يحي الجعفرى يكتب: خواطر صحفي معزول
بائعة الفطير “مشهد رأسي من شرفة المنزل”
كنت أمر عليها صبيحة كل يوم في تمام الساعة التاسعة صباحاً في ذلك الحي المتوسط الذي تقع فيه البناية التي بناها جدي ليقطن فيها أبناؤه، لا أعلم من أين تأتي وإلي أين تغدو بعد أن تقضي حاجتها من بيع لزبد وفطير وغيره من خيرات الريف، التي يحبها الجميع .
ولكن اليوم وبعد آذان الفجر بحوالي ساعة صادفني أن رأيتها وهي آتية إلى عملها ، نعم اليوم فقط بعد ثلاثين عاماً من معايشتي لهذه السيدة ، تركب سيارة أشبه ب “سيارة التراحيل” لتنزل منها في تمام السادسة صباحاً لتقضي ما يزيد عن الأثنى عشرة ساعة في بيع وشراء ، هالني الموقف و وتركت السيجارة التي خرجت إلى الشرفة من أجلها تحترق في الهواء، وتساءلت هل تأتي تلك العجوز القروية من قريتها كل يوم في هذه الترحيلة لتبيع هذه البضاعة زهيدة الثمن.
هل من حقنا أن نجادلها في تلك الجنيهات القليلة كما يفعل كافة زبائنها؟ ثم يخرجون كأنهم قد فازوا بكنوز القيصر ، بعد أن يكبدوا تلك العجوز خسارة في بيعتها التي تقتات على أطفالها منها بعد أن صنعتها في فرن القرية لتبيعها في جنبات الطرق .
ثم قفز سؤال آخر إلى ذهني هل هؤلاء الداعين إلى الصبر حتى يتحقق الرخاء قابلوا يوماً سيدة مثل تلك السيدة؟ فإذا كانت الإجابة نعم ؟ فأي ضمير هذا الذي يحملون ليطلبوا منها ومن مثيلاتها الصبر؟ فإذا ما فرضنا جدلاً أنهم لم يلتقوا بسيدة مثلها؟ وهو ما ليس حقيقياً فأي برج عاجي يعيشون فيه ؟؟!!
ثم تداعى إلى ذهني جدلية أخرى عن مجتمعنا الذكوري مختل المعايير؟ كيف برجاله يوماً يعيبون على المرأة خروجها ؟ ويوماً آخراً يطلبون منها السفر اليومي لتكون سيدة معيلة لنفسها ولغيرها ؟ أي معايير مختلة تلك التي نعيشها وهل يستقيم مجتمع بتلك المعايير.
وتأكد لي بعد تلك التيهة في الأسئلة التي لا جواب لها أن الحق كل الحق أن الإفقار والاستبداد نخلتان من أصل واحد ، وهذا الأصل هو غياب الإنسانية و غياب الأولويات عن من يقرر ، وعمن يحاول أن يروج لغياب الإنسانية ويدافع عنها ، وكل من يحاول تطبيع هذه الوحشية .