يحي قلاش يكتب : الإعلام المصرى بعد 25 يناير و30 يونيو

حرية الرأى والتعبير هى أحد العناوين المهمة فى ملف الحريات العامة التى تتحلى بها المجتمعات الديمقراطية، ولذلك يطلقون عليها أواسط عقد الحريات. وحرية الصحافة والإعلام ومقدار احترامها وإحاطتها بالضمانات فى أى مجتمع هى المقياس الرئيسى لما يتمتع به من حرية التعبير.

ولذلك من الطبيعى أن تساند هذه الحرية من كل القوى الحية فى المجتمع وأن يتجاوز الدفاع عنها ورفض أى انتهاكات يتعرض لها بعض العاملين فى مهن تتعلق بالصحافة والإعلام.

وإذا أردنا أن نتناول هذه القضية بعد 25 يناير و30 يونيو، فإنه من المهم أن نشير أولا إلى أن جماهير الشعب المصرى قد انتفضت فى مظاهرة حاشدة عام 1909 دفاعا عن حرية الصحافة ورفض القيود عليها، وأننا نعتز بأن مصر أنجبت محمود عزمى أحد القادة الدوليين فى التأصيل لحرية الرأى والتعبير وحرية الصحافة والحق فى المعرفة والحصول على المعلومات وأحد 18 شخصية دولية أسهمت فى صياغة أفكار ومناقشات لجان الإعلان العالمى لحقوق الإنسان الذى خرج عن الجمعية العامة للأمم المتحدة فى دورتها الثالثة التى عقدت فى خريف 1948، والذى تقدم أيضا للأمم المتحدة بأول ميثاق شرف صحفى عام 1950.

والشعب المصرى الذى رفع شعار الحرية والعدالة الاجتماعية فى 25 يناير 2011 وثار وقدم التضحيات من أجل تحقيق أهداف هذه الثورة قد حدد انحيازاته وفى مقدمتها الحرية التى تظل مجرد شعار إذا لم تتحول إلى قاعدة رئيسية فى بناء الدولة الديمقراطية.

ولكن السؤال كيف سارت الأمور ونحن نقارب العام الرابع على اندلاع ثورة يناير والعام ونصف عام على 30 يونيو؟

ربما تكون الإجابة المباشرة صادمة لأن الحقائق على الأرض تؤكد لنا أن ترسانة القوانين المقيدة للحريات فى عهد نظام مبارك الاستبدادى مازالت هى القائمة، ولها الكلمة الأخيرة حتى الآن!

لكن حتى نفهم الأمور بدقة ولا يكون الوصول إلى هذه النتيجة متسرعا أو رميا إلى مجهول أو حكما يغلب عليه التشاؤم، فمن المفيد أن نعرف ما الذى جرى منذ 25 يناير حتى 30 يونيو وما بعدها.. والأهم ما أفق المستقبل القريب وإلى أين نذهب وما دورنا أفرادا أو مؤسسات معنية أو قوى ديمقراطية وسياسية؟

المرحلة الانتقالية الأولي وسياسة المجلس العسكري

كانت البداية هى المرحلة الانتقالية الأولى التى أعقبت تنحى مبارك وإدارة المجلس العسكرى هذه المرحلة التى جمع خلالها بين السلطتين التنفيذية والتشريعية واتسمت سياسته بالحذر أحيانا والتردد فى أحيان أخري.

كما شهد ملف الصحافة إهمالا واضحا أو عدم فهم حيث تحول أمر المؤسسات القومية بعد حل مجلس الشورى إلى مجلس الوزراء وتم تكليف نائب رئيس مجلس الوزراء د. يحيى الجمل لإدارة شئونها وإجراء بعض التغييرات فى القيادات الصحفية ، وقد أثار هذا الموضوع كثيرا من اللغط واعتبر الصحفيون إسناد أمر الصحافة لمسئول حكومى إجراء غير قانونى باعتبارها مستقلة عن الحكومة وأن هذا يعد مطعنا فى قراراتها، وطالبوا بتشكيل لجنة يحظى أعضاؤها بالخبرة والمصداقية من كبار الصحفيين لإدارة أمور الصحافة خلال هذه المرحلة وهو ما لم يحدث.

ورغم الهامش الذى انتزعه بعض الإعلاميين بفعل الفوران الثورى إذا جاز هذا التعبير والذى انعكس على اختفاء رموز تنتمى لنظام مبارك وحضور وظهور شخصيات عامة وسياسية كان إطلالها على شاشة التليفزيون المصرى من الخطوط الحمراء.. فإن مبنى ماسبيرو كان تحت سيطرة واضحة رغم كل مظاهر الاحتجاج والفوضى التى لم تخل منها تقريبا كل وسائل الإعلام الرسمية كرد فعل للدور السلبى وعمليات التضليل التى مارسها على مدى عقود والتى طالب التقرير الصادر عن أول لجنة رسمية لتقصى الحقائق بعد الثورة بالمحاسبة عن جرائم التضليل الإعلامى التى جرت فى عهد مبارك وكانت أحد أسباب الثورة.

الإخوان.. عداء مبكر وأولوية للتمكين

ثم جاءت المرحلة الثانية باختيار البرلمان بغرفتيه وبعدها تولى محمد مرسى رئاسة البلاد واكتملت الملامح الواضحة وغير الملتبسة لتعامل الإخوان وقوى الإسلام السياسى مع ملف حريات التعبير والإعلام ، وبدأ مرشد الإخوان يتحدث عن الإعلاميين بعدائية ، ووصف الصحفيين بأنهم سحرة فرعون، وأعطى اهتماما خاصا للإعلام فى رسائله المنتظمة للجمهور والحديث عما يجب وما لا يجوز وكيف نفرق بين الإعلام الطاهر والنقى أو الأخلاقي، وبين الإعلام الفاسد أو المثير للفتنة!! وتحدث د. محمود غزلان المتحدث الإعلامى باسم حزب الحرية والعدالة عن الصحفيين بلغة مبارك وقال ليست على رأسهم ريشة وأن الحبس فى قضايا النشر مستمر، وكتب بعض قيادات الإخوان صراحة وبوضوح فى جريدة الحزب عن ضرورة أخونة الصحافة والإعلام ، وعندما جاء مجلس الشورى بالأغلبية الإخوانية أطلق عليه فتحى شهاب رئيس لجنة الثقافة والإعلام عن حزب الحرية والعدالة مجلس شورى الثورة وأن اختيار القيادات الصحفية حق أصيل لهذا المجلس ولا ينازعه فيه أحد وواصل هجومه على الصحافة والصحفيين فى تصريحات تتسم بالعدائية والصلافة وضيق الأفق والفهم وقال إن 90% من الصحفيين أسهموا فى إفساد الحياة السياسية والترويج للتوريث فى ظل نظام مبارك!!

وقد انعكس هذا الفهم الذى ركز كل هدفه على التمكين والسيطرة على الصحافة بنفس أدوات النظام السابق، وكأنها مجرد عملية توريث للنظام وليست ثورة عليه.

وتدخلوا فى شئون الصحافة القومية بطريقة سافرة، وشنوا هجوما ضاريا عليها ليس من أجل إصلاحها بل من أجل إخضاعها، وأعادوا اختيار القيادات الصحفية بمعايير شكلية ورغم ذلك تم إهمال هذه المعايير وتغليب الهوى السياسي! ما أدى إلى استقالة مسببة لعضوين من لجنة اختيار القيادات الصحفية هما الكاتب الصحفى صلاح منتصر ومجدى المعصراوي، عضو مجلس الشورى عن حزب الكرامة.

ثم جاء دستور 2012 ليكرس عداء الإخوان وتيار الإسلام السياسى لحرية التعبير والإعلام والصحافة، وشهدت أعمال لجنة الدستور برئاسة المستشار حسام الغريانى مناورات عديدة انتهت فى النهاية إلى إهمال كل الاقتراحات والوثائق التى تقدمت بها بعض الهيئات والمؤسسات والمنظمات الأهلية والحقوقية ومنظمات المجتمع المدنى والجمعيات والائتلافات المعنية بالحقوق المدنية وحرية الإبداع والتعبير، وفى شأن الصحافة على سبيل المثال رفضت اللجنة إلغاء عقوبة الحبس فى قضايا النشر وسمحت فى مواد الدستور بإلغاء تراخيص الصحف ورفض النص على استقلال الصحف ووسائل الإعلام ووضع قيود على حرية الإبداع وحرية البحث العلمي.

 وكانت تدخلات رئيس اللجنة المستشار الغريانى تؤكد فى المناقشات هذه الروح المعادية ، بل إنه لم يتورع فى إهانة نقيب الصحفيين الزميل ممدوح الولى المنتمى لجماعة الإخوان على الهواء مباشرة لطلبه إدخال بعض التعديلات على مواد وجدها غير مناسبة، خاصة أنه قد حضر هذا الاجتماع الذى تم فيه إقرار مواد الدستور بشكل نهائى بالمخالفة لقرار مجلس النقابة بمقاطعة أعمال اللجنة! كما عكست العديد من تصريحات المستشار مكى وزير العدل حول الصحافة والإعلام تربصا وعداء وانقلب على كل مواقفه السابقة عندما كانت الصحافة تسانده فى معركة استقلال القضاء ضد مبارك!!.

كما شهدت هذه المرحلة صدور العديد من التقارير لمؤسسات معتبرة رصدت مئات الانتهاكات التى تؤكد الإهدار المتعمد لحرية الرأى والتعبير والصحافة والإعلام ، وما يتعرض له الصحفيون والإعلاميون من تهديدات مباشرة تهدد حرمة وسلامة الحياة وحرية العمل وحرية التنقل الآمن والحق فى الحصول على المعلومات وتداولها ونشرها والحق فى التعبير والاختلاف والإبداع وتصاعد حالات العنف المادى بأشكاله المتعمدة ضد الصحفيين والإعلاميين الذين تعرضوا للقتل والاعتداء بالضرب والمنع من العمل ووقف مقالات الرأى على خلفية الاختلاف فى الرأى مع السلطة الحاكمة، وصدرت التعليمات من مجلس الشورى بعدم التجديد بعد الستين للصحفيين المعارضين، كما شهدت تلك الفترة الاعتداء بالحرق والتدمير لمقار عدة صحف وفضائيات وحصاراً لبعض المؤسسات الإعلامية، وفى مقدمتها مدينة الإنتاج الإعلامي.

ما بعد 30 يونيو

كان من اللافت أن بيان 3 يوليو 2013 الذى ألقاه المشير السيسى عقب خروج الملايين فى 30 يونيو والذى تناول خارطة الطريق خلال المدة الانتقالية بعد عزل مرسى قد نص ضمن ما اشتمل على فقرة خاصة بالإعلام : وضع ميثاق شرف إعلامى يكفل حرية الإعلام ويحقق القواعد المهنية والمصداقية والحيدة وإعلاء المصلحة العليا للوطن.

وعقب ذلك ارتفعت أصوات لتدارك أمر وضع الصحافة بعد حل مجلس الشورى ووجود كيان مستقل يدير شئونها خلال هذه المرحلة الانتقالية، وبعد مداولات بين الأطراف المعنية وفى مقدمتها نقابة الصحفيين تم الاتفاق على صدور قانون بتشكيل جديد للمجلس الأعلى للصحافة يدير أمر الصحافة خلال المرحلة الانتقالية.

وقد أجرى المجلس تغييرات فى القيادات الصحفية ، ولكن بعد أن استغرق وقتا  أكثر مما هو متوقع نتيجة إصرار المجلس على صدور تعديل قانونى من الرئيس المؤقت يحصن هذه التغييرات.

 كما أثارت المعايير التى وضعها المجلس الأعلى لاختيار القيادات الصحفية الجديدة بعض الانتقادات.

كما فتح المجلس باب الترشيحات لاختيار أعضاء مجالس الإدارات والجمعيات العمومية بالمؤسسات القومية ، لكن على القواعد القديمة نفسهما وبقانون تنظيم الصحافة الموروث من نظام مبارك الذى ينص على اختيار أعضاء هذه المجالس مناصفة بين الانتخاب والتعيين ما يعنى عمليا وطبقا للواقع عدم تفعيل دور هذه المجالس فى مشاركة حقيقية فى اتخاذ القرار داخل هذه المؤسسات.

كما أن تعرض هذه المؤسسات على مدى عقود للنهب المنظم والفساد ودون أى محاسبة جادة أو حقيقية – حتى الآن- قد أدى إلى وصول أوضاعها الاقتصادية إلى مراحل متدهورة تلقى مزيدا من الأعباء والإرباك على دور المجلس الأعلى للصحافة فى هذه المرحلة الذى جعل جزءا كبيرا وأساسيا من اهتماماته يتركز على كيفية انتشال أغلب هذه المؤسسات من عثرتها المالية وتدبير رواتب العاملين بها، وجاءت هذه المهمة فى اعتقادى على حساب المهمة الرئيسية لهذا المجلس وهى كيفية وضع رؤية تؤسس لإعلام جديد يواكب أهداف ثورتى يناير ويونيو ويترجم ما جاء فى مواد الدستور عبر منظومة تشريعية شاملة.

وللحقيقة علينا أن نعترف بأن حالة حرية التعبير والإعلام والصحافة بعد 30 يونيو تشهد مأزقا وأزمة كبري، وتعرض الصحفيون والإعلاميون خاصة بعد اعتصام رابعة والنهضة ولجوء الإخوان وبعض أنصارهم من قوى الإسلام السياسى إلى عمليات العنف والمظاهر المسلحة والتى تزايدت حدتها، وأضيف إليها عمليات التخريب والإرهاب بعد فض الاعتصام بالقوة والذى أسفر عن ضحايا. وقد أدى هذا المناخ إلى زيادة الممارسات الاستبدادية والاستثنائية وإلى انتهاكات عديدة طالت عشرات من الإعلاميين والصحفيين من قوات نظامية ومن قوى سياسية تنتمى فى أغلبها للإخوان وأسفرت عن قتل وإصابة العديد من الصحفيين والإعلاميين فى مواجهات بين قوات الأمن والإخوان وأنصارهم، كما أدت إلى حبس بعضهم وإحالة البعض الآخر إلى النيابات العسكرية، كما طال الأمر بعض الصحف التى تم إغلاقها وكذلك بعض القنوات الدينية التى توقفت عن البث.

كما شهد هذا المناخ تنامى عمليات التحريض التى تجاوزت الإخوان وأنصارهم ممن اختاروا عمليات العنف والإرهاب لفرض أجندتهم السياسية إلى رموز من شباب الثورة ومن تحالف 30 يونيو، وبرز دور بعض القنوات الفضائية التى يمولها رجال أعمال أو مال ينتمون لنظام مبارك واستباحتها لشخصيات عامة ورموز سياسية ونشطاء وبوسائل تتنافى تماما مع أى قدر من احترام الدستور أو القانون وتعتدى بشكل سافر على حرية الرأى والتعبير بل تعتدى فى كثير من الأحيان على الخصوصية وعلى حرمة الحياة الخاصة.

إن التوسع فى هذه الممارسات وإعطاء الأولوية والأهمية للمواجهة الأمنية خاصة فى ظل استمرار عمليات العنف والإرهاب واكتفاء دور الأحزاب السياسية بتوجيه النقد أحيانا والصمت فى اغلب الأحيان ، وكذلك قصور أدوار وسوء أداء بعض المنظمات والمؤسسات المعنية بهذا الملف؛ يزيد من سوء المشهد ويعظم من سلوك الجرأة على صدور قوانين وتشريعات مخالفة لمواد الدستور.

واذا عدنا مرة أخرى لتناول ملف الإعلام والصحافة بعد 30 يونيو فإننا يجب ان نتوقف عند محطة مهمة بصدور الدستور فى يناير 2014 الذى اعتبر فى المجمل العام أكثر تقدما من سابقه فى هذا الملف، رغم بعض الملاحظات خاصة الإبقاء على بعض المواد التى تجيز الحبس فى بعض قضايا النشر والإبداع ، وتجاهل المادة الخاصة التى تجيز حق الإعلاميين والصحفيين فى الحصول على المعلومات باعتبارها أحد الأسس المهمة لممارسة المهنة وغيرها من الملاحظات، الا انه تبقى المشكلة الكبرى التى تحتاج الى وقفة واهتمام خاص هى غياب مبادرات الأطراف المعنية بملف حريات التعبير والصحافة والإعلام بوضع تصورات تترجم المواد الخاصة بهذا الملف إلى تشريعات وإجراء أكبر حوار حولها بين الإعلاميين والصحفيين والقوى الديمقراطية والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني.

وألفت الانتباه الى أن غياب هذه المبادرات او تباطأها واستمرار غياب هذا الحوار الواسع حولها يمكن ان يفتح الباب واسعا لدخول ترزية القوانين على الخط، وسوف تكون الحجج جاهزة، فالإعلام يعانى من حالة فوضى غير مسبوقة وعملية التنظيم الذاتى غائبة وعمليات الوقيعة بين الرأى العام صاحب المصلحة الأولى فى الإعلام الحر المستقل الذى لا تسيطر عليه سلطة ولا تحتكره أموال بعض رجال الأعمال تجرى على قدم وساق، ناهيك عن رصيد جاهز من أعداء تقليديين لحريات التعبير والمتربصين طوال الوقت داخل كثير من المؤسسات الدينية المحافظة او قوى الإسلام السياسي.

ويزيد من خطورة وكلفة تبعات هذا الغياب او التباطؤ ان رئيس الجمهورية يبدى اهتماما تكرر بتنويعات مختلفة فى اكثر من مناسبة حول الإعلام وأهمية دوره وتجاوز الامر الى مطالبته رجال الاعلام والصحفيين بتحمل مسئولياتهم فى هذا الصدد.

وأختتم بالقول إن هذا الامر وفى هذه الظروف التى نمر بها على أكثر من نحو لابد ان نأخذه بالجدية اللائقة، وأستحضر مقولة لنقيب النقباء الراحل كامل زهيرى إن الإعلام والصحافة أعز ما يملكه أى نظام.. فإذا لم ننتبه ونكون على مستوى أحلام الشعب المصرى وتحقيق أهداف ثورته فى الحرية والعدالة فلن يمنحنا أحد ما عجزنا عن انتزاعه.

نقلا عن جريدة الاهرام

شكرا للتعليق