مصطفي جودة يكتب: السقطات العنصرية الكبرى

أ.د: مصطفي جودة

رئيس الجامعة البريطانية بالقاهرة – سابقا.

توماس فريدمان صحفى وكاتب أمريكى مرموق يعمل فى صحيفة «نيويورك تايمز» وله سمعة عالمية مؤثرة، وله العديد من الكتب التى نالت جوائز عالمية وترجمت للعديد من اللغات الى جانب أنه يحظى بمكانة مقربة وثقة من العديد من الرؤساء الأمريكيين الذين يختصونه بأحاديث تصنع أحداثا عالمية ومحلية بالداخل الأمريكي، إضافة الى أنه على اتصال بالعديد من الساسة الأمريكيين وصناع القرار الذين يتقربون إليه زلفى ويمدونه بمعلومات سرية مسربة عن كثير من الأمور تمكنه من السبق الصحفى ومن صنع الأحداث على مستوى العالم وبالداخل الأمريكي.

 بتاريخ 2 فبراير 2024، نشرت له صحيفة «نيويورك تايمز» مقالا بعنوان: «محاولة لفهم الشرق الأوسط من خلال مملكة الحيوان»، وفيها سقط سقطته الكبرى والتى كشفت عن عنصرية كريهة واضحة ودفينة فى تركيبته الأساسية التى حاول إخفاءها عبر حياته كلها ليبدو متزنا ومحايدا. قال فيها: «أحيانا أفكر فى العلاقات المعقدة فى أطراف الصراع فى الشرق الأوسط مقارنة بما يحدث فى عالم الحيوان.

فى هذا العالم أمريكا تشبه الأسد العجوز الذى مازال هو ملك غابة الشرق الأوسط وأنه مازال أقوى الجميع رغم أنه مثخن بالجراح. أمريكا تزأر وتتوقع من الجميع أن يفعل ما تريد وتأمر، وفى النهاية نحن الأمريكيين أسد متعب، وهو الأمر الذى يجعل من بقية الحيوانات المفترسة ندا وغير خائفة من اختبارنا.

 أما الحرس الثورى الإيرانى فمثله مثل الدبور فى هذه الغابة. ومثل اليمنيين والعراقيين والسوريين واللبنانيين كمثل دودة الفراشة التى يقوم الدبور فيها بلدغها وتخديرها ويترك فيها بويضاته، ومثل تلك البويضات مثل حماس والحوثيين وحزب الله والتى تفقس بداخل دودة الفراشة وتأكلها من الداخل. المشكلة تكمن فى أننا لو حاولنا قتل الدبور فإننا سنشعل النار فى الغابة كلها.

ومثل نيتانياهو مثل حيوان الليمور وهو الحيوان الذى يتخذ من الغابات الجافة بمدغشقر موطنا له ويتحرك بتبديل جنبيه ليتمكن من الحركة. نيتانياهو يتحرك مثله فى أنه يغير جنبيه فى تصرفاته دون أن يتحرك للأمام أو للخلف ليبقى فى السلطة أطول وقت ممكن». من الواضح الجلى أن توماس فريدمان سمع عن كليلة ودمنة دون أن يقرأها ليبهر القارئ بحكمته ورقيه من خلال استخدامه للحيوانات كأمثلة. يبدو أنه فعل ذلك لأنه درس العربية فى فصل دراسى متنقلا فيه بين الجامعة الأمريكية بالقاهرة والجامعة العبرية بإسرائيل. طبعا إتقان العربية يحتاج سنوات طوال مثلما يحتاج دارس اللغة الإنجليزية سنوات طوال ليفهم آدابها.

 لأنه لو قرأ «كليلة ودمنة» بتمعن لعرف أنه كتاب حكمة كان أصلا باللغة السنسكرتية ثم ترجم الى الفارسية ثم قام ابن المقفع بتعريبه وتسميته «كليلة ودمنة» وأنه عبارة عن حكم أجراها المؤلف على ألسنة الحيوانات من خلال قصص رمزية على ألسنة الحيوانات تهدف الى القيم الأخلاقية والإصلاحية. الكتاب مختلف عما كتبه توماس فريدمان فهو لا يحوى تسميات وإيحاءات عنصرية مثلما أورد فى مقاله الذى عرف لنا فيه أمريكا بأنها من فصيل الأسود. أما إيران فهى فصيل الدبور الذى هو من فصيل الحشرات والحوثيين وحماس وحزب الله من فصيل الديدان. حتى نيتانياهو، الذى كما هو معلوم ليس من الشخصيات المفضلة لدى السيد فريدمان وضعه فى مرتبة فصيلة حيوانية أقل من الأسود. تفسير كتابات توماس فريدمان لا يفهم إلا من خلال مراجعة كتاب « من بيروت الى القدس» لتوماس فريدمان والتى قام بها إدوارد سعيد عام 1989. ملخص تلك المراجعة يفسر ويشرح لنا فكر وطريقة توماس فريدمان وحقيقته. يصف سعيد الكتاب بأنه كتاب المؤلف الخبير الذى يوهمنا بأنه يعرف كل شيء عن الشرق الأوسط، وبالتالى جاء الكتاب وكأنه يحوى نظرية سياسية قوامها الأساسى أن كلا من أمريكا وإسرائيل تملكان القوة والتنوير اللذين يمكناهما من وضع المقاييس للعالم العربى المتخلف، وأنه يتعين على العرب أخذ الحكمة منهما، وأنه بإمكان الجميع أخذ نصائحه التى أوردها فى الكتاب، وبالتالى خرج الكتاب كمحاولة تسويق إستراتيجية من المؤلف وكأنه حكيم فى السياسة الدولية. تحققت نبوءة إدوارد سعيد تلك وحقق الكتاب، الجوائز الدولية ورسخ الأسطورة الأمريكية والإسرائيلية وانعدام الرؤية عند العرب وبقية دول الشرق الأوسط وأنهم أجناس وضيعة.

لم تسلم مصر من عنصرية توماس فريدمان، حيث وصفها فى كتاب آخر بعنوان: «شكرا على تأخرك: دليل المتفائل لتحقيق الازدهار فى عصر التسارع» والذى تم طبعه فى 22 نوفمبر 2016، بقوله: «مصربلد يعيش نصف سكانه على دولارين فى اليوم ويبلغ معدل البطالة فيه أكثر من 12%، وغالبية الشباب فيه لا تعمل, فجأة تجد مصر أنها تتنافس فى عالم يمكن لدولة ما تقع فى النصف الآخر من العالم أن تصنع منفضة سجائر والتمكن بعد ذلك من شحن ذلك المنتج عبر القارات بطريقة مربحة وأكثر كفاءة من المصريين».

هذا كلام لا يقوله إلا شخص شديد العنصرية عن بلد عظيم يوجد منه أكثر من ألف أستاذ مصرى يعملون فى جامعات الساحل الشرقى للولايات المتحدة فقط، وكلهم كانوا خريجين للجامعات المصرية ثم نالوا منح تفوق والتحقوا بجامعات أفضل من الجامعة التى تعلم فيها توماس فريدمان نفسه. ليس هناك تشخيص للسيد توماس فريدمان أفضل من كلمات إدوارد سعيد عنه: إنه يقدم نفسه على أنه أكبر من صحفى وأن كتبه تزيد عن كونها توثيقا شخصيا وأننا كلما شاهدنا التليفزيون فى كل البرامج المناسبة نجده خبيرا كبيرا فى كل شيء، ونجده واضح العدوانية وبالتالى فهو لا يستحق الاهتمام.

gate.ahram

اقرأ للكاتب

مصطفي جودة يكتب: السقطات العنصرية الكبرى

شكرا للتعليق على الموضوع