الطلياني : الرجلُ العالقُ في شباكِ الحبِّ والسياسة

يبتدئُ الرّاوي روايته بالحدثِ الفضائحيِّ الّذي يرتكبه “عبد النّاصر” بحقّ الإمام “علالة” أثناء عزاءِ والده، ليكون هذا الحدثُ هو اللغزُ الّذي يرافقنا طوال 342 صفحةً محاولين التّشبّث بخيوطٍ عدّة لعلّها توصلُنا للجّوابِ المقنع والتّحليل الأنسبِ للدّافع وراءَ هذا الاعتداء.

لكن مايلبث الرّاوي أن يبتعدَ عن هذه الواقعة ليعودَ أدراجَه نحو طفولةٍ عتيقةٍ فيقومَ بتوصيفها من جميع أبعادها، وكأنّ الأثر الفرويديّ قد بثّ جاذبيّته لتغدو هذه الطّفولةُ مادّةً دسمةً للتّحليل والاستكشاف والتّعويلِ عليها في كثيرٍ من الأحداثِ اللاحقة.

كان “عبد النّاصر” يُلقّب بالطّلياني نسبةً لملامحِه الإيطاليّةِ الجّذّابة الّتي تميّزه عن جميع إخوته، حتّى أنّه لم يكن مميزاً بهذا الأمر فحسب، بل يمكننا القول أنّ حياتَهُ برمّتِها كانت تسيرُ وفق نهجٍ فلسفيٍّ يخصُّه وحدَه ومغامراتٍ تعنيه وحدَه.

فها نحن نراه في أروقةِ جامعتِه هاتفاً بالشّعارات اليساريّة مندداً بممارساتِ المتأسلمين السّاعين للوصولِ إلى السّلطة، واصفاً بشيءٍ من الإسهاب ذلك الشّرخَ السّياسيّ الّذي جعلَ البلادَ تقعُ بين فكّي تنظيمين أيديولوجيينِ مختلفينِ تماماً، حاول كلٌّ منهما صبغَ البلاد بفكره ومبادئه الخاصّة.

وداخل هذا العصف الهائل من الحوارات النّضاليّة تظهر “زينة” الفتاةُ الرّيفيّةُ المتمرّدةُ على الحياة النّمطيّة الّتي ألفتها فتياتُ الرّيفِ، متحررةً من مآزر القماشِ ومحارثِ الحقلِ وماشيةً في عالمِ الفلسفة الّذي لطالما حلمتْ أنْ تضعَ بصمتَها فيه.

الأمرُ الذي بدا واضحاً من خلالِ مشهدِ تجمهرِ الطّلابِ الجّامعيين حولَها ليستزيدوا من خطبِها السّياسيّة الّلاذعةِ عن واقعِ البلاد ومآله، لقد كانت تنتقدُ كلَّ شيءٍ، الإسلاميين واليساريين وحتّى النّظامَ القائم، ومخطئٌ هو من يظنّ بأنّها كانت تنتمي لتيارٍ سياسيٍّ معيّن، فهي تمتلكُ فكرَها ومنطقَها الجّدلي الخالصَين، ولهذا شكّلت لمنافسيها عثرةً لابدّ من التّخلّصِ منها.

شخصيّتها الّمصقولةُ بقصصِ الطّفولةِ المرّة والواقعِ الموحشِ جعل منها أيقونةً شرقيّةً لاتخلو ملامحُها من معالمَ بربريّةٍ وذكاءٍ ملفتٍ وعنفوانٍ أخّاذ، ولعلّ هذا ما جعل الطّلياني يدنو منها ويحيك معها قصّةً اختلفَ كلٌّ منهما حولَ توصيفِها.

ومن هنا يتضّحُ السّياقُ الآخرُ الّذي مشى خلالَه الكاتبُ ليكشفَ عن المزيجِ الآخرِ الّذي شارك في تكوين هذه الرّواية وهو العاطفة، هل فعلاً بإمكاننا الجّزمُ أنّ ما جمعَهُما كان الحبَّ أمِ الحاجة؟

الحاجةُ للاستقرار، ولنوعٍ من الأمان، ولشخصٍ قادرٍ على البذل والعطاء؟

“زينة” بتركيبتها الصّارمةِ لم تكن ترى سوى حلمها، وهذا ما دفعَها لتناسي وجودِ الطّلياني في حياتِها بصفةِ الزّوج، مفضلةً الشعورَ بحمايتِه محيطةً بها. هل يمكننا توصيفُ هذه الحالةِ على أنّها تجسيدٌ لمفهومِ الأمان الّذي تحتاج إليه أيُّ امرأةٍ؟ وماذا عن عقد الزواجِ الذي جمعَ بينَهما؟

“زينة” على خلافِ الطلياني كانت ترى هذا العقدَ بمثابةِ صداقٍ، أي مايشبه الاتّفاقَ الاجتماعيَّ على التّعايشِ دونَ وجودِ أيّ التزاماتٍ متبادلة. ولعلّ هذا الأمر من بينِ عدّةِ أمورٍ شكّل سبباً كافياً لها للرّحيل بعيداً عنه محاوِلَةً إعادةَ بناءِ مستقبلِها بعدما هدّمه بلدُ كَثُرتْ فيه التّناقضات وأعمته الفوضى.

أمّا عبد النّاصر الذي كثُرَت علاقاتُه الطّائشة، هل أحبّ زينة يوماُ؟ يمكننا استخلاص الجّواب الشّافي من خلالِ تتبّعِ الأحداث الكثيرةِ التي تلتْ رحيلَ زينة. فعلى الرّغم من نجاحاتِه المتتالية في عالم الصّحافة وتكوينه لسيرةٍ مهنيّةٍ مهمّة، إلّا أنّ شيئاً بداخلِه قد تهشّم، فبدا وكأنّه يبحثُ عن زينةٍ أخرى في جميع علاقاتِه اللاحقة، وهذا ما وضع حالتَه النّفسيةَ في إطارٍ من التيهٍ والطيشٍ والكآبة. يستمرّ سيلُ الأحداثِ متدفقاً لنكون أمام المشهدِ الأخيرِ الذي ختم به الرّاوي حكايتَه، وهو محاولةُ عبدِ النّاصر استئنافَ طيشِه الغرائزيِّ وسطَ سماعِه لخبرِ وفاةِ والدِه!

فهل نكون أمام “مورسولٍ” آخر سبقَ وتحدّثَ عنه كامو في روايته “الغريب”؟ حالةٌ من التّمردِ والتّجرّدِ من العواطف، ومحاولةُ تغليب الحاجات النّفسانيّة الغرائزيّة على المشاعر؟ هل باستطاعتنا إسقاط هذه الحالة على حالةِ “مورسول”، ومناقشتُها من البعدِ ذاته؟

على الرّغم من تشابهِ السلوكِ والتعاطي معَ ذاتِ الحدث، إلّا أنّ تفاعلاتِ وتراكماتِ سيرةِ حياة كلٍّ منهما مختلفٌة تماماُ، وهذا شكلّ حالةً نفسيّةً مختلفةً أيضاً. فمعَ المُضيّ قدماً بالاحداث، يُمكّنُنا الكاتبُ من معرفةِ الكدمةِ النّفسيةِ التي أُصيبَ بها الطلياني منذَ الصغر والتي لعلّها كانت سبباً وراءَ هذا التّصرفِ الغريبِ وكثيرٍ من الأحداثِ، منها اللغزُ الذي بدأ به الكاتبُ روايتَه، والّذي لربّما تناسيناهُ داخلَ تكدّسِ الأحداث.

الرواية: الطلياني

الكاتب: الكاتب التونسي شكري المبخوت

عدد الصفحات: 342

دار النشر: دار التنوير للطباعة والنشر.

تاريخ صدور الطبعة الاولى: 2014

شكرا للتعليق على الموضوع