مصطفى جودة يكتب: الفيتو الأخير والسلاح الخطير

أ.د: مصطفي جودة
رئيس الجامعة البريطانية بالقاهرة – سابقا

«تسليم أهالى»، هو قول مصرى مأثور يعنى أن شخصا وجد متلبسا بارتكاب جريمة فقام الأهالى بتسليمه للعدالة لتأخذ مجراها. من شدة حب المصريين لذلك القول صنعوا عنه فيلما كوميديا اسمه تسليم أهالى، فى عام 2022. يمكن إدراك أن ذلك القول قابل للاستخدام عالميا ليلخص كثيرا من مجريات الأحداث التى نشهدها.

مثلا يمكن استخدامه أن الرئيس بايدن سلم المرشح الجمهورى دونالد ترامب الفوز بالرئاسة تسليم أهالى. هذا الاستنتاج هو ما قالته السيدة نانسى بولوسى الرئيس الأسبق لمجلس النواب الأمريكى والسياسية المخضرمة فى الحزب الديمقراطى. قالت عقب إعلان الفوز الكاسح للمرشح ترامب على المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس إن خسارة الحزب الديمقراطى مردها الرئيس بايدن الذى رفض عقب إصرار قيادات الحزب ضرورة تنحيه عقب أدائه الكارثى فى أول مناظرة مع المرشح الجمهورى دونالد ترامب وعقب إدراك الجميع أنه لن يفوز بالانتخابات الرئاسية وأنه يتعين أن تكون هناك عملية اختيار مفتوحة أمام مؤتمر الحزب الديمقراطى ليختار منها مرشحا مقبولا من الناخبين يكون قادرا على الفوز على ترامب.

أغضب ذلك الأمر الرئيس بايدن فيما يبدو وملأه مرارة ورفض ذلك الطلب وأصر على أن تكون نائبته كامالا هاريس هى المرشحة البديلة. كانت بولوسى مثل غيرها تدرك أن كامالا هاريس لا تملك الكاريزما والزعامة المقنعة للشعب الأمريكى لينتخبها، وأنها جاءت بالصدفة المحضة لتكون نائبة للرئيس بايدن عام 2020. ليس الأمر سرا أن كامالا هاريس اشتركت فى الانتخابات الأولية للحزب الديمقراطى للإنتخابات الرئاسية لعام 2020، والتى شارك فيها عدد غفير من المرشحين.

عندما بدأت الانتخابات المبدئية لم تستطع كامالا هاريس الفوز بصوت انتخابى واحد فكانت أول المنسحبين والذين بلغ عددهم حينها 27 مرشحا. هذا هو تفسير ما قالته فى غضب السيدة نانسى بولوسى وغيرها، والتى ألقت بفشل الحزب الديمقراطى فى الانتخابات الأخيرة على اختيار بايدن. لم يقتصر ذلك الفشل على خسارة الانتخابات الرئاسية ولكنه شمل خسارة الأغلبية فى مجلس النواب ومجلس الشيوخ وحكام الولايات وهو الأمر الذى سيطلق يد الرئيس المنتخب ترامب ليفعل ما يشاء وبدون معارضة تقريبا لتنفيذ أجندته. لم تتوقف عملية «تسليم الأهالى»، للرئيس بايدن على التسبب فى الخسارة الفادحة للحزب الديمقراطى، وكأن الرجل يود أن يشفى غليله ومرارته من الحزب الذى أجبره على التنحى والذى طلب منه بقسوة أن يتنازل عن مسعاه فى الانتخابات الرئاسية لفترة ثانية كان يتمناها هو وأسرته، فاضطر مكرها للتنازل، غير أنه أسرها فى نفسه ولم يجعل اختياره لمصلحة الحزب ولم يستمع لنصائح قيادات الحزب. لم يتوقف الأمرعند هذا الحد، لكنه يود الانتقام من الكثيرين بأخذ قرارات غريبة قبل عملية تنصيب الرئيس الجديد وهى مرحلة تعرف بمرحلة «البطة العرجاء» فى السياسة الأمريكية لتعنى أن الرئيس الخاسر يبقى فى البيت الأبيض ولا يتخذ قرارات مؤثرة قد تعيق أداء الرئيس الجديد الذى يتم تنصيبه فى العشرين من يناير القادم، وكل ما يفعله الرئيس الخاسر وإدارته هو تسليم الأمور فى سلاسة خلال تلك المدة، وبالتالى لا يتخذ قرارات مصيرية ومهمة. يبدو أن جرح الانسحاب من الانتخابات للرئيس بايدن لم يندمل بعد وأنه لا يريد تسليم الراية بهدوء كما يقتضى العرف الأمريكى، فاتخذ قرارين خطيرين وكأنه بهما يريد تسليم المشكلات للرئيس المنتخب، «تسليم أهالى».

القرار الأول حدث فى يوم الأحد 17 نوفمبر، 2024، وفيه وافق فجأة على قرار كان يرفضه من قبل وهو طلب الرئيس الأوكرانى ليسمح له باستخدام صواريخ أمريكية يبلغ مداها 300 كيلومتر ليضرب بها العمق الروسى وليحدث بها أكبر خسائر تؤدى على حد قوله الى تقوية مركز أوكرانيا التفاوضى، وتهدف أيضا الى إضعاف مركز الرئيس بوتين وتغير من موازين الحرب.

لم يكذب الرئيس الأوكرانى الخبر وأطلق على الفور 6 من تلك الصواريخ على العمق الروسى بعد الموافقة الأمريكية مباشرة، تم اعتراض خمسة منها كما ذكر السيد وزير الخارجية الروسى.

لم يقف بوتين موقف المتفرج عقب قرار الرئيس بايدن فقرر على الفور الاستعداد لاستخدام الأسلحة النووية كحق للدفاع عن نفسه ومصالح روسيا أمام الخطوة الأمريكية والمتوقع لها أن تحدث كثيرا من الدمار. لو حدث ذلك فإنه قد تنشب حرب عالمية ثالثة مثلما صرح الابن الأكبر للرئيس ترامب.

أثار اتخاذ هذا القرار الكثير من الزوابع محليا ودوليا ولدى فريق الرئيس المنتخب دونالد ترامب الذى أدرك أن الرئيس بايدن خلق له بذلك القرار مغرزا ليربك بداية حكمه لأنه قرار يترك عبئا ثقيلا لإدارته لتتعامل معه وحتما سيعرقلها بدرجة مخيفة.

لم يتوقف الرئيس بايدن عند ذلك الأمر، ولكن إدارته قامت يوم الأربعاء 20 نوفمبر باستخدام حق الفيتو وعرقلت مشروع قرار هدنة لوقف إطلاق النار فورا فى غزة نتيجة تردى الأوضاع بدرجة مخيفة ونتيجة تجاوز إسرائيل كل القوانين والأعراف الدولية. صوت الجميع على هذا القرار عدا الولايات المتحدة. كان هذا قرارا قاسيا، وكأنه بذلك يود أن يطلق يد السيد نيتانياهو ليجهز على البقية الباقية من الفلسطينيين فى غزة ولتصبح بعدها خاوية على عروشها ولتتم عملية التطهير العرقى التى تعرف بخطة الجنرالات الإسرائيليين التى تهدف إلى تغيير الواقع من خلال التطهير ثم تتلوها عملية استيطان جديدة. وكأن الرجل يود تحقيق حلم نيتانياهو بإحراز ما سماه النصر الكامل. بتلك الفعلةلا يريد الرجل الرحيل دون استكمال الجريمة لأنه كما قال عن نفسه إنه صهيونى عتيق. وكأن الرجل يود أن يقول: «على وعلى كل البشرية».

gate.ahram
اقرأ للكاتب

مصطفى جودة يكتب: جبرتى الاغتيالات الإسرائيلية «3-3»

شكرا للتعليق على الموضوع