القاضي الرحيم العادل “قصة قصيرة”
قصة حقيقية من واقع قصص القضاء المصرى الشامخ
كان القاضي (هشام الشريف) رئيس دائرة جنح مُسْتَأْنَف حُلوان في فترة أواخر التسعينات..
و كان رحيما و عاِلماً في نفس الوقت .. و مُلتزِماً بآداب المَنَصَّة و وقارها ..
و ودوداً مع المُحامين ..
و كان المتهمون يطمئنون لأحكامه
حتى تلك التي يحكم فيها بتأييد العقوبة؛ فلقد كان المتهم يخرج من القاعة راضيا و مطمئنا بأن هذا الحُكم من هذا القاضي هو غاية المنتَظَر من العدل و الرحمة ..
و في غيرها كان يخفض الكفالات للمواطنين المعسرين و في أحيان كثيرة كان يدفعها من ماله الخاص .
و في جلسة من الجلسات
عُرِضَت عليه قضية اهتزت لإنسانيتها جنبات محكمة جنوب القاهرة في باب الخَلق .. حين نودي على اسم المتهمة ( و كان لا يضع النساء داخل القفص ) و كانت تُحاكَم بتهمة تبديد مبلغ عليها بإيصال أمانة .
و دخلت المتهمة بقاعة المحكمة و اقتربت من المنصة ، و كانت امرأة في أواخر الأربعينيات من عمرها ، و كانت محبوسة و لم يُفرَج عنها لعدم قدرتها على سداد الكفالة ..
( و كان حالها الفقير واضح بجلاء للناظرين ) فسألها القاضي :
يا ست ( فلانة ) ما دفعتيش ال7000 جنيه ليه ل ( فلان ) ؟..
و بصوت أقرب للبكاء الخائف المرتعش أخبرته المسكينة أن المبلغ ليس 7000 جنيه و إنما هو في حقيقة الأمر 1000 فقط ( كانت قد اشترت بهم بضاعة من ( فلان ) التاجر ( و والد الأستاذة المحامية الحاضرة في الجلسة ) و أنها كانت تدفع له 60 جنيه كل شهر ، لكن حصل لها ظروف منعتها من السداد ، و الحاج مرضيش ينتظر و رفع عليها دعوى بإيصال الأمانة ..
التفت القاضي للمحامية و سألها بأدب و هدوء :
كلام الست حقيقي ؟ ..
فأنكرت المحامية معرفتها بالحقيقة..
فما كان من القاضي إلا أن نظر إلى المتهمة و سألها عن حالها .. ( فعلم منها أنها أرملة و تعول 3 بنات ) ..
فنظر إليها بمنتهى الشفقة و الرأفة و قال : ها تتحل إن شاء الله ..
و رفع الجلسة ، و قبل أن يدخل غرفة المُداوَلَة وَجَّهَ كلامه إلى المحامين الحاضرين بالقاعة قائلاً :
أعلم أنكم أصحاب فضل و مروءة و لن تتأخروا عن فِعل المعروف ، و أخرج مِنديلاً كان في جيبه و وضعه على المنصة و أشار إلى الحاجب بالقدوم ، ثم أخرج من جيبه مبلغاً من المال و قال : ( هذه 500 جنيه ) هي كل ما معي ، ولا أدري مَنْ مِنَ السادة المستشارين سيشاركني ، و هى أول مشاركة لسداد دين هذه السيدة ، و شكر الحاضرين و دخل غرفة المُداوَلَة ..
و بدأ المحامون في التباري في الدفع ، فبدأ أحدهم ب 1000 جنيه ، ثم توالى الباقين حتى تجمع بالمنديل ما يتجاوز ال( 8000 جنيه )؛ و قبل ذلك كانت المحامية ابنة صاحب الدَّين قد خرجت بسرعة إلى خارج قاعة المحكمة لكي تتصل بوالدها و تخبره بما حدث..
و عادت المحامية إلى القاعة و نودي عليها حين أدخل القاضي المتهمة إلى غرفة المداولة ، و كان القاضي جالسا خلف مكتبه ؛ و أشار إلى المحامية قائلاً : فيه 7000 جنيه موجودة بالمنديل تقدري تأخذيه و تتصالحي مع المتهمة و نمشيها .. ثم أشار إليها بأخذ الفلوس..
و لكن المحامية قالت : أنها سألت أبيها و أخبرها بأن لا تأخذ أكثر من ( 500 جنيه ) هو المبلغ المتبقي على المتهمة..
فشكرها القاضي و ابتسم ناظرا للمحامين الذين ملأوا غرفة المداولة و قال: أظن أنها اخذت ال ( 500 جنيه ) بتاعتي..
فضحك الجميع ، و قاطعهم قائلاً : و أظنكم لا تريدون أن يحرمكم الله ثواب المشاركة..
وعلا صوت المحامين في الغرفة بالتأييد ..
فنظر القاضي إلى المتهمة و مد يده بالمنديل و به باقي ال 8000 جنيه و قال :
(و هذه من الله لكِ و للبنات)..
و ضجَّت غرفة المداولة بالتهليل و التكببر و الذى سرى إلى قاعة المحكمة و هتف كل مَن فيها ، فهرول كل الحاضرون في المحكمة إلى هذه القاعة ليعلموا ماذا حدث ؛ فعلموا بأن ما حدث هو أنه كان يوجد قاضي رحيم عادل يتق الله في خلق الله .
قصة قصيرة من واقع الحياة
بقلم : موسى محمد