الرجل الليلكي “قصة قصيرة”

كان لونه ليلكياً. حالة غريبة ونادرة، لكنه كان كذلك. الحي الذي كان يسكن فيه عند أطراف المدينة، سُمِّي فيما بعد على اسمه .

طوله عادي، وصوته عادي، لكن لونه هو الذي يلفت الأنظار. كانت أمه تتجنَّب الاختلاط بأبناء الحي ، بعدما سمعت إحدى النساء تدعو ابنها مسخاً . وعندما ماتت الأم عاش الرجل الليلكي في عزلة تامة. خاف الكثيرون أن يكون لونه معدياً ، فتجنَّبوا ملامسته . إخوته كانوا يعيشون في مناطق بعيدة ، ولم يتردَّدوا كثيراً على الحي . ولم يكن أحد يعرف حتى ما هو عمله .

كنتُ أراه كل صباح يهرول فوق الرصيف العريض المجاور لبيتنا. كدت أقسم أنه يتصبَّب عرقاً ليلكياً، لكنني استنتجت فيما بعد أن لون الجلد هو الذي ينعكس على قطرات العرق المتصببة من وجهه.

كنت أجهل اسمه لأن الجميع يشيرون إليه بصفة ” الليلكي “. ولما أصبحت في العاشرة ، سألت أبي مرَّة عنه :

– ” ما اسم الرجل الذي يهرول كل صباح فوق الرصيف المجاور “.

– ” أيَّ واحد تعني ؟”.

– ” صاحب اللون الغريب “.

– ” الليلكي تقصد؟ إنه من عائلة فهد ، لكنني أجهل اسمه الأول . لماذا تسأل ؟”.

– ” لماذا هو بهذا اللون ؟ هل لديه مرض معين ؟”.

– ” أظن أنه مرض جلدي “.

– “ولماذا يتجنبه أهل الحي ؟”.

– ” لأنه ليس من الحي أساساً “.

– ” ونحن كذلك لسنا من الحي . ألم تقل لي إننا كنا نسكن في الجنوب عند ولادتي ؟”.

– ” أجل ، لكن الليلكي غريب في كل شيء “.

– ” ألا يتناول طعاماً؟”.

– ” بلى ، أظن ذلك “.

– ” هل تعرف ماذا يعمل ؟”.

– ” لا “.

– ” من هو والده ؟”.

– ” لا أعرف . عندما جئت إلى الحي كان والده قد توفي “.

– ” هل هو لطيف؟”.

– ” لا أعرف . لم أكلمه يوماً “.

– ” ألا تقول له صباح الخير ؟”.

– ” أشير برأسي أحياناً عندما أمر بقربه “.

– ” ألا تنظر إلى وجهه ؟”.

– ” قليلاً ما أفعل ذلك “.

– ” لماذا ؟”.

– ” حتى لا أحرجه. تعرف، لونه غريب، وقد تكون لديه عقد نفسية وإحساس بالكره”.

-” الكره؟ هل يكرهك ؟”.

– ” لا أقصد أنه يكرهني شخصياً، ولكن أظن أنه يكره جميع أبناء الحي”.

– ” كيف عرفوا ذلك ؟”.

– ” هو لا يكلم أحداً “.

– ” هل كلمته مرة ولم يجب ؟”.

– ” لا ، لم أفعل . أعرف أنه غريب “.

في أحد الأيام ، شاهدت رجال الشرطة يقتادون الرجل الليلكي مكبلاً ، ويدفعونه دفعاً إلى داخل الشاحنة العسكرية . التمَّ أهالي الحي حول المشهد ، وراحوا يرشقون الليلكي باللعنات . وصرخ أحدهم في وجهه:

– ” لم تكن تنقصنا إلا مغامراتك العاطفية أيها الأجرب “.

وعرفت أيضاً أنهم اقتادوا امرأة من الطرف الشرقي للحي . وانكشفت القصة كاملة خلال ساعات .

المرأة هي السيدة ليلى المعروفة بـ ” أم فادي ” . لديها ثلاثة أولاد، وأنجبت منذ أيام طفلاً رابعاً … لونه ليلكي ! ضربها زوجها بعنف حين شاهد طفله العجيب، ولم يكن لديه إلا تفسير واحد لما حصل. خانته زوجته مع الليلكي .

هل يعقل ؟ كيف حصل ذلك ؟ متى ؟ لماذا ؟

كان الزوج مصعوقاً من الحادث، وعرف أن أبناء الحي سيشيرون عليه بتهكم فظيع .

لجأ إلى الشرطة منهوكاً ، وكان ما كان.

بعد أيام قليلة ، شاهدت الرجل الليلكي يسير ببطء باتجاه منـزله . ثم لم اعد أراه أبداً . لقد رحل عن الحي ، قيل لي ، وانقطعت أخباره .

عرفت أنه خرج من السجن بريئاً. أكد تقرير الطبيب أن الليلكي لا يمكن أن يكون والد الطفل . مرضه الجلدي ليس وراثياً، وفئة الدم مختلفة، و… لا أعرف الحجج الأخرى .

وكانت المفاجأة الثانية ، بعد شهرين .امرأة أخرى في الحي أنجبت طفلاً … ليلكياً ، ثم امرأة ثالثة ، ورابعة ، وخامسة .

– ” لقد حلت الكارثة “، قال أحدهم .

– ” ربما تلوث الجو من أنفاس الليلكي ، وأصيب أطفالنا بالمرض “، قال آخر.

– ” قد يكون لعننا قبل أن يرحل “.

… وتحول الحي في فترة قصيرة إلى ساحة جنون وفوضى . اجتاحه الأطفال الليلكيون كغيوم سوداء تنذر بالعواصف. ولم يعد هناك أي تفسير مقنع لما يحصل .

لكنني سمعت أحد كبار السن يتمتم كلما مررت أمامه :

– ” لقد نظرنا كثيراً إلى الرجل الليلكي. هذه هي المأساة . لقد نظرنا إليه كثيراً ! “.

لاحظ مرة أنني أصغي إلى تمتماته ، فتابع :

– ” لقد نسينا أنفسنا ونحن نحدق بالليلكي كلما مرَّ من أمامنا. ما عاد أحد ينظر إلى الداخل ليعرف نفسه. لقد أحببنا وجوده بيننا، لأن لونه أعمى عيون الجميع، فتلهوا بغرابة هذا اللون عن حقيقتهم. كان يكفي لأحدهم أن يوجه التحية إلى الليلكي لتنكشف عورات الجميع .

“اليوم تبيَّن أن الليكي هو في داخلنا”.

لم أفهم تفسير العجوز، ولكنني شعرت أنه على حق. فركضت خلف أحد الأطفال الليلكيين ، وقدَّمت له قطعة من الحلوى.

الكاتب والاديب سمير فرحات
الكاتب والاديب سمير فرحات

لبنان

اقرأ للكاتب

وجوه الموت “قصة قصيرة”

شكرا للتعليق على الموضوع

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *