سجن الفراشة ” قصة واقعيّة ” ( 5 )
اقرأ : الجزء الرابع
مشينا كثيراً فوق تعرجات لا أعرفها، ولم يلتفت هو لإيقاف سيّارة. بالرغم من تعبي أحسست براحة الانعتاق. تأمّلت مراراً أصابعي وأنا أجاهد للحاق بخطواته. مازالت هنا، ولن تقدر أمل بعد اليوم على انتزاعها مني. ظلّ صامتاً معظم الوقت، ولم يكرّر إلا عبارة “سنصل قريباً، لا تتباطئي”. ثم ولجنا في طرق ترابيّة فزاد تعب قدميَّ.
– “لم أعد أحتمل المشي، أريد أن أرتاح” قلت له بنبرة ترجٍ.
– “حسناً” ردّ قائلاً. “سندخل إلى هذه الغابة ونرتاح قليلاً”.
حملني وتوغّل بي في دغل مهجور، لا يبعد كثيراً عن الطريق الذي كنا نمشي عليه.
– “ما رأيك لو ذهبنا إلى بيتي”، قال لي. “ستعيشين معي حتى تكبرين، وعندها نتزوج”.
– “ولكنني أريد العودة إلى أمي” كرّرت له بوضوح، وأنا لم أفهم لماذا يعرض عليّ هذا الخيار.
أخذ يلحّ لإقناعي بالعدول عن الذهاب إلى أهلي. أصرّيت على التمسك بموقفي وقد بدأ الخوف يتغلغل في أحاسيسي. شيئاً فشيئاً بدأ غضبه يظهر. أمسكني من شعري وشدّني إليه وهو يقول:
– “اقتربي أيتها العنيدة الصغيرة، لن أمضي نهاري وأنا أجادلك”.
توسّلت من خلف صدمتي:
– “ولكنك وعدتني بأننا سنذهب إلى طرابلس”.
– “سنفعل الآن شيئاً أكثر متعة من الذهاب إلى هناك”.
– “أرجوك دعني”. صرخت من أعماقي، وفي رأسي بدأت تلمع صور من الماضي. عاد مشهد أبي العاري الملتصق بجسدي المرتعش، حيّاً ومخيفاً. شعرت بسخونة الدماء، وبوجع مفاجئ في حوضي. عدت إلى ظلمة الغرفة، والذعر الذي انتابني وأنا أستيقظ مبهورة وسكين النار يشلّع كياني، واليد القويّة التي سقطت فوق عينيّ. استشعرت الأذى الذي ينتظرني، وكنت ظننت أن أبي هو مصدره الوحيد. أنبأتني أحاسيسي أن الوضع مشابه وفظيع.
– “سأقضي حاجتي، وأجعلك سعيدة”. جاء صوته كالفحيح وهو يحاول لجم مقاومتي. حاولتُ الإفلات، فشدّني من بنطالي وعرّى القسم الأسفل من جسدي. رماني على بطني، وضغط عليّ بجسده من الخلف.
– “اجمدي يا كلبة وكفي عن الصراخ”.
بدأ يعرّي نفسه ليتمكّن من ممارسة شهوته واختراقي. مكّنني هذا الوضع من الزحف قليلاً من تحته وجرّ جسدي فوق الحجارة والأشواك التي مزّقت جلدي. أمسكني بيد واحدة، وباليد الأخرى حاول فك أزرار بنطاله. واصلت صراخي وهياجي.
– “دعني، لا تؤذني. دعني أعود”. وصوتي يتوه كالصدى في قعر أجوف، وما من أحد هناك ليسمعني.
لا أعرف بأيّ قوة زحفت وقاومت وصرخت، لكنني لم أرتخِ لحظة واحدة.
– “لا تخافي، لن أوجعك، وسأعطيك في النهاية مالاً كثيراً”.
وأنا خائفة، ومشدودة كذئبة جريحة. ومشهد جسده العاري فوقي يذيقني رائحة الموت.
– “دعني، صرخت كالبارود. أفضِّل أن أفقد أصابعي. أعدني إلى هناك”.
وفي لحظة ارتخاء منه، تمكّنت من الإفلات كليّاً من تحته. نهضت شبه عارية، وانطلقت بكلّ ما بقي في جسدي من قدرة على التحرك. لم يتمكن من اللحاق بي لأن ثيابه منزوعة. كنت في السابعة، طفلة تعاند شهوة مريضة في قعر بلا رجاء. ركضت وركضت مشلّعة وموتورة. لمحت أخيراً أفق الطريق التي كنا نمشي عليها رحلة الوعد الخبيث. وصلت كالريح التي تلاطم ذاتها، وحاولت في وضعي هذا أن ألمّ شمل ما تبقى من ثيابي الممزّقة. في غفلتي واضطرابي، قفزت إلى وسط الطريق في الوقت الذي كانت تمر فيه سيّارة من هناك. تفاجأ السائق بجسد صغير وملتاع يقفز أمام سيّارته، فلم يستطع كبح سرعته بشكل نهائي. صدمني صدمة خفيفة، أدّت إلى تدحرجي وازدياد حالتي سوءاً. ترجّل شاب من خلف المقود وهرع إليَّ. لم يكد يقترب حتى فجّرت في وجهه كلّ خوفي ودموعي الحبيسة. ظنّ أن الاصطدام أصابني إصابة شديدة. تلفّت حوله ليرى إذا كان هناك أحد يرافقني، فلم يلمح أحداً. حملني بسرعة، وطار بي إلى المستشفى.
وصل المحقّق وأمطرني بالأسئلة. أخبره الشاب أنني كنت خائفة من شيء ما، وثيابي ممزّقة. قلت لهم إن سيدتي كانت تريد قصّ أصابعي، فاضطررت إلى الهرب من البيت. ظننت أن هروبي سيؤدي إلى عقابي من قبل هذا السيّد الذي بدا لي أنه ذو شأن.
وصل إبراهيم بعدما اتصلوا به. رويت له ما جرى بعد مغادرته، فراح يلعن ويشتم ويصيح من الغيظ. أخبرته عن العسكري الذي قادني من يدي ووعدني باصطحابي إلى أمي. سألوني كثيراً عن مواصفاته وشكله، ولم ينجحوا في تحديد هويته.
خرجوا جميعاً عندما جاء الطبيب ليكشف عن نتائج الإعتداء، وارتاحت وجوههم عندما أخبرهم أنني سليمة. هل حقًّا كنت سليمة؟ طبقة جديدة من العفونة تراكمت في عروقي وأشعرتني أنني في وسط عدائي يمتصّ كلّ طاقاتي ووضوح أحاسيسي وأفكاري. شعرت بالانمزاق يتآكلني من الداخل ويفصلني عـن
واقعي يوماً بعد آخر، ونكبة بعد نكبة.
خرجت من المستشفى، فلاقتني أمل بغيظ لا يوصف، حاولت تفجيره في وجهي منذ اللحظة الأولى. طلب منها إبراهيم أن تدعني وشأني، وأخبرها عما كدت أتعرض له. كتمت خططها تجاهي، وأفهمتني بحركة من وجهها ويدها أن العقاب بانتظاري. وفي اليوم التالي حانت فرصة التنفيذ.
طلبت مني أن أجلس فوق كرسي في وسط الدار، وأخلع حذائي. بدأتُ توسّلاتي وبكائي المعهود حتى قبل أن أعرف حجم ما ينتظرني. أمرتني أن أرفع قدميَّ العاريتين، وربطتهما بحبل أحضرته. ثم جلبت سوط الأحصنة الذي كنت أتأمل به كلّ يوم عندما آوي إلى الأرض لأنام، وبدأت تسوطني بكلّ ما أوتيت من شراسة، وبكلّ النار التي تحرقها من الداخل. لم ينفع صراخي، ولا مشهد الدماء التي بدأت تنضح من قدميَّ المشققتين أصلاً. لم أعرف كم استمر هذا العقاب الجديد بالنسبة إليَّ في ذلك الحين، لكنني متأكدة أنني في لحظة ما، فقدت الحسّ بما يدور حولي، وشعرت بالخدر يمتد من الأسفل ويزحف صعوداً عبر مفاصلي إلى رأسي، فيصعق دماغي بالبرودة والشلل.
هل ذكرتُ شيئاً عن ثيابي؟ لا، لم أذكر. ليس هناك الكثير ليقال. كنت بحقّ طفلة الخرَق والثياب الممزّقة والمتّسخة باستمرار. حتى ثياب لارا العتيقة لم أكن أستحقها. لم يكن مظهري في ذلك الحين يعني لي شيئاً، ولم أعر حتى انتباهاً لاختلافه عن مظهر الطفلتين اللتين أساكنهما. اليوم أذكر ذلك بمرارة. كان يمكن أن أكون نظيفة ولائقة، وأبقى خادمة في الوقت عينه. عاملتني بحقارة بالغة كأنني قطعة لحم موبوءة. كلّ ذلك وفكري يسيح في أماكن أُخـَر: الطعام، وتجنب صنوف الآلام التي كانت تلحقها بي بمخيلتها الشريرة، واللهو مرّة بعد أخرى مع لارا ورلى من غير أن أتعرّض للعقاب. فقدت الكثير من أحلام الطفولة وإثارتها. حتى الأعياد كانت تمرّ عليّ رماديّة ويابسة. وأكسبتني القسوة والتقشّف طبعاً ساخراً وجافاً، واستهتاراً في اختيار الكلمات المناسبة في الأحاديث.
فقدت الاتصال بأهلي فترة طويلة. لم تزرني أمي مرّة واحدة في بيت أمل في أبلح. شاهدتها مرّات قليلة في طرابلس حين نكون في زيارة لآل المفتون. أوقات قصيرة وثمينة من الطمأنينة أشعر بها في تلك اللقاءات، وأنا أتمسّح بجسد أمي كيفما تحرّكت، كقطة يغويها دفء القدمين. كيف أنقل لها مأساتي؟ أسمعهم يخبرونها عن جلافتي وسوء تصرفاتي وأخطائي المتكرّرة وسرقة الطعام، فتهزّ برأسها وتطلب منهم أن يحافظوا على لطفهم معي، وتسمعني بعض الكلمات القاسية والمؤنّبة أمامهم. عندما يتسنّى لي أن أنفرد بها قليلاً، أخبرها عن الضرب المبرح الذي أتعرض له والعقابات المعتوهة التي تذيقني إياها أمل، فلا ألمح أيّ تأثر على وجهها. كلّ ما أسمعه منها هو أنني مستحقة لما يجري لي. لو كنت أكثر لطفاً وأقلّ عناداً لما تعرّضت لأيّ أذى. يهدمني موقفها، ويردّني إلى وحدتي وعجزي. كانت أمي بدأت تتحوّل بدورها. غدت امرأة قاسية وفاقدة الحنان واللهفة. اكتشفت لاحقاً عمق هذا التحوّل ومدى الانحراف الذي لحق بها.
الانتقال من أبلح إلى طرابلس، كان امتداداً لأجواء العذابات. سلمى والدة أمل لم تكن أفضل من ابنتها، وابنها المراهق وائل أذلني بأبشع الوسائل.
في الليل، عليّ أن أنتقل من سرير إلى آخر ومن كنبة إلى كنبة لأمسّد أقدام الجميع بيديّ الصغيرتين والمتعبتين. حين أرتخي قليلاً وأنا أفرك وأدعك قدمي سلمى، تعيدني خبطة صغيرة على رأسي إلى وظيفتي المرهقة. وائل يريدني أن أمسّد أعلى من قدميه. أحاول التهرّب منه حين أشعر أن الوضع لم يعد ملائماً. جعلني هذا الصبي أداة لتسلياته الخبيثة. كان يهوى أن يحمل المقص ويجزّ شعري كلّ مرّة أكون في بيتهم. زاد في حماقة شكلي وقهري. كنت أبكي وهو يفعل ذلك، وأسأله عن السبب، فيردّ عليّ بأنني خادمة ويجب أن لا يكون شعري طويلاً. جرّني مرّة إلى الحمام ليمارس هوايته المعهودة، فرحت أبكي وأرجوه أن لا يفعل ذلك. توقّف برهة وسألني إذا كنت أريد حقاً أن لا يقصّ شعري، فأجبته: “نعم، هذا ما أريده”. فقال: “عليك إذاً أن تفعلي شيئاً في المقابل”. سألته: “ما هو؟”، قال: “تعالي، سأريك ما عليك أن تفعلي”.
أدخلني إلى غرفته وأغلق الباب خلفنا. نزع بنطاله وسرواله الداخلي، فتجمدّت من الخوف. صرخت به:
– “ما هذا؟ ماذا تفعل؟”.
– “عليك أن تفعلي شيئاً لي لأتوقف عن قصّ شعرك!”.
تابع الخوف تسلله إلى باطني، وجعلني متيقظة وحادة في حذري.
– “ما هو هذا الشيء؟” سألته.
فطلب مني أن أقوم بأعمال دنيئة تشبه مخيلته السوداء.
– ” لا، لا أقدر” قلت بتصلّب. “أريد أن أخرج”.
هجم فجأة عليّ، وأمسكني من رقبتي ورماني أرضاً. صرخ فيّ:
– “إذا لم تفعلي ما طلبته منك، سأخنقك بيديّ هاتين”.
قال هذا وطوّق رقبتي بيديه وراح يضغط بعنف. يرخي يديه قليلاً ويسألني عن قراري، فأواصل الرفض بين أنفاسي المقطوعة، فيعاود الشدّ من جديد. شعرت أخيراً أنني على وشك الاختناق، وأخرجت من بين لهاثي كلمات الموافقة.
– “سأفعل ما تريد. انهض عني ودعني أتنفّس”.
ابتعد قليلاً ودعاني إلى تلبية رغباته. اقتربت منه بعدما استرجعت أنفاسي، وعضضته بقوّة في مكان حسّاس، فصرخ من الوجع، وهربت أنا حاملةً خوفي وسخريتي.
لم تكن تلك الحادثة بلا عواقب، بالطبع. زادت شراسة وائل تجاهي، وتلقّى شعري مزيداً من الهزائم والقصّات العشوائيّة.
عندما تلقتني أخته منال على الباب وأنا هاربة منه، استغربت صراخ أخيها.
– “ما الذي يجري، حنان؟” سألتني.
أخبرتها عن تصرفات أخيها تجاهي.
– “لا تقتربي منه مرّةً أخرى، هل فهمت؟ إنه شاب طائش وشرير. لا تدخلي معه إلى الغرفة مهما كان السبب”.
كانت منال شخصاً مميزاً في العائلة، تختلف كليًّا عن باقي أفراد أسرتها.
زاد “الشرير” على أفعاله السابقة عملاً جديداً أدخله في خانة التسلية والمراقبة المخبريّة لردّات فعلي وتصرفاتي. بدأ بعد فشل اتصاله الجنسي يرغمني على أكل الطعام المرمي في الزبالة. في الحقيقة لم يكن الأمر مستهجناً ومرفوضاً بالنسبة إليّ. انخفضت حياتي إلى مستوى ملتبس بين تصرفات البشر والحيوانات. لم يكن دماغي يحلّل كثيراً أعمالاً كهذه. المهم أن ألبّي حاجاتي الأساسيّة، ومنها الجوع. لكنني كنت أثور وأقاوم مرّات حين يكون الخليط الذي يريد إطعامي إياه مقرفاً إلى حدّ الغثيان.
شاهدتنا منال مرّة على هذه الحال، فصرخت فوراً في أخيها:
– “ماذا تفعل بها؟”.
ردّ ببرودة:
– “أطعمها الزبالة، ألا ترين؟”.
– “وهل هي حيوان لتفعل بها ذلك؟ هل أنت معتوه؟ إذا فعلت ذلك مرّة أخرى، ستنال عقاباً مني”.
– “ولماذا تصرخين به؟” سألت الأم مستغربة وهي تدخل إلينا. “فليفعل بها ما يشاء! إذا كان أهلها لا يهتمّون لمصيرها، فما شأنك أنت؟ أبوها باعها إلينا وقبض الثمن. لم يكلّف نفسه حتى برؤيتها قبل أن يموت”.
صُعقت عند جملة السيّدة الأخيرة، وخرج مني السؤال مشحوناً بالإبهام والصدمة:
– “أبي، مات؟”.
حتى أفراد العائلة لم يكونوا على علم بالخبر. مات منذ شهرين وهم لا يعرفون شيئاً. لماذا يهتمّون؟ ولماذا حتى عليّ أن أعرف ذلك؟ كلب قضى مخلّفاً فضائحه ونتاناته، وبذوره مزروعة في البيوت لتضيء أعماق الناس السحيقة التي تعجّ بالعفونة والفساد والحقارة. كانوا بحاجة إلى تجربة اسمها “حنان” لتتشقّق قشورهم، وتتخلّع أبواب قبورهم المكلّسة.
حرت كيف عليّ أن أشعر. كنت بدأت أعرف أن الموت يعني الرحيل النهائي. شاهدت القطط تموت في البساتين والجلول بالقرب من بيت مستخدميّ، وتتحوّل إلى جيف وروائح كريهة. شاهدت بعض الأشخاص يبكون عند ذكر الموت، ويذكرون موتاهم بحرقة وعجز. انخضّت مشاعري وأنا في هذا الموقف الجديد والشديد الغرابة. أشفقت في باطني على أبي. “حرام أبي، لن يفعل أيّ شيء مرّة أخرى”. كانت دمعة بدأت تلوح في عيني حين لمعت في رأسي فكرة رائعة. “إذا كان أبي قد مات، فستأتي أمي لتصطحبني إلى البيت!”
تحوّلت حيرتي إلى فرح غامر. كنت في الثامنة وقتها وآمنت عميقاً بالنهايات السعيدة وأنا في وسط وحول قدريّة. لكن أمي لم تأت لاصطحابي. انتظرت كلّ لحظة أن ألمح طيفها في الباب، يشرق من خلف العتمة وينتشلني. وبدأت أقلق. تجرّأت يوماً وسألت السيّدة سلمى ببراءة:
– “إذا كان أبي قد مات، فهل ستأتي أمي لتعيدني إلى المنزل؟”.
ردّت ببسمة لم أفهمها حتى اليوم، وقالت:
– “لن تعيدك أمك إلى أيّ مكان. ستعملين لدى أمل لسنوات طويلة أُخَر”.
وأخيراً جاءت أمي! ركضت إليها ملء فرحتي وحماستي بوجودها الذي يكسر ركود أيامي. تفاجأت بها تحمل طفلاً بين ذراعيها. انحنت قليلاً وقبّلتني، فسألتها على الفور:
– “من هذا؟”.
– “هذه أختك الصغيرة إلهام. تعالي، انظري إليها”.
لم أكتف بالنظر إليها، غمرتها وجلت بها في أرجاء المنزل. فتحت لها قلبي وأخبرتها عن كلّ ما يحصل معي. فراحت تنظر إليّ بنعومة وتبتسم. كان عمرها شهرين وقتها، وقادرة على تحسّس الحبّ بشكل طبيعي.
عدت إلى مجلس الشكاوى الذي انعقد في غيابي.
– “ابنتك عاهرة، أم موسى. شاهدتها مع ابني وائل منذ مدة وهي تكاد تداعب أماكنه الحسّاسة”.
– “هذا ليس صحيحاً!” صرخت على الفور.
– “اخرسي”، قالت أمي وهي تنتزع الطفلة من صدري. “هل تريدين أن تلحقي العار بنا؟”.
ماذا جاءت تفعل وقتها؟ لا أعرف. اقتربت منها وسألتها:
– “هل صحيح أن أبي قد مات؟”.
– “أجل، مات. الله لا يردّه!”.
– “وأنا؟”.
– “ما بك أنت؟”.
– “ماذا ستفعلين بي؟ ألن تعيديني إلى المنزل؟”.
– “أعيدك إلى المنزل؟ ماذا تتخيّلين؟ لقد قبض أبوك ثمن أتعابك سلفاً وأهدره على فاسقاته. على أيّ حال، كيف لي أن أعيلك إذا عدت إلى البيت؟ الطفلة التي فوق صدري، لا أقدر أن أطعمها.
عليك أن تعملي أنت وتساعديني!”.
– “ولكن لا أريد أن أبقى هنا. خذيني إلى البيت، لن آكل شيئاً!”.
– “لا طائل من الجدال الآن، كوني مطيعة، وكلّ شيء سيكون على ما يرام”.
تابعونا : الجزء السادس