التلغراف تحاور آلان بوسون “المؤرخ الطبي” وتاريخ الأوبئة على مر العصور حتي كورونا

12

ألان بوسون ، حاصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ المعاصر من جامعة فريبورغ ، وأستاذ تاريخ بالمدرسة الثانوية ، وألف العديد من كتب التي تتعلق أساسًا بتاريخ الطب ، وخاصة في كانتون فريبورغ ، ويتناول كتابه الجديد علم الصيدلية في فريبورغ من بداية العصور الوسطى وحتى نهاية نظام الحكم القديم (نهاية الملكية الفرنسية وبداية الثورة الفرنسية)

قبل ظهور فيروس كورونا، كاد التقدّم الطبي يُنسينا أن الغرب عاش لقرون تحت تهديد الأوبئة ، ومجيء الوباء ذكرنا بأن البشرية لا تزال ضعيفة وعرضة للخطر وأيقظ فينا مخاوف الأجداد ، وفق تعبير مؤرخ طبي.

وطوال عامين، والوباء يفتك بالمجتمع ، والآراء تتباين بشأن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة ، كالحجر والتطعيم ، غير أنها ليست المرة الأولى التي يواجه فيها العالم أوبئة خطيرة ، الأمر الذي يثير السؤال حول مدى مقاربة ما يحصل اليوم مع ما حدث في الماضي؟ ويقدم لنا آلان بوسون ، المؤرخ الطبي ، نصيبًا من الإجابة.

 بالنسبة للمؤرخ ، هل من مرجعية في سياق الأوبئة يمكن القياس عليها؟

آلان بوسون: الطاعون في العصور الوسطى، الذي نجت منه أوروبا الغربية منذ القرن السادس ، إلى أن شهدت أولى موجاته المروعة أبان الفترة من نهاية عام 1347 إلى عام 1351 ، وقد راح ضحيته في بعض المناطق من ثلث إلى نصف السكان ، واستمر ظهوره بعد ذلك بشكل متقطع حتى القرن الثامن عشر.

أجبرت موجات الطاعون الحكومات على التحرك، ولوحظ أن بعض التدابير ، مثل عزل المرضى والحجر الصحي وتقييد الحركة ، تحدّ من وقع الطاعون ، مما جعلها ، فيما بعد ، أسلوبًا معتادًا للتعامل مع الأوبئة الأخرى.

ولذلك بالنسبة للمؤرخين، لا جديد في الأمر ، وما نعيشه اليوم من مخاوف هو ذاته الذي عشناه في الماضي.

غالبًا ما يُقارن الوباء الحالي بالإنفلونزا الإسبانية في نهاية الحرب العالمية الأولى. ما هي جوانب التشابه والاختلاف بين الوباءين؟

كلاهما عالمي وسريع الانتشار، ولا ينطبق هذا على مرض الطاعون، ويمكن لنا أن نقارن أيضًا بالنسبة لفداحة الظاهرة، فعلى سبيل المثال ، في سويسرا بين عامي 1918 و 1920 ، تُشير التقديرات إلى أن ما بين ثلث ونصف السكان أصيبوا بالإنفلونزا الإسبانية ، وهذا معدّل هائل لم يبلغه فيروس كورونا.

وهكذا يبقى التشابه محدودًا، ثم إن الإنفلونزا الإسبانية، والتي أكانت أكثر فظاعة، لم تكن في أول أمرها معروفة، ولا كيفية التعامل معها ، ولا حتى كونها فيروسًا ، لأن الفيروسات لم تكن مكتشفة بعد ، لدرجة أنهم ظنوها شكلًا من أشكال الطاعون ، أما فيروس كورونا ، فنحن حاليًا ، بالرغم من بعض الغموض ، نعرف عنه الكثير.

وكذلك معدل وفيات الإنفلونزا الإسبانية كان أعلى بكثير، وقد استهدفت بشكل رئيسي الفئة العمرية من 20 إلى 35 عامًا ، وليس كبار السن كما في حالة فيروس كورونا ، وعند مطالعة صحف ذاك الزمان تهولنا المآسي المروعة لموت آباء وأمهات تاركين وراءهم الأبناء والبنات والجدود والجدات ، ولذلك ، هي من هذا الجانب أيضًا أكثر فظاعة ، لأنها قضت على القوى الدافعة للمجتمع.

مع ذلك، لدينا انطباع بأن الذعر اليوم أكثر مما كان عليه الحال قبل مائة عام

إننا اليوم نعيش في مجتمعات حديثة، أو أكثر من حديثة، حيث نهتم بالصحة كثيرًا، وننفق كعائلات الكثير مقابل التأمينات الصحية، ونتوقع من النظام الصحي أن يكون في المستوى.

وفي مطلع القرن العشرين، كان متوسط ​​العمر المتوقع يتراوح بين 45 و 50 عامًا، بينما هو اليوم فوق 80 عامًا، وفي الماضي ، كانت عوارض الحياة ، كالولادة وأمراض الطفولة ، تسبب وفاة أعداد كبيرة من الأشخاص ، وأيضًا كانت هناك أعداد كبيرة من الوفيات في سن قريبة من الخمسين ، وهي في الغالب وفاة قدرية ، ولذلك كانوا يعيشون وفكرة الموت لا تغادرهم.

ولا أقصد أنهم كانوا غير مبالين بالموت، نعم قد تحملوا وصبروا، ولكنهم كانوا في هلع فظيع نظرًا لهول المعاناة التي كان يتعرّض لها مريض الأنفلونزا الإسبانية قبل وفاته ، أما اليوم ، فنحن نتفاعل بشكل مختلف ، وردّ فعلنا أفدح في واقع مجتمعاتنا التي تنظر إلى الموت وكأنه من المحرمات.

ترفض شريحة من السكان التطعيم، بل وتعاديه، هل كان الحال دائمًا هكذا أم أنه ظاهرة جديدة؟

في البداية كان هناك بعض الإحجام ، فقد كانت اللقاحات الأولى في أوروبا تستهدف مكافحة مرض الجدري ، وهذا المرض فتاك وقد أودى بحياة عشرات الملايين على مر القرون ورغم افتقار طريقة التلقيح إلى أسس علمية قوية إلا أنها بنيت على تصورات سليمة  واستندت إلى فكرة إعطاء جرعة مخففة من المرض ، وتحديدًا من جدري البقر ، وقد أثبتت هذه الطريقة فاعليتها وتبيّن بأنها تحفّز جهاز المناعة ، فاُعتبر اللقاح معجزة في زمان لم تكن الفيروسات قد عُرِفت بعد ، وحتى القرن التاسع عشر لم تكن هذه الطريقة خالية من المخاطر وكانت الشجاعة ضرورية لمن يقدم على التطعيم.

بيد أن الأبحاث التي قام بها لويس باستور على لقاح داء الكلب أدت إلى مزيد من الوضوح ومهدت الطريق أمام علم المناعة الحديث، لولا الفشل الذي منيت به، في نفس الفترة، المحاولات الأولى لتطوير لقاح ضد السل التي قام بها روبرت كوخ في ألمانيا ، وأسفرت عن سقوط عدد من الوفيات وهكذا اتسم تاريخ التطعيم بالمخاطر والشكوك التي لا تزال مطبوعة في ذاكرتنا الجماعية.

ربما يكون هذا سبب صعوبة فرض إلزامية التطعيم..

في عام 1879، كانت المرة الوحيدة التي أدخلت فيها الحكومة السويسرية التطعيم الإلزامي بسنها لقانون الأوبئة الفيدرالي ، والذي تمّ إلغاؤه في استفتاء جرى في عام 1892 بعد رفضه من قبل 80٪ من الأصوات بسبب طبيعته الإلزامية بالدرجة الأولى.

وجرت أيضًا محاولات، على مستوى الكانتونات، لفرض التطعيم الإلزامي ، كما حصل في كانتون فريبورغ في 14 مايو 1872، ولكن سرعان ما ألغي الإجراء ، بسبب التردد الشديد الذي لم يسمح بتلقيح سوى نسبة طفيفة من السكان.

ويمكنني أن أفترض، إن جاز لي ذلك، بأن هذا الحدث هو بمثابة اللقاح الدائم الذي لا يجعل السلطات تفكّر بفرض التلقيح الإلزامي ، نظرًا لكونه ، على كل حال ، إجراءً طبيًا يستوجب موافقة المريض.

لكن للتطعيم أيضًا تاريخ من النجاحات المدوّية.

بعد الحرب العالمية الثانية، تم القضاء كليًا على شلل الأطفال والجدري، وتلك نجاحات غير عادية يجب النظر إليها في سياق تاريخي بلغ فيه الطب ذروته ، ومن الأمثلة أيضًا قيام الطبيب الجرّاح كريستيان برنارد في عام 1967 بأول عملية زراعة قلب ، لقد كانت حقبة حقق فيها الطب نصرًا مؤزرًا ، وساد اعتقاد بأن الطب قادر على معالجة سائر الأمراض ، وبلغت ثقة الناس بالطب أوجها.

ولكن في الثمانينيات تراجعت هذه الثقة مع ظهور وباء الإيدز الذي أعاد للذاكرة المدى المحدود للطب، وشهدنا، في تلك السنوات، عودة العلاجات التي توصف بأنها أكثر طبيعية ، ومثال ذلك دور رعاية الأمومة التي تعمل كمراكز توليد لتجنب الولادة في المستشفيات ، وترافق ذلك مع التشكيك باللقاحات من جانب أنصار العلاجات الطبيعية.

وهل أصبح، منذ ذلك الوقت أيضًا، قول الأطباء والسلطات الصحية مشكوك فيه؟

بالفعل، لغاية ثمانينيات القرن الماضي، عندما كان الأطباء يتكلّمون ، كان الجميع يسمعون ، وفي الستينيات ، لم يكن أحد يجرؤ على التشكيك عبر وسائل الإعلام بما يقوله الخبراء وأصحاب الاختصاص ، وبشكل عام ، لم يكن رأي السلطات موضع  خلاف على الإطلاق.

أما اليوم، فعلى ما يبدو، أنّ كل حقيقة علمية تخضع للقيل والقال وعرضة لتجاذب الآراء ، ونشاهد في حالة التطعيمات كيف أنها تُحجّم وتختزَل ببعض الأسئلة مثل: “هل تؤمن بفاعلية اللقاح؟” . بالتأكيد، إن عدم الاستسلام لكل ما يقال وأننا أصبحنا أكثر نقدًا وامعانًا للنظر أمر إيجابي، ولكن من المؤلم حقًا أن يكون في العلم حقائق ثابتة وواضحة ، وهناك مَن يُقحمون أنفسهم في نقاشات هم ليسوا أهلها ولا يملكون أدواتها.

اقرأ ايضاً

التلغراف تحاور الكاتبة سلوى رواش

شكرا للتعليق على الموضوع