولأن ضيق اليد كان شائعاً في ذلك الوقت، فإن أغلب أفراد الحملة كانوا يحجون نيابة، أي أنهم يقومون بالحج، نيابة عن بعض أموات المسلمين، نظير مبالغ بسيطة، تكفي للمناسك، مع مبلغ بسيط، يضعه الحاج في البيت مصروفاً لأهله، وقد يسأل سائل، لماذا تحمل المعاناة في السفر الشاق، والطواف، والسعي، والرمي، والرد البسيط أن من يحج مرة، يتحول الحج لديه إلى متعة، لا يستطيع التأخر عنها ولو سنة واحدة، معتمراً أو حاجاً، حتى والدي لم يتأخر، ولا سنة واحدة عن أداء الحج، إلا في السنة التي مات فيها، وقد دفن والناس يتهيؤون، لأداء الفريضة!

ولأن الحج كان معاناة وتعباً، فقد كان العائدون من مكة المكرمة يحظون بتكريم من الأهل، الجيران، خاصة «السرارة» وهو الذي يحج للمرة الأولى، تقدم لهؤلاء الموائد، وبدورهم يقدم الحجاج لزوارهم الحلاوة الحمصية، والسبح، ولعب الأطفال، وفي الوقت الذي يكون فيه «السرارة»، على صعيد عرفات، فإن أهله يحتفلون به، فتؤدي له الأهازيج، وتتلى الأدعية، بأن يعود من هناك سالماً وغانماً، سالماً من العلل والأمراض ومخاطر الطريق، وغانماً للأجر والثواب، ومتعة رؤية البيت الحرام!

لا أذكر من مكة في ذلك الوقت، إلا النزول بدرج، لتلقي رشة من ماء زمزم على الرأس، وشعرت بالمتعة، وأنا أرى الناس من كافة الأعراق والألوان، وهم يقذفون الشيطان بالحصى، وهناك من كان يقذفه بالشبشب، وقطع الأخشاب!، ومن رأى معاناة الرجم في ذلك الوقت ورآها الآن يعرف الفرق بين حج هذه الأيام، والحج قبل أكثر من نصف قرن مضى!

أما المسعى فقد كان عبارة عن سوق تباع فيه الملابس، وتسرح فيه المواشي والكلاب، التي تغط نهاراً في نوم عميق، بينما المسعى يموج بالساعين والباعة (كنا نشبه من ينام النهار ويستيقظ في الليل بكلب المسعى!).

من عاش تلك المعاناة ورأى ما نراه الآن يدرك الوتيرة السريعة، التي أنتابت كل شيء، وفي مناحي الحياة كافة، بفضل العلم وتدفق الثروات.

حسين علي حسين – الرياض

شكرا للتعليق على الموضوع