سجن الفراشة ” قصة واقعيّة ” ( 4)

اقرأ الجزء الثالث

كلّفني ذلك عذابات متواصلة. وكلّفني أموراً أعظم ستصيبني في ما بعد، وأنا دائماً أنسى. أنسى موقعي في ذلك البيت، وما ينتظرني في ختام تحايلي على الأوامر والتفافي عليها وصولاً إلى تجاهلها. وفي المرّات التي لا أنسى فيها، كنت أغامر بلا تقدير للعواقب، وأفعل أشياءً قويّة أواجه بها أوضاعاً غاية في الصعوبة، يندر لطفلة في مثل عمري وظروفي أن تقومبها.

صرخت في وجهها في إحدى نوبات بكائي:

– “أريد أمي وأريد أن أرحل عن هذا البيت”.

ردّت بهدوء وخبث:

– ” تريدين أمك؟ أيتها الغبيّة القبيحة، أمك تضاجع الرجال، ولا أعرف إذا كانت استثنت أحداً في طرابلس. هل ترغبين بالتمرِّس على  يديها؟ على أيّ حال، ستغدين مثلها. هذا النداء القذر في دمائك، لهذا تفجرين كالداعرات”.

لم أفهم شيئاً مما قالته، لكنني شعرت أنها نطقت بشيء مخجل. طار بي الخيال إلى بيتنا، فسرى في دمائي حنين دافئ، طردت به كلمات أمل المسمومة. لا أعرف من أين كان ينبع  هذا الحنين. أعود  بغضب الآن إلى تلك المواقف. لم أعش في عالمي إلا الخوف والبذاءة والصراخ والتوتّر. وشاهدت أنواعاً شنيعة من العذابات. إلام كنت أحنّ في دوامة محنتي؟ هل كان خيالي يعود بي إلى الأرض التي انطلقت منها، أم إلى أرض أخرى تعجنها أحلامي وأوهامي وتملأها بوجوه خرافيّة؟ شيئاً فشيئاً غابت حقيقة أهلي من باطني، لكن الشعور بالنقمة لم يغب. حين أسمع بهما، يطفح فيَّ الغضب وأثور مرّات بطريقة غير مبرّرة. حتى الوجوه تلاشت ولم تبقَ إلا المرارة.

– “لارا، تجنّبي اللعب مع الخادمة. أريدها أن تساعدني في العمل. هي هنا من أجلنا، ولا أرغب في إفسادها”.

حقنت في ضمير ابنتها تصوّرات مزرية، عزّزتها بالأعمال التي كانت تطلبها مني. فكان عليَّ مثلاً أن أدخل لارا إلى الحمام، وأنزع عنها الثياب، وأجلسها على المرحاض لقضاء حاجتها. وحين تنتهي، عليَّ أن أمسح وسخها، وأرفع ثيابها. وحتى في أثناء هذا العمل الاسترقاقي،  كانت لارا تجد لذّة في شدّ شعري وتعذيبي وأنا منحنية بقربها أنتظر لكي تفرغ قذارتها.

– “أنتِ خادمة بشعة، تقول أمي، ورائحتك نتنة. أستطيع أن أصفعك متى شئت، وأنتِ لا يمكنك أن تفعلي شيئاً”.

بت أشعر بكره لهذه الطفلة التي تماثلني عمراً. شاهدت أمام عينيّ تحوّل شخصيتها وانطباعها بأخلاقيات أمها. نفرت منها أيضاً لأنها كانت في غالب الأحيان، سبباً لتعنيفي وضربي وتعبي. إحدى مهماتي الثـقيلة كانت أن أرافق الطفلتين إلى غرفة النوم، وأسهر بقربهما حتى يناما. أغني لهما شذرات من هنا وهناك، أمسِّد شعرهما، وأظلّ راكعة بالقرب من سريريهما حتى يطالهما النعاس، أو يطالني نعاسي، فأغفو. ثم أستيقظ مرعوبة وموجوعة على يد أمل وهي تعصر أذني وتجرني إلى الخارج.

هذا السهر اللعين كان قصاصي المضني. عانيت منه بأقسى الأشكال، وصلّيت مراراً لكي لا يحلّ الظلام فيعبر بي إلى سهري المفروض، وثقل جفوني الممنوعة عن التلاقي بخدر لذيذ على عتبة النوم.

كلّ مرّة تلمّ فيها أمل شمل أصدقائها في المنزل، كان عليّ أن أظلّ مستيقظة حتى مغادرة الجميع، لأقوم بواجبات التنظيف والمسح والترتيب والجلي. أجلس في المطبخ وحيدة، مهدودة، ومشلولة الأطراف. تصلني الأحاديث والضحكات من أودية سحيقة، والنعاس يجذبني إلى قعره كاللولب.

سألها مرّة أحد الضيوف بعدما لمحني في هذه الحالة:

– “لماذا مازالت هذه الصغيرة مستيقظة؟”.

– “لم تأتني هذه الشقيّة إلا بالمتاعب”، قالت. “آويتها في بيتي لأن أهلها كانوا يودّون رميها في أيّ مكان. جلبتها إلى هنا لتلاعب الأولاد، وتتعلّم بعض الأمور المفيدة لحياتها، لكنها غبيّة وعنيدة. لا تتعلّم شيئاً، وتفعل دوماً عكس ما أطلبه منها. هناك أناس لا يعرفون إلا عضّ اليد الممدودة إليهم. هذه واحدة من هؤلاء. ملأت البيت  صراخاً  وبكاءً  في الفترة الأولى، طالبة  أن تعود  إلى  أهلها، وأنا أعاملها هنا كإحدى بناتي. أبوها رجل فظّ ومجرم يمضي معظم أوقاته في السجون. وأمها…الله ينجّينا! أجبرتها الليلة على البقاء مستيقظة لتلين شخصيتها قليلاً، وتتعلّم الاحترام. لا تلتفت إليها. لو عرفتها جيداً لما اهتممت لأمرها”.

– “ما ذنبها إذا كان أهلها سيئين؟ دعيها تدخل وتنام، لا شك في أنها غير قادرة على احتمال السهر”.

– “دعها وشأنها، لا أريد إفسادها أكثر من ذلك!”.

استيقظتُ مذعورة في نهاية هذه السهرة على لطمة فوق ظهري،

أسقطتني فجأة من سهادي إلى أرض مسنّنة:

– “انهضي ولا تستسلمي للنوم مرّة أخرى حين أطلب منك ذلك”.

سحبت جسدي الذي لم يستعد حركته بعد، فلم تسعفني قدماي على الوقوف. ركلتني بعنف في خاصرتي حين سقطت أرضاً، فجعلت من وجعي حافزاً لنهوضي.

– “تمشين مثل المخلّعين لتزيدي قرفاً فوق قرف. ارفعي جسدك النتن عن الأرض، وابدئي بجمع الصحون من الدار”.

تعبر الثواني كموكب جنائزي في ليل ثـقيل يتحرّك فيه كياني المرضوض كشبح الخرائب المهجورة. من المطبخ، إلى الدار، إلى النعاس الذي لا يخفت، أعمل بلا حسّ حقيقي بالمكان والزمان. جمعت الصحون وبدأت بكنس الأرض وروحي لا تنشد إلا أمراً واحداً: النوم. جاء دور الشرفة الخلفيّة للمطبخ التي تنتهي بدرج طويل يؤدي إلى الحديقة. جرّيت وعاء الماء والممسحة، وانحنيت فوق الأرضيّة وبدأت العمل. زاد غباش عينيّ وأنا أتراجع على طول الشرفة ويداي تقومان بحركة مسح جانبيّة بطيئة. ظننت أن المسافة لن تنتهي، ولا شيء سيكون نظيفاً بعد اليوم، وسأقضي أبديتي مطويّة على بعضي، أحاول إزالة أوساخ عتيقة تعصى على إرادتي. لكنني كنت مخطئة. انتهت المسافة وأنا شبه مخدَّرة عند حدود الدرج الطويل، وخالية من كلّ مقدرة على الانتباه والتركيز. تدحرجت من القمة في قرقعة هائلة، وتشابكت ببعضي في سقوطي إلى العمق. لطمت جسدي ورأسي على امتداد الدرجات الهابطة، وأنا منكمشة حول ممسحتي لا أريدها أن تفلت مني، كأن فقدانها يعرّيني ويفقدني جزءاً من ذاتي. استقرّيت في الأسفل بصمت يشبه كثيراً وجيف الصمت الذي يلي انفجار قنبلة. لا حركة تسمع، ولا وجع أشعر به، ولا انتظار لأيِّ شيء، فقط حالة ذهول وانخطاف. عدت فجأة إلى ذاتي، واتّضحت في ذهني حقيقة ما حصل. ألفيتني مرميَّة كالخرقة على التراب الرطب. شعرت بحرارة قويّة في جسدي، ارتفعت من أحشائي إلى صدري واستقرّت بقوّة في عيني، فانفجرتُ بالبكاء والصراخ بحدّة أخافتني. هرعت أمل على الصوت الغريب الذي أحدثه ارتطام جسدي وهو يتدحرج، والصراخ الذي تلاه. وصلت إليَّ وهي تكزّ أسنانها، مذهولة من هذا الضجيج الذي خرق سكون الليل، وانهالت على فمي بلطمات متواصلة تريد خنق الحنجرة التي تطلق تعبيراتها الراعبة.

– “أصمتي يا شيطانة، ستوقظين بصراخك إبراهيم والحي بأسره. أيتها الحشرة القذرة، تعلّمي أن تنتبهي إلى خطواتك وأنت تعملين، بدل أن تسقطي كالبلهاء من أعلى الدرج”.

لم تهتمّ حتى بمعرفة ماذا أصابني! عندما توقّفت عن اللطم، انتبهت إلى السائل الأحمر الحار الذي بدأ يتمدّد حول رأسي. جمدت لبرهة في مكانها، قبل أن تستوعب أن عليهـا أن تفعـلشيئاً.

كان صراخي مازال متواصلاً عندما رفعتني عن الأرض، وحملتني إلى المطبخ. همد غضبها قليلاً حين رأتني أنزف بشدّة. وضعتني على الكرسي، وراحت تدور حولي حائرة ومضطربة.

– “ما هذا الصراخ؟ ماذا يجري هنا؟”. جاء صوت زوجها مبحوحاً ومتفاجئاً بعدما استيقظ من سباته وهرع إلينا مهرولاً. توجّه إلى أمل غاضباً عندما رآني:

– “ماذا أصاب حنان؟ ما بها تنزف؟”.

– “لقد سقطت عن الدرج. حملتها إلى هنا لأرى ما بها”.

– “هل جننت؟ كم مرّة قلت لك أن تكفي عن إجبارها على العمل في الليل؟ أشفقي عليها، ليست إلا طفلة”.

– “إنها مجرد أعمال صغيرة”.

شعرتُ أنه يودّ أن يفجّر نكبة انتشاله من فراشه في وجهها. اقترب مني بلطف، وراح يعاين الجرح العميق في رأسي، ويتفقّد جسدي.

– “هل تشعرين بألم آخر في جسدك، حبيبتي؟”.

أومأت برأسي بالنفي، وبكائي بدأ يتقطع من جراء هذا الاهتمام.

– “اجلبي المطهِّر والشاش والقطن والدواء الأحمر ومقصّاً صغيراً. يجب أن نوقف النزف بسرعة. يا إلهي ما هذه الحماقات؟ الطفلة بحاجة إلى مستشفى لتقطيب الجرح”.

وصلت الأغراض التي طلبها، فدفعتها إليه وهي تتأفّف:

– “مستشفى؟ كم مرةٍ فججت رأسي وأنا صغيرة، ولم يحصل أيّ شيء. سيشفى الجرح من تلقاء نفسه”.

نظر إليها نظرة لوم قاسية، وبدأ عمله برقة. قبّلني فوق جبيني وراح يتمتم كلّ الوقت كلمات لطيفة. وضع الأدوية على رأسي ولفّه بالشاش، وعاد إلى فراشه.

تمدّدت فوق بلاطي في غرفة الخيل، وروحي تتلوّى في قعر الانسلاخ. لم أكفّ ليلتها عن البكاء المقهور، وأنا أنادي بصوت خافت كلمة “أمي”. انتقل الجرح من رأسي إلى روحي، فعانيت أهوال الوحدة والنبذ. متروكة هنا كالقذارة بلا سند ولا قيمة، غريبة فوق أرض عارية وجسدي الهزيل يفرغ دماءه وضعفه. من أنا؟ وماذا أفعل في هذه الزاوية الموحشة؟ تحوّلت الأغراض المرصوفة من حولي إلى كائنات سوداء نابضة لفّتني من كلّ جانب. انكمشتُ أكثر فأكثر في مخاوفي وغصت في عالم الرعب. “أمي، ساعديني أرجوك!”. ابتهلت بلا انقطاع في تلك الليلة. ابتهلت للأرض وللسماء ولملائكة الرحمة. وشيئاً فشيئاً تسلّل الشلل إلى جسدي ودماغي، وسمّرني بلا حسٍّ وإدراك. ظلت عيناي مفتوحتين تحدّقان في الفضاء القاتم، وتجمّد في داخلي كلّ شيء، حتى الحياة والخوف والبكاء.

هل كان على أمل أن تعاملني على هذا النحو؟ أسأل نفسي اليوم ما الذي يدفع البشر إلى أقصى الوحشيّة والتطرف. عندما أشاهد طفلاً في أيّ مكان من الأرض، أعود هشّة ومعصورة من جديد، كأن الزمن لم يمضِ. أيّ مأساة يختزن جسده الضعيف؟ وأيّ أنواع من العذابات يعاني؟

اختلطت حبال الأحداث وعقدها، فلم أعد أميِّز مصادر الألم. الأشياء تكرّرت بقدريّة جائرة، فغاب عن ذهني الآن تسلسلها وشرارتها الأولى، ولم تبقَ إلا مرارتها وجوّها القاتم. هكذا هي الحال مع الجوع.

عندما تعلّمت القراءة، وجدتني أطالع رواية “البؤساء” لفكتور هوغو. قذفتني إسقاطاتي الباطنيّة إلى تقمّص روح “جان فالجان” الذي من أجل حفنة من الخبز، اتخذ مصيره شكلاً مأساويّاً وظالماً إلى حدّ اليأس. وجدت نفسي في غالب الأوقات، في حالة جوع دائمة. إنه العقاب الأمثل، اعتقدت أمل. أدخلني هذا العقاب في دوّامة مروعة، بعدما بات مصدراً لعقابات أُخـَر. أكسر قرار تجويعي، وأسرق الطعام في الخفية، فتعاقبني بالضرب.

يدفعني الضرب إلى التقاعس عن العمل، فتظلّ الدوامة تدور على ذاتها، وتجرشني بأقسى الوسائل. لقد اعتدت سرقة  الطعام،

هذا هو باب جحيمي الدائم. لم تعلّمني التجارب، ولم تقوَ إرادتي مرّة على إغراءات الجوع.

ذات صباح، جهّزت الطفلتان شطائر الجبنة قبل أن تغادرا إلى المدرسة، وتركتا على الطاولة العلبة التي تحتوي على قطع من الجبنة. كنتُ أكنس المطبخ، والسيّدة مازالت نائمة. ناداني المشهد بإلحاح، وتحوّل المكان فجأة إلى أرض مليئة بقطع الجبنة، ورائحتها، ولونها، وطعمها. انجذبت كالمسحورة إلى الطاولة، وعقلي يحلل العواقب. لم أجد أيّ ثغرة في هذا العمل. أمل نائمة، ولن تعرف تالياً عدد قطع الجبنة التي استهلكتها الطفلتان. أخذت واحدة والتهمتها كالبرق، وعدت إلى عملي كأن شيئاً لم يكن. استيقظت، فوجدتني منهمكة في العمل. لم يدم استحسانها طويلاً. نظرت إليّ بحنق فجأة، وصفعتني على وجهي.

– “كم مرّة نبّهتك إلى عدم تناول الطعام من دون إذني؟ كم مرّة عليّ أن أكرّر الأشياء نفسها معك، أيتها الملعونة؟ ماذا أفعل بك الآن؟ كيف أجعلك تتعلّمين إطاعة الأوامر؟”.

– “سيّدة أمل، أنا لم أتناول أيّ شيء. كنت أعمل”.

صفعتني من جديد.

– “وتكذبين أيضاً!”.

– “صدقيني، أنا لم…”

– “اخرسي. على الأقل أزيلي جيداً آثار الجبنة عن فمك القذر”.

حقاً، لم أنتبه إلى هذا الأمر!

– “لن أضربك هذه المرّة”  تابعت. “سأنتظر حتى يغادر إبراهيم، وأبتر أصابع يديك بالساطور. سترين ماذا سأفعل”.

انتابني الذعر من تهديدها، وحملني على الشهيق والبكاء وأنا أتابع بشرود تنظيف المنزل. كنت أخاف منها حتى أعماقي السحيقة. أيقنت أنها ستـنفّذ ما توعَّدت به. ألم تجرحني مرّة بسكين طويلة، بعدما رأتني ألهو بباب الغسّالة؟ ما الذي يمكن أن يردعها الآن عن انتزاع أصابعي ورميها للكلاب؟ تقدّمت منها باكية، ورحت أرجوها كي لا تبتر أصابعي. وعدتها أنني لن أسرق الطعام مجدّداً، ولن أكذب. انحنيت على قدميها، وغسلتهما بدموعي.

– “أرجوك سيّدة أمل، لا تقطعي أصابعي. أرجوك، لن أخالف الأوامر مرّة أخرى”.

لم تزدها توسّلاتي إلا غضباً وتهديداً، فقررتُ أن ألجأ إلى زوجها. لم يكد يستفيق حتى رآني باكية وخائفة. هرعت إليه وأخبرته عما تريد أن تفعله بي. فطمأنني ضجراً أن زوجته لا تعني ما تقول، وهي تمازحني فقط لأعمل جيداً. عندما ارتدى ملابسه وهمَّ بالخروج، لحقت به إلى خارج المنزل، وتوسّلت إليه أن يمنعها من بتر أصابعي.

– “حنان، لا تكوني غبيّة. هل يعقل أن تقطع أصابعك؟ لا تخالفيها مرّة أخرى، ونفّذي جيداً ما تطلبه منك، وستكفّ تلقائياً عن معاقبتك. لا تخافي، عودي إلى العمل حتى لا تغضب منك أكثر من ذلك”.

لكنني قرّرت أن لا أعود.

وقفت عند طرف الحديقة وراقبت بعجز شديد السيّد إبراهيم وهو يختفي عن أنظاري. تسمّرت مكاني مهدودة ودامعة. ماذا ينتظرني في الداخل؟ وأيّ ألم سأعانيه حين يسقط الساطور فوق يدي الممدودة؟

بقيت على هذه الحال دقائق عدّة، حين مرّ بي أحد الذين يعملون تحت إمرة سيّد المنزل. كنت لمحته مراراً في الجوار. اقترب مني واستفهم ما الخبر. أطلعته على العقاب الذي سيحلّ بي لو عدت إلى الداخل.

“ولكن هل يعقل أن تفعل بك ذلك؟”. سأل مدهوشاً.

“نعم. إنها امرأة قاسية وشرّيرة، تريد أن تميتني جوعاً”.

“وإذا لم تعودي إليها، إلى أين تعتقدين أنه بإمكانك الذهاب؟”.

“أريد أن أعود إلى أمي”.

“وأين هي أمك الآن؟”.

“تسكن في طرابلس، بالقرب من هنا”.

ضحك من سذاجتي.

 – “طرابلس؟ إنها بعيدة جداً!”.

– “ولكن أريد أن أعود إليها”.

صمت قليلاً، ثم لمعت عيناه ببريق الحماسة:

– “سآخذك إلى طرابلس، وسترين أمك من جديد. هيّا تعالي معي”.

– “أريد أولاً أن أحضر أغراضي”.

– “أيّ أغراض أيتها الغبيّة؟ لو رأتك سيّدتك تفعلين ذلك، ستسجنك إلى الأبد”.

وجدتُ أنه على حقّ. أعطيته يدي ومشى بي بعيداً عن وكر عذابي.

تابعونا : الجزء الخامس

الكاتب والاديب سمير فرحات
الكاتب والاديب سمير فرحات

شكرا للتعليق على الموضوع