التربية الإعلامية: نحو استعادة الوعي في عالم مُعقَّد

12

تقرير دكتور: محمد عمارة تقي الدين

“لقد أصبح الإعلام يقوم بدور أهم من المدارس ودور العبادة والجيوش”، تلك مقولة المفكر الاستراتيجي الأمريكي بريجينسكي مُنبهاً لخطورة الدور الذي أضحت تلعبه وسائل الإعلام الحديثة، وهو الأمر الذي تعاظم تأثيره في أيامنا هذه في ظل حالة الانفجار المعلوماتي والانتشار الواسع والتطور الهائل في وسائل الاتصال.

ومن ثم أضحى الإعلام هو السلطة الأولى بلا منازع، فقد أحكم سيطرته على العالم، ذلك العالم الذي تحكمه النفعية السياسية وتتجاذبه الصراعات والمصالح والأهواء، بل وتزايدت التحديات التي فرضتها حروب الجيلين الرابع والخامس عبر وسائل الإعلام الجديدة حيث تفشي الخداع والكذب والتضليل وتشويه الحقائق، فقد بات الفرد منا يتعرض يومياً إلى سيل جارف وتدفق هائل للمعلومات والأخبار والإعلانات، في ظل تفاقم ثلاثية الجنس والعنف والجريمة التي تحكم صناعة الميديا الغربية وبدأت تجد طريقها بقوة نحو إعلامنا العربي.

من هنا، ومع تزايد استهلاكنا لوسائل الإعلام كانت الحاجة لتقييم بل وتفكيك المحتوى الإعلامي لها، ومعرفة الرسائل المضمرة بها ومصادرها والأهداف الكامنة خلفها، ومن ثم سبل الاشتباك معها.

إذ يجب أن تتأكد لدينا قناعة مفادها أن الإعلام بصيغته الحالية هو في معظمه إعلام موجه أو قُل إنه دعاية وبروباجندا وليس إعلاماً إذا ما أردنا توصيفاً دقيقاً، إذ يعمد إلى التحكم في متابعيه عبر مخاطبة اللاوعي لديهم وما يكتنفه من مشاعر الخوف والألم والعاطفة، في حين يغيب حديث العقل ويضمحل، فيتم عبره قيادة الجموع كقطيع من الأغنام لما يريده المتحكمون في تلك الوسائل الإعلامية، والذي هو عادة ما يكون بعيداً كل البعد عن مصالح الجماهير بل مناقضاً لها تماماً.

الملاحظة المركزية هنا، أن الفرد المتلقي للرسالة الإعلامية دائماً وأبداً ما تتنازعه قوتان، فعندما تكون قوة الجذب المركزي (تأثير الإعلام) أقوي من قوة الطرد المركزية (العقل النقدي) هنا يصبح الفرد ضائعاً وسط متاهات الإعلام المؤدلج، غير أنه عندما يحدث العكس وتصبح قوة الطرد المركزية (العقل النقدي) أقوى من قوة تأثير الإعلام يبقى الفرد محافظاً على عقلانيته واستقلاليته.

الأمر المخيف أن وسائل الإعلام الحالية ومع التطور الهائل الذي حدث لها واستخدام تقنيات ومؤثرات بالغة التطور وعالية التأثير، ومن ثم أضحت قدرتها على ممارسة الخداع والتزييف قدرة هائلة، فيستجيب الفرد لها دون أدني تفكير، فها هي وسائل التواصل الاجتماعي كمنصات الفيسبوك وتويتر وغيرها تتبع آلية نشر الشائعات والأخبار المفبركة والفضائح المفتعلة وتفاهات الأشياء، فيقوم الأفراد بإعادة نشرها دون تأكد من صحة ما يتم ينشره أو أهميته، فقط لأنه يعتقد أن من كتبه أو نشره قبله هو أكثر علماً منه، ما زاد الأمر مأساوية هو إمكانية تخفي الفرد خلف شاشة ولوحة مفاتيح صغيرة دون أن تظهر هويته الحقيقية، فيقوم بإعادة النشر مرات عديدة.

من أجل هذا يتحتم رفع منسوب الوعي الفكري والتحليل النقدي لدى الأفراد وتنمية ثقافة الانشقاق الفكري بمفهومه الفلسفي القيمي والقدرة على الخروج من أسر الإعلام المؤدلج لشق مسارات جديدة للإنسانية، عبر إعمال آلة العقل في حدودها القصوي، فهذا هو الإنسان كما خلقه وكرَّمه الله حُراً مستقلاً ومفعماً بالإرادة، إرادة التجاوز التي مكَّنته من بناء الحضارة الإنسانية وإرساء دعائمها.

  والسؤال الذي يطل برأسه الآن: كيف نتجنب هذا الخداع الإعلامي؟ كيف نستطيع التفريق بين رديء الرسائل الإعلامية وثمينها؟ كيف نحمي أنفسنا من هذا الهجوم السافر على وعينا الإنساني والذي تشنه وسائل إعلامية تنزع في أغلبها إلى التعتيم على الأجندة الحقيقية للمجتمع، عبر آلية (المنع بواسطة العرض)، أي عرض قضايا هامشية بشكل مكثف للتعتيم على قضايا المجتمع المركزية، ومن ثم تسهم في تشويه وعيه بدرجة كبيرة عبر تبديل أولوياته؟

الإجابة في اعتقادي هي في إقرار مناهج التربية الإعلامية على الجميع بداية من الأطفال وانتهاء بالكبار.   

ولكن ماذا تعني التربية الإعلامية (Media literacy) ؟

تُعرِّفها منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) بأنها:” الكفاءات الأساسية التي تتيح للمواطنين التعامل مع وسائل الإعلام على نحو فعّال، والقدرة على تحليل الرسائل الإعلامية وتقييمها وإنتاجها، في سبيل تنشئة اجتماعية تجعل منهم مواطنين فاعلين” ، ومن ثم وجَّهت لضرورة إعداد ” الناشئة للعيش في عالم تحكمه سلطة الصوت والصورة والكلمة”، وعليه اعتبرت المنظمة التربية الإعلامية جزءاً من الحقوق الأساسية لكل مواطن.

لقد عرّف مؤتمر فيينا في عام 1999م التربية الإعلامية، بأنها:” فن التعامل مع جميع وسائل الإعلام والاتصال، وتمكين الأفراد من فهم الرسائل الإعلامية وإنتاجها واختيار الوسائل المناسبة للتعبير عن أنفسهم”. 

أما الرابطة الوطنية الأمريكية للتربية الإعلامية فقد عرفتها بأنها: “القدرة على الوصول والتحليل والتقييم والتواصل مع وسائل الإعلام المختلفة”.

ومن ناحية أخرى، وكما يذهب البعض، تعني التربية الإعلاميّة: “إعداد القائمين على الإعلام للقيام بدورهم في العملية التربويّة”.

وبالمجمل تُعرف التربية الإعلامية على أنها مهارة التعامل مع الإعلام، أو أنها محو الأمية الإعلامية عبر بناء الفرد على مستويات ثلاث: معرفياً، وسلوكياً، وقيمياً، كما أنها تعني مهارة الاشتباك الإيجابي مع وسائل الإعلام تأثيراً وتأثراً.

فهي ضرورية إذن لحماية المجتمعات من سلبيات المحتوى الإعلامي الزائف والمضلل وتمكينهم من إنتاج محتوى إعلامي قيمي يؤكد قيم الحق والخير والجمال، عبر بناء فلسفة إعلامية تربوية نابعة من القيم والمباديء الإنسانية العامة. 

في العام 2009 وفي أميركا الشمالية تم إطلاق أول مجلة علمية عن التربية الإعلامية وسبل تعلمها.

وفي السنوات الأخيرة أيقنت جامعة الدول العربية أهمية التربية الإعلامية، ومن ثم دعت إلى: ” حتمية تضافر كل الجهود الدولية منها أو الإقليمية لتعزيز التربية الإعلامية وإتاحتها كحق للجميع″ .

جدير بالذكر أن القدرات الخمس التي تعمل التربية الإعلامية على تنميتها لدى الفرد، هي: القدرة على الوصول لوسائل الإعلام واستيعاب القيم النائمة داخل مضمونها، القدرة على تقييم ونقد وتفكيك المضامين الإعلامية سلبية كانت أم إيجابية، القدرة على الاختيار بكامل الوعي الأنسب من بين الوسائل والمضامين الإعلامية، القدرة على التعبير عن الرأي عبر التواصل المباشر مع وسائل الإعلام، القدرة على إنتاج مضامين إعلامية مع إمكانية إيصالها للآخرين.

اقرأ ايضاً | محمد عمارة يكتب: الإعلام ونظرية المؤامرة

وللتربية الإعلامية  أهمية مركزية في تحقيق التزكية على ثلاث مستويات:

أولاً : تزكية الجانب العقلي: أي تنمية مهارات التذكر والفهم والمعرفة والتحليل والتفكيك والتركيب والتقييم للمضامين الإعلامية، ومن ثم إمكانية إصدار أحكام بشأنها.

 ثانياً : تزكية الجانب الوجداني: أي تنمية المشاعر والعواطف الإيجابية والتذوق والقيم كالانتماء وغيرها.

 ثالثاً: تزكية الجانب السلوكي: أي تنمية القدرة على الممارسة والإبداع والإتقان، عبر الانخراط في المشاركة الفعلية في الرسالة الإعلامية سواء بالحوار أو المناظرة وغيرها، وصولاً لإمكانية إنتاج المضامين الإعلامية وطرحها على الجمهور.

  وبالمجمل فالتربية الإعلاميَّة من شأنها التصدي للتبعيَّة العمياء والاتباع اللاواعي والإدمان المرضي لدى كثير من البشر عند متابعتهم لوسائِل الإعلام عبر تفكيك الرسالة الإعلاميَّة ومعرفة ما تحمله من قيم سلبية وأخرى إيجابية، واستبطان الهدف والغاية من وراء تصنيعها وبثِّها.

فمهمة التربية الإعلامية تكمن في تعليم البشر التمييز بين: الرسائل المعلنة والأخرى المضمرة داخل المحتوى الإعلامي، والتمييز بين كاذب الأخبار وصادقها، بين الحقائق والإشاعات، والتمييز بين الخبر والرأي، وبين الدعاية والإعلان، كما تقود لرفض خطاب التحريض والكراهية والتنمر على الآخرين ومحاوله انتهاك خصوصيتهم، في مقابل إرساء قيم الإخاء والمحبة والتسامح والسلام.

والحقيقة أن التربية الإعلامية قد تطورت كثيراً في الآونة الأخيرة، فلم تعد مجرد مشروع دفاع فحسب، بل مشروع دفاع وتمكين معاً، بمعنى دفاع الإنسان عن نفسه والتصدي للمؤثرات السلبية لوسائل الإعلام، أضف إلى ذلك تمكينه من التواصل مع الرسائل الإعلامية والتأثير فيها بل وإنتاج محتوى إعلامي يعبر عن قناعاته.

ونعتقد أن هذا كله لن يكون بالإمكان من دون إيقاظ حاسة التساؤل النائمة في أعماقنا وإحياء فضيلة التفكير النقدي لنتساءل حول مصداقية الرسالة الإعلامية المقدمة، وما الغرض من تقديمها في هذا التوقيت دون غيره، وهل هي أولوية مُلحّة أم قُصد بها إخفاء أولويات أخرى؟ ومن هم مالكي تلك الوسائل الإعلامية؟ وما هي أيديولوجيتهم الفكرية والدينية والسياسية؟

فالقناعة يجب أن تتأكد أنه ليس هناك إعلاماً لوجه الله أو لوجه الحقيقة المُطلقة مهما ادّعى القائمون على الإعلام ذلك، فالجميع مدفوعون بأيديولوجية ما، ومن ثم يتحتم إعمال العقل عبر استدعاء ملكات التفكير الناقد لكشف الرسائل المُضمرة التي يحاول هذا الإعلام بثها.

حقيقة أن التفكير الناقد يمكن من خلاله ليس تفكيك آليات الخداع الإعلامي فحسب بل فهم هذا العالم ومن ثم إمكانية رسم خريطة إدراكية لمعطياته ومتغيراته وموقعنا داخله، أي بلورة رؤية حقيقية للذات وللعالم في آن، ذلك هو العقل كما خلقه الله عقلاً توليدياً إبداعياً وإن كانت قد جرت محاولات لأجل تغييبه إلا أنه لا يزال ممتلكاً القدرة على التجاوز، فلا مفر إذاً من جعل هذا التفكير النقدي بمثابة الدماء التي تسبح في شرايين البشرية باعتبارها مسألة مصيرية لها.

وهي معركة يجب أن تبدأ من الفرد، فهو عليه تبعة إعمال عقله بشكل دائم وهو يتابع الوسيلة الإعلامية ليُدرِّب عضلة التفكير النقدي لدية، فلا يكُفّ عن طرح الأسئلة على نفسه السؤال تِلو الآخر: لماذا يجري عرض هذه الرسالة الآن؟ وهل القضية التي تطرحها جوهرية أم أنه قُصد بها إخفاء قضايا أخرى أكثر أهمية؟ من الذي قام بإنتاج هذه الرسالة الإعلامية؟ ما هو انتماؤه الفكري والأيديولوجي؟ هل تقف وراءه جهة رسمية أم تيارات معارضة أم ماذا؟ في أي دولة تجري صناعة هذا المحتوى الإعلامي؟ ما هي الأهداف الحقيقية لصانعه؟ ولماذا ينفق كل هذه الأموال على تلك الرسالة الإعلامية؟ هل هذا المحتوى رأي، أم حقيقة، أم أن الأمر مختلط؟

 وما هي الرسالة المستترة خلف ذلك المحتوى، فدائماً هناك رسالتان: واحدة مُعلنة، والأخرى مضمرة في تضاعيف الخطاب الإعلامي ونائمة في أحشائه؟ هل المصادر التي استندت إليها المادة المقدمة داخل الرسالة الإعلامية هي مصادر موثوقة أم غير ذلك؟ وهل يمكن التحقَّق من صدق هذه المادة؟

هل تلك الرسالة تتضمن رأياً ورأياً آخر؟ أم أنها تتدفق في اتجاه واحد، وما مدى العدالة في عرض الآراء المختلفة إذا وُجِدت؟

فمحاولة الإجابة عن هذه الأسئلة هي إستراتيجية من شأنها تسليحك كمشاهد بالأدوات اللازمة لخوض معركة الوعي الحقيقي، معركة يتعاظم فيها دور العقل ويخبو حديث العاطفة واللاوعي.

 ومن دون شك فالإعلام بصيغته الحالية من شأنه أن يعزز ظاهرة غياب العقل والتفكير العقلاني، إذ بما يُقدمه من مادة إعلامية أصبح يشكل حائلاً أمام بناء ملكة التفكير النقدي المتأني، فالتفكير السريع هو سمته الأساسية، وكما يذهب بيير بورديو فوسائل الإعلام من شأنها استضافة من يفكرون بأسرع من أنفاسهم، كما أنهم يضطرون للتفكير وفقاً للأفكار الشائعة والسائدة التي يتقبلها الجميع والتي في معظمها تافهة ومبتذلة وتقليدية وسطحية.

وبالمجمل نعتقد أن هناك عدداً من المنطلقات التأسيسية التي يتحتم أن يراعيها المتلقي وهو يتابع الوسيلة الإعلامية ليفكر بما تقدمه من رسائل تفكيراً نقدياً لعل أبرزها حتمية الشك المنهجي في كل ما يُقدَّم كمنطلق تأسيسي لتحصيل المعرفة أي إتباع إستراتيجية التفكيك وإعادة التركيب ثم الاستنتاج، ومن ثم عليك كمتلقي أن تبدأ من فكرة مركزية وهي أن كل إعلام بالضرورة هو إعلام مؤدلج، وكن متأكداً أنه مادامت وسائل الإعلام تُلِّح عليك بشكل مكثف بشيء ما فإن هناك أشياء وقضايا جوهرية يتم إخفاؤها عنك، بل إن هناك مؤامرة يجري حبكها ضدك، فأعد إعمال عقلك ومن ثم إخضاع كل القضايا للنقد والتحليل.

اقرأ ايضاً | محمد عمارة يكتب: الصهيونية المسيحية والمشروع الصهيوني

  ومن ثم يجب التساؤل دائماً: هل هناك رأي ورأي آخر داخل الرسالة الإعلامية؟ هل المساحة الزمنية للضيوف المشاركة بها واحدة؟ هل الضيوف بنفس المستوى العلمي والمعرفي وغيره؟ هل مُقدِّم الرسالة يوجهني لرأى ما أم يضعني أمام خيارات حقيقية؟ هل التقارير المُقدَّمة تعكس الواقع بصدق؟ هل يجرى توظيف الصور بحيادية؟ هل التصريحات المنقولة مقتطعة من سياقها؟ هل المقصود من مناقشة وعرض تلك القضية هو إخفاء قضية أخرى أكثر أهمية أم ماذا؟ ما مصلحة الجهة الممولة للوسيلة الإعلامية في طرح تلك القضية بهذا الشكل وفي ذلك التوقيت؟ فالكل يبحث دائماً عن مصالحه، فعلى سبيل المثال إن كانوا رجال أعمال فسيميلون في إعلامهم للدفاع عن مصالحهم وإن أتت على حقوق الفقراء وهكذا.

وفي التحليل الأخير، فالتربية الإعلامية أضحت ضرورة ملحة في عصر باتت تحكمه وسائل الإعلام، إذ من شأنها، وكما يذهب البعض، أن تقود المتلقي إلى فهم أكثر عمقاً للمحتوى المعرفي والقيمي الذي تطرحه وسائل الإعلام وتلح به على المتلقي، واستبطان ملامح أيديولوجية الذين يقفون وراءه، ومن ثم التخلص مما علق بالرسالة الإعلامية من شوائب أيديولوجية، بل والاشتباك المباشر مع تلك الرسائل الإعلامية نقداً وتحليلاً وتفكيكاً وتركيباً وتأثيراً وتأثراً، وصولاً لإمكانية إنتاج رسائل إعلامية خاصة بالفرد لتعبر عن قناعاته الخاصة مع القدرة على بثها على الجماهير في آن.

وفي النهاية دعنا نُردِّد مع مالكوم إكس قوله: “إذا لم تكن فطِناً فإن وسائل الإعلام ستجعلك تحب الجلاد وتكره الضحية”.

اقرأ ايضاً

الإعلام وسلوك القطيع: فن قيادة الخِراف إلى المذبح

شكرا للتعليق على الموضوع