عملية طوفان الأقصى – 7 أكتوبر 2023 وما بعدها (1-4)

ماهية إسرائيل؟  دورها؟  مصيرها؟

شوقي العيسة - فلسطين

تقرير: شوقي العيسة – فلسطين

لا يمكن فهم ما يجري الان ونتائجه القريبة والبعيدة، وما المطلوب فلسطينيا، دون فهم سياق القضية الفلسطينية والعوامل المؤثرة والمقررة في مسيرة الشعب الفلسطيني نحو التحرر والاستقلال.

الحركة الصهيونية واسرائيل

إسرائيل بطبيعتها الصهيونية تشكل جزأ هاما من المعسكر الامبريالي الاستعماري العالمي، وخاصة بالنسبة للولايات المتحدة الامريكية بكل ما يعني ذلك، فالولايات المتحدة التي تقود الامبريالية العالمية منذ الحرب العالمية الثانية وتهيمن على النظام العالمي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، والتي يقول خبراء الامن القومي لديها واخرهم بريجينسكي: انهم حين يعدون استراتيجياتهم، يعيشون قلق دائم، امام حقيقة انهم اول امبراطورية في التاريخ البشري تقود العالم، من خارج أوروبا واسيا. ودائما يطرحون على انفسهم سؤال: الى متى سيقبل العالم ذلك؟ لهذا هم دائما حريصون على إبقاء أوروبا في حاجتهم والنتيجة الثانية هنا وهي التي تهمنا: انهم يعتبرون إسرائيل اهم قاعدة لهم ويسمونها الحليف الاستراتيجي، لمواصلة هيمنتهم على الشرق الأوسط الهام في صراعهم العالمي مع الصين وروسيا وحتى مع أوروبا.

كيف ولماذا أصبحت إسرائيل كذلك؟!  

تشكلت الحركة الصهيونية العالمية في نهاية القرن التاسع عشر وترسخت وتبلورت في السنوات الأولى من القرن العشرين، وكان وراء تأسيسها مجموعة تمثل الطبقة البرجوازية اليهودية الأوروبية العلمانية وخاصة في أوروبا الغربية والتي كانت تبحث عن أداة لحماية مصالحها من خلال تأسيس كيان يتحول الى دولة تكون قاعدة لها لتحقيق أهدافها الاقتصادية ولاحقا السياسية (ورد في نص وعد بلفور لاحقا، انه لا ينتقص من الحقوق او الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد اخر) اضيف هذا النص من قبل اغنياء اليهود في أمريكا وبريطانيا، وعلى رأسهم اللورد ليونيل دي روتشيلد الذي وجه له وزير الخارجية البريطاني الوعد (قيادات الحركة الصهيونية من كبار الأغنياء شاركوا في كتابة نص الوعد).

السبب الرئيسي الذي دفعهم لذلك كان الانتشار الواسع للاسامية في أوروبا في تلك المرحلة، لكن صفة الجُبن التي يتسم بها الرأسمال دائما منعت انتشارها الواسع، فلجأ مفكروها الى استخدام فقراء اليهود وخاصة في أوروبا الشرقية لتوسيع حركتهم وتقويتها واستخدموا الدين والأوضاع المزرية التي عاشها اليهود في ذلك الوقت لاقناعهم وتأطيرهم واستخدامهم.

كان عليهم التنظير الى تحويل الدين الى قومية للنجاح في مهمتهم فركزوا على أهمية القدس وفلسطين كوطن لليهود، وبدأت الحركة في الاتساع، وفهم منظروها السياسيون ان عليهم التحالف مع قوى الامبريالية العالمية الاستعمارية ليحصلوا على دعمها، ونجحوا في ذلك واقاموا علاقات قوية خاصة مع بريطانيا. واتفقوا معها على إقامة الكيان في سيناء التي كانت تحت النفوذ البريطاني ولكن برزت عراقيل كثيرة فاقترحت عليهم بريطانيا منطقة في افريقيا يؤسسوا فيها كيان حكم ذاتي تحت السيادة البريطانية.

في ذلك الوقت كانت الحركة الصهيونية لا تزال غير متجانسة.  لدرجة انهم في العشر سنوات الأولى من عمر الحركة لم يستطيعوا الاتفاق على لغة تكون لغتهم الرسمية. وكانت قيادتها البرجوازية تطغى لديهم الأهداف الاقتصادية على الأهداف الأخرى بينما اغلبية الأعضاء وخاصة من أوروبا الشرقية تطغى أهدافهم الدينية والقومية فرفضوا الاقتراح البريطاني في الوقت الذي وافقت عليه قيادة الحركة من البرجوازيين بقيادة هيرتزل.

عقدوا مؤتمرا للحركة في عام 1903 لاتخاذ القرار حول مكان إقامة الدولة اليهودية، في ذلك المؤتمر كانت الأغلبية الرافضة للاقتراح البريطاني تعي انها بحاجة للأقلية التي تمثل البرجوازية، وتقود الحركة وتُعتبر الضامن لدعم القوى الامبريالية العالمية لحركتهم. فلجأ المؤتمر الى حل وسط وهو الموافقة على ارسال بعثة الى افريقيا لدراسة المنطقة المقترحة، وتقديم تقريرها الى المؤتمر القادم. بُعيد ذلك المؤتمر مات هيرتزل وضعفت كتلته في الحركة الصهيونية وسقط اقتراح افريقيا.

الحركة الصهيونية منذ بدايتها تنبهت الى مسألة نظرية فلسفية هامة، مرتبطة بشكل الدول المعاصرة الرأسمالية، التي تكون العلاقة فيها بين حكومة ومواطنين، يحكمها القانون بكل ما يعنيه ذلك. وما يفرقه عن شكل الدولة في عصور سابقة. حيث كانت العلاقة بين سادة وعبيد او اقطاعيين واقنان (الدول العربية لا تعي ذلك حتى الان) لذلك اقرت في نظامها الداخلي منذ المؤتمر الثاني، ان اي عضو في المؤتمر يجب ان يكون منتخبا من اليهود الصهاينة في منطقة سكناه. بل وسبقوا اوروبا في اعطاء المرأة الحق الكامل في الترشح والتصويت.

قبيل الحرب العالمية الاولى ترسخت الحركة وقويت بنيتها الداخلية، واعتمدت البرغماتية في العمل السياسي وتغلغلت في اوساط اليهود الأغنياء في الولايات المتحدة. وازداد الدعم المالي لها منهم، ووضعت خطط محكمة لعملها في كل المجالات، وركزت على التحالف مع القوى الاستعمارية واستفادت من تغلغل اغنيائها في هذه الدول. وثبتت ان هدفها إقامة الدولة في فلسطين.

بدأت توسيع حجم هجرة اليهود الى فلسطين بمساعدة الدول الأوروبية، والى جانب تركيزها على التحالف القوي مع الدول الاستعمارية حرصت على وجود علاقات لها مع الجميع. خاصة ان اليهود الفقراء الذين كانوا يتعرضون للاضطهاد و(البغرومز) كانوا قريبون من الأفكار الاشتراكية والماركسية، فاستفادت الحركة الصهيونية من ذلك أيضا.

بعد الحرب العالمية الأولى وهيمنة الاستعمار الأوروبي على المنطقة العربية. وتقسيمها الى دويلات تابعة لهم. كان واضحا لدول الاستعمار ان عالم ما بعد الحرب لن يقبل استمرار الاستعمار المباشر. وان عليهم البحث عن اشكال جديدة من الاستعمار غير المباشر. وهنا أصبحت فكرة انشاء دولة للحركة الصهيونية في فلسطين تشكل حجر الزاوية في مخططات الاستعمار الأوروبي، وخاصة البريطاني والفرنسي. لمواصلة هيمنتهم على منطقة الشرق الأوسط، خاصة وان حكومات عربية تابعة لهم في هذه المنطقة غير مضمونة الاستمرار الى ما لا نهاية. بينما دولة صهيونية في فلسطين لن يكون امامها خيار سوى ان تبقى في خندق الاستعمار الامبريالي لان وجودها بحد ذاته مرتبط بتبعيتها لهم.

بين الحربين العالميتين عملت بريطانيا مع الحركة الصهيونية بكل ما تستطيع على تحقيق الهدف، بإنشاء دولة صهيونية في كل فلسطين وليس جزأ منها. ووضعت العصابات الصهيونية الخطط للتطهير العرقي للشعب الفلسطيني من خلال القيام بجرائم إبادة جزئية لتحقيق ذلك، واستفادت من موجات الهجرة الجماعية التي حدثت بسبب الهولوكوست اثناء وبعد الحرب العالمية.

بعد الحرب العالمية الثانية انضمت لهم الولايات المتحدة، التي كانت تحث الخطى لتصبح قوة عظمى ممتدة النفوذ في النظام العالمي بعد الحرب. وكذلك انضم الاتحاد السوفياتي الذي كان يطمح لنفوذ في الشرق الأوسط، وكان يعتبر الحكومات العربية تابعة للاستعمار الغربي، وان بإمكانه منافسة أوروبا وامريكا على كسب ولاء الدولة الصهيونية التي في طور التشكل.

مع اقتراب الحسم وبسبب ثورة الفلسطينيين 1936- 1939 تولدت قناعة لدى الدول الاستعمارية ان التطهير العرقي لكل الشعب الفلسطيني وتهجيره الى خارج فلسطين غير ممكن التطبيق. فلجأوا امام اصرارهم على تأسيس الدولة الصهيونية، الى مشروع تقسيم فلسطين وتأسيس الدولة الصهيونية على الجزء الأكبر، ومنع تأسيس الدولة الفلسطينية على الباقي. وبتواطؤ من الأنظمة العربية المحيطة وهذا ما حدث.

الحركة الصهيونية لم تقتنع يوما بإقامة دولتها على جزء من فلسطين فقط.  لذلك جاءت موافقتها على قرار التقسيم كتكتيك مؤقت. بعد تأسيسها وفي اول اجتماع لأول حكومة لدولة إسرائيل، ناقشت إمكانية احتلال باقي مساحة فلسطين وصوّت نصف أعضاء الحكومة مع استكمال احتلال باقي فلسطين، الا ان بن غوريون رئيس الحكومة صوت ضد القرار، وفسر تصويته بان الوضع الدولي والإقليمي لا يسمح بذلك الان. ولكن سنقوم بذلك لاحقا عندما تنضج الظروف، في كل الأحوال فالحركة الصهيونية لم تنفذ قرار التقسيم الذي صدر عن الأمم المتحدة والذي كان يعطيها 55% من مساحة فلسطين وبدون القدس. بل احتلت وضمت لدولتها 23% من مساحة فلسطين بما في ذلك قسم من القدس الذي أصبح يعرف باسم القدس الغربية.

وقتذاك في عام النكبة لم تكن هناك اية إمكانية لدى الشعب الفلسطيني لمنع تأسيس إسرائيل، فقد كان رازحا تحت الاحتلال البريطاني، وكان في مواجهته كل دول الاستعمار الأوروبي والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وبتواطؤ من الأنظمة العربية المجاورة. بالإضافة الى الحركة الصهيونية التي كان لديها 95 الف مقاتل مدرب ومسلح جيدا، وكثيرون منهم لديهم خبرات عسكرية، نتيجة مشاركتهم في حروب أوروبا بما في ذلك الحرب العالمية الثانية، في حين كانت المقاومة الفلسطينية حوالي 15 الف بدون سلاح كافي، وبدون خبرات قتالية او تدريب للكثيرين منهم. والجيوش العربية التي لم يزد عدد المشاركين منها عن ثلاثين الفا وكانت قياداتها اما بريطانية او أنظمة تابعة لها.

كثيرا ما يتم الحديث عن التشابه بين إسرائيل وامريكا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا) وأستراليا في طريقة التأسيس، ولكن الشبه ينحصر في الجرائم التي ارتكبت ضد السكان الأصليين، اما الاختلافات فهي كثيرة ومنها:

المرحلة الزمنية: حيث ان ما حدث في أمريكا الشمالية كان في قرون سابقة ومعايير نظام عالمي مختلفة عن القرن العشرين.

الجغرافيا: من حيث ان أمريكا الشمالية وأستراليا وقتذاك كانتا قارتين بعيدتين عن قلب العالم ونائيتين. اضافة الى المساحة الشاسعة لكلتيهما ونسبة السكان الأصليين الى المساحة.

لم يكن هناك ارتباط او علاقات بين السكان الأصليين هناك مع باقي شعوب العالم كما هو حال الشعب الفلسطيني الذي هو جزء من الامة العربية.

اما التشبيه باحتلال فرنسا للجزائر، فهو أيضا يكمن في الجرائم المرتكبة. في حين ان اهم اختلاف هو ان فرنسا دولة قائمة منذ ازمنة طويلة وليس كالحركة الصهيونية التي لم تكن شعبا ولم يكن لها دولة.

وأخيرا التشبيه مع جنوب افريقيا، وهو أقرب تشبيه، الا ان الفرق الكبير والهام هو ان جنوب افريقيا العنصرية لم تكن يوما بأهمية إسرائيل للنظام الرأسمالي الامبريالي كقاعدة تابعة كليا له.   

بعد تأسيس إسرائيل

انسحب الاتحاد السوفياتي من دعمها، وفهم ان رهانه على ان تكون تابعة او صديقة له لم يكن مبنيا على أي أساس صحيح.  وأنها تابعة بشكل كامل للاستعمار الغربي.

بعد التأسيس ترسخت لدى الحركة الصهيونية قناعة بأن نجاحها وبقائها مرتبط بعدة عوامل.

استمرار هجرة اليهود اليها وتوسيعه بشكل كبير.

تأمين اقتصاد قوي ورخاء وامن واستقرار لمنع الهجرة المعاكسة.

بناء جيش قوي ومتفوق على جيوش المنطقة يعطي الامن لمواطنيها ويمنع مهاجمتها.

الضغط الشديد على من تبقى من الفلسطينيين داخل حدودها واستمرار العمل على تهجيرهم.

توسيع حدودها باحتلال باقي فلسطين.

الولاء التام والتبعية لقوى الاستعمار الغربي وتنفيذ سياستهم في المنطقة.

نجحت إسرائيل في تحقيق هذه الأهداف، التي تمثل عوامل نجاحها واستمرارها. باستثناء تهجير الفلسطينيين الذين بقوا في ارضهم رغم كل ما مارسته ضدهم وهذا الاستثناء له أهميته في المراحل اللاحقة.

سنوات قليلة بعد تأسيس إسرائيل بدأت سلسلة من الانقلابات العسكرية في بعض الدول العربية. التي بدأت تخرج عن التبعية للمعسكر الامبريالي النيوكولونيالي. مما عزز قناعة هذا المعسكر بأن وجود إسرائيل قوية ومستقرة هو ضمانة رئيسية لمصالحه، وبدأت تزداد أنشطة الولايات المتحدة التي أصبحت تعتبر نفسها القوة العظمى التي تقود الامبريالية العالمية. وبدأ بالترافق مع ذلك يزداد اهتمامها ودعمها لإسرائيل، خاصة وان التنافس والصراع مع الاتحاد السوفياتي ازدادت حدته في المنطقة، كون بعض الدول العربية التي خرجت من تحت عباءة التبعية للاستعمار الغربي بدأت تقيم علاقات تحالف معه.

من الجدير بالذكر هنا حول فترة الخمسينيات وما بعدها، ان الدول العربية كانت (ولا تزال) تفتقر الى وجود مدرسة سياسية عربية (أي منظومة من الأنماط في التخطيط والعمل السياسي)، وجود هكذا مدرسة يكون نتيجة لتراكمات من الخبرة والعمل ضمن استراتيجية الحفاظ على الامن القومي والمصالح، فهناك المدرسة الصينية والروسية والأمريكية والأوروبية وغيرها.

العرب كانوا قد استقلوا حديثا عن الاستعمار الأوروبي. وقبله كانوا لعدة قرون تحت الاحتلال التركي العثماني، هذا الانقطاع أدى لغياب مدرسة سياسية عربية تميز العرب، ومن الدلائل على ذلك ان هذه الدول التي شكلها الاستعمار الأوروبي، باتفاقية سايكس بيكو، لم تقم بعد استقلالها بإلغاء نتائج تلك الاتفاقية. ولا حتي تأسيس كونفدرالية او فدرالية لبلاد الشام لتحمي امنها القومي، الذي تهدده إسرائيل وقوى الاستعمار التي تعتبرها قاعدة قوية متقدمة لها، في حين أن إسرائيل ثبتت وجودها وبدأت تستقر وتقوى في ظل تزايد الدعم الامبريالي لها في كل المجالات. إضافة الى توسع نفوذ الحركة الصهيونية العالمية.

هذا كله جعلها تبدأ في عام 1963 بالتخطيط لاستكمال احتلالها لباقي فلسطين، وهذا ما فعلته في عام 1967 حيث حققت نصرا ساحقا على الدول العربية المجاورة في زمن قياسي. واحتلت إضافة لفلسطين أجزاء واسعة من الدول العربية. وأثبتت للدول الامبريالية بانها قادرة على حماية مصالحه وهيمنته على الشرق الأوسط. مما حدا بالولايات المتحدة الى مضاعفة دعمها لإسرائيل اضعافا، واعتبارها قاعدة متقدمة وثابتة يمكنها الاعتماد عليها باطمئنان، وضمنت لها الحماية السياسية والدبلوماسية والقانونية والتفوق العسكري الدائم.

وكل ذلك أدى الى زيادة هجرة اليهود اليها.

تابعونــــــــــــــــــــــــــا

اقرأ ايضاً

أسامة العيسة يكتب: في بيتنا جاسوس!

شكرا للتعليق على الموضوع