سجن الفراشة ” قصة واقعيّة ” ( 6 )

اقرأ : الجزء الخامس

فقدت الأمل في إقناعها، وبردت كلّ أعماقي. عدت إلى أبلح بلا حيويّة وأحلام. ليتها باعت كل شيء واستعادتني. جرّني المستنقع إلى دوائره بلا مقاومة. وتفتّقت مخيّلة أمل في هذه المرحلة عن عذابات أفظع من ظلمات السجون.

هزل جسدي كثيراً من جراء العمل المضني وأجواء القصاص. أصعب المراحل التي كانت تمرّ بي، عشتها في الشتاء. يعيدني البرد والصقيع والمطر إلى ذكريات أليمة، صنعتها بجروحي. في الليالي المثلجة، تخرج أمل إلى الشرفة، وتملأ أحد الأوعية بالثلج المتراكم، وتجبرني على وضع قدميّ فيه. نسيت اليوم الأسباب الكثيرة والمناسبات التي كانت تدفعها إلى معاقبتي بهذه الطريقة. حين تتخدّر قدماي بعد معاناة وصراخ وبكاء، تمارس قصاص الحبل وسوط الحصان. تربطهما جيّداً وتسوطني حتى التعب، تعب يديها. أظنّ أنني وصلت إلى مرحلة لم أعد أشعر فيها بالألم الشيطاني الذي يمكن أن يسبّبه هذا العمل الوحشي. اعتدت الزعيق تحت وقع العقاب، حتى حين لا أشعر بأيّ شيء. وحدها حنجرتي بقيت حرّة وقويّة كلّ تلك السنوات. لا أعرف لماذا لم تفكّر بطريقة لإخضاعها.

هذه الحنجرة، أتيحت لها فرص كثيرة لتخطي قدرتها المحدودة على إحداث الضجيج. إحدى تلك الفرص كانت حين أرادت أمل أن تعلّمني كيّ الثياب. تركتني قرب اللوح المخصّص لذلك، وانصرفت إلى شؤونها. انهمكت في هذه المهمّة الدقيقة، وفعلت ما استطعت أن أفعله. عادت بعد قليل، ورفعت إحدى  القمصان

التي كنت أكويها.

– “ما هذا؟” سألت بحدّة. “درّبتك مراراً على كيّ القمصان، لكن غباءك فاق الحدود. ما هذه القبّة؟ ألا ترين أنها ما زالت مجعّدة ومشوّهة؟”.

أمسكتني من شعري وخضّـتني قليلاً وهي توجّه ملاحظاتها.

– “سأكويها من جديد”، قلت لها بلهجة التسوية وأنا تحت وقع غضبها.

– “لن تكوي شيئاً. لن تتعلّمي شيئاً إلا بالعقاب.  سأعلّمك كيف تُكوى القميص”.

قالت هذا وأمسكت يدي اليسرى ووضعتها فوق اللوح، ثم أمسكت المكواة الملتهبة كالجمر، وضغطتها فوق يدي الممدودة. شعرت بلهيب الحريق يخترق عظامي ويمزّق خلاياي العصبيّة، فأطلقت صرخة مدويّة كادت تشلّع حنجرتي ورأسي وكلّ كياني. صرخت بعنف لم أرَ له مثيلاً في السابق وأنا أقفز في مكاني كطير مذبوح. رفعت المكواة عن يدي، وسلخت معها رقعة بحجمها من جلدي. نظرت إلى يدي المسلوخة، وشهقت. ثم أسرعت لتجلب بعض المراهم وقطع الشاش والقماش لتداوي الحرق البالغ.

لا شك في أن الإرهاق دفعني إلى شفير الجنون. لم يكن مجرد إرهاق جسدي، بل بتّ أعيش اضطرابات هائلة في كياني. وكردّة فعل على ما يجري من حولي وفي حياتي، بدأت أتبوّل في الليل لا إراديًّا. لست خبيرة في الشؤون النفسيّة، ولكنني لا أرى سبباً آخر لذلك، غير الخوف واللطم والعنف الجسدي. أغفو وأستيقظ صباحاً وثيابي مبلّلة، فينفجر الجنون في المنزل.

– “أيتها الحيوانة القذرة، صرت في الثامنة من عمرك وما زلت تبولين في الفراش! ماذا أفعل بك؟ أيّ مصيبة أنت! هل عليّ أيضاً أن أتحمّل رائحتك النتنة؟ ستقتلينني بمصائبك، وتخلّفك، وأفعالك الغريبة”.

عندما تكرّر الأمر، ظنّت أنها إذا رفعت خطورة العقاب، قد تضع حدًّا لهذا الإزعاج. ذات صباح، استيقظتْ فوجدت ثيابي مبلّلة.  دفعتني بعنف إلى الحمام وأمرتني أن أخلع ملابسي. حين فعلت ذلك، أمسكت سيجارتها المشتعلة وأطفأتها في عضوي التناسلي.

فعلت ذلك أكثر من مرّة، من غير نتيجة، ثم جرّبت شيئاً آخر. وضعت قضيباً من الحديد فوق النار حتى تحوّل إلى جمر ملتهب، وألصقته بعدها فوق فخذي. وكانت النتيجة حرقاً جديدًا يضاف إلى الآثار الكثيرة التي تركتها عقابات النار على جسدي. لكن البول لم يتوقف.

حين لم تجدِ فنون العقاب، قرّرت اصطحابي إلى طبيب. كان همّها أن يتوقّف الإزعاج وتتخلّص من نتانتي ورائحتي الكريهة. اكتشف الطبيب سريعاً أنني خالية من أيّ مرض عضوي. هاله سكوني وحذري المتمادي. شعر أنني غريبة ونظراتـي  تائهـة

ومرتبكة. واجه أمل بالقول:

– “هذه الطفلة تعاني من اضطرابات نفسيّة”.

شهقت أمل مصدومة.

– “اضطرابات نفسيّة! كيف يمكن أن تصاب بعلّة كهذه، وهي تعيش في نعيم بالمقارنة مع حياتها السابقة، الرازحة في الفوضى والاستهتار والفقر والمعاناة؟ هل تظنّ أن حنينها لأهلها يمكن أن يؤثّر فيها إلى هذا الحدّ؟”.

– “لا أعرف إذا كان الأمر كذلك، ولكن لا شك في أنها غير مرتاحة في وضعها الحالي. هل تتعرّض للضرب من قبل أحد ما في المنزل؟”.

– “لا أبداً! لا تفكّر حتى في أمور كهذه”.

حاول الطبيب أن يلاطفني ويحاورني ليكشف كوابيسي، لكنني بقيت صامتة كحجر بارد. سمّرني الخوف فوق طاحونة الصمت، واستغربت هذا الحوار الشاذ الذي دار بينه وبين أمل. الخبيثة! ترتدي قناع الملاك كممثلة بارعة، ولا أحد قادر على ملامسة جنونها.

انتهى فصل الطبيب من غير أن تزول العوارض. ظلّت حالتي على ما هي عليه، فابتكرت الجدّة سلمى هذه المرّة قصاصاً منطقيًّا: منعي من الشرب.

نفّذت هذا المنع ليومين متتاليين، فشعرت بحلقي يابساً كالقش في شهر آب. بدأت مشاهد الارتواء تراود مخيلتي من غير أن تحظى بإشباع لها، فزاد ذلك من عطشي وانهياري، وتحوّل كلّ كياني نحو حاجة واحدة: المياه. منعتني من دخول الحمام من دون مراقبة حتى لا أشرب من مياه المغسلة. تهت في أرجاء المنزل كالموتورة وأنا أرجو الجميع أن يسمحوا لي بإرواء عطشي. لا فائدة. واجهت مصيري بخيبة واستسلام، وهمدت مساء في زاويتي المعهودة، حيث كان الجميع يشاهدون التلفزيون من غير أن يُسمح لي بممارسة هذا الترف. اختلست النظر قليلاً إلى الشاشة، فشاهدت مشهداً لأولاد يلهون في حوض للسباحة. تأوّهت بصوت مسموع وأنا أتخيّل في ذاتي مدى الارتواء الذي يشعر به هؤلاء الأطفال. لا شك في أنهم يشربون من مياه الحوض ما طاب لهم! شعرت بقواي تخور، وبضباب أسود يغلف وعيي. لم أستفق من غيبوبتي إلا عندما انحنى أحدهم فوقي، وراح يهزّني ويروي جوفي المتعب ببعض جرعات من المياه.

فصول كثيرة طويتها في زواياي المعتمة، وأردت أن ألقيها في جوف النسيان. وضعت أقفالاً فوق أقفال، وأبواباً خلف أبواب، ودفنت في تربة قاسية أحداثاً كثيرة ومشاهد الرعب اليومي. هذا على الأقل ما ظننت!

إنها المرّة الأولى التي يأخذني فيها البوح إلى نظرات الآخرين، فأتعرّى بجروحي وصناديقي المغلقة، وأمارس الغثيان، وأواجه من جديد ذلك الماضي الذي لا يكفّ عن النزف، والذي  يحتلّني

تماماً كما تحتلّ الأشباح أماكن مآسيها.

فصلان اثنان هما الأكثر إلحاحاً، والأعنف حضوراً وقهراً في حياتي. لم تنجح كلّ محاولاتي لقهرهما والانطلاق بلا ماض ولا ذاكرة. السبب بسيط ربما، لأنني أحمل آثارهما في جسدي كلعنة الآلهة. أو أن الأمور أكثر تعقيداً من ذلك. تافهة هي الأحداث التي حطّمتني. تافهة أسبابها وظروفها. لكن طعناتها أكثر تجذّراً من المخاوف الفطريّة وحتميّة موت الأشياء. هذا ما يدفعني اليوم إلى الحافة. لماذا كان على الأحداث أن تحصل على هذا النحو؟ كان يمكن أن لا تحصل أبداً، أو أن تحصل على نحو آخر أقل دراماتيكيّة وإيذاءً.

الفصل الأول كان ذات شتاء قارس. ثلج كريه وقاسٍ يغطي الطبيعة وحقيقة الأشياء، والليل نشر ظلمته من ساعات  فوق الخلائق. كعادتي كان عليّ أن أظلّ مستيقظة في المطبخ وجاهزة لخدمة الضيوف في واحدة من السهرات العاديّة. الطعام يروح ويجيء بين المطبخ وغرفة الاستقبال، وكلّ شيء يغري بأن الأمور يمكن أن تنتهي بهدوء. اغتنمت فسحة بسيطة من الوحدة، والتهمت ما توافر لي من بقايا الأطعمة في الصحون. لكن أمل حضرت فجأة وشاهدتني أخالف التحذير الذي طالما كرّرته لي. تراجعت منمامها    أمامها بعدما توقّعت أن تبادر فوراً إلى لطمي وتعنيفي، لكنها لم تفعل. اكتفت بتهديدي بأنني سألقى ما يناسبني بعد مغادرة الضيوف.

حين فرغ المنزل، انتظرت بقلق شديد ما يمكن أن تنزله بي هذه المرّة. بدت هادئة وأليفة على غير عادتها. قمت بمهماتي المعهودة التي تلي عادة مثل هذه السهرات، ونسيت أمر التهديد. حين انتهينا، رأيتها تحمل حراماً صوفيًّا بيدها وتتجه إليّ وقد تغيّرت سحنتها تماماً.

– “لن أنهك نفسي هذه المرّة بالضرب والصراخ، لقد أصبح جلدك سميكاً كجلد التماسيح. سأجعلك تنامين خارج المنزل”.

جرّتني إلى شرفة المطبخ وسط توسّلاتي ومقاومتي، وفتحت الباب المؤدي إلى الخارج. لفحتني على الفور صفعة هواء قارس نتيجة تراكم الثلوج، فاقشعرّ لها بدني. رمت الغطاء أرضاً ودفعتني فوقه:

– “هيّا، اندفني الليلة هنا أنت وقذارتك”.

– “أرجوك سيّدة أمل لا تتركيني هنا، الليل مخيف في الخارج”.

– “حتى الشياطين تشمئز من الاقتراب منك، فمما تخافين؟”.

قالت هذا وقفلت عائدة إلى الداخل بعدما بدأت ترتعش من البرد، وتركتني في قطبي الموحش.

كيف أصف تلك الليلة؟ هناك أحاسيس تترنّح الكلمات حولها عاجزة عن إلباسها الثوب المناسب.

ليل قارس زادته الثلوج وحفيف الأشجار والأصوات الغريبة فزعاً وتأثيراً. الريح تصفر بتهديد مرعب، وتحفر دعساتها فوق غطائي الوحيد. والثلج هنا، في كلّ مكان، يتكوّم في عرض الشرفة حيث انكمشتُ قرب الحائط لأبقى بعيدة مسافة نفس واحد عن حدوده المتربّصة. ملابسي الرقيقة لم تساعدني على الشعور بالدفء، فتحوّل جسدي إلى طاحونة للريح، يهتزّ على وقع الطبيعة ويخفق فاقداً السيطرة.

حاولت أن أخرج الأصوات من جوفي لأستشفع الآلهة لتخفيف اهتزازي،  فلم أسمع إلا حفيف شفتيّ المرتجفتين. شعرت بوحوش الثلج تتمظهر بأشكال مرعبة وتزحف صوبي. شدّيت على غطائي الضيّق الذي لم يكن كافياً ليشكّل أرضيّة أجلس عليها وواقياً يلفّ كامل جسدي. فاضطررت أن أسحبه كلّ الوقت من هنا وهناك، ليغطّي فتحة يتسرّب منها الصقيع.

شيئاً فشيئاً، زحف الضياع إلى دماغي. تشظّت أحاسيسي وانكسرت مرآة ذاتي، فلم أعد أعرف ماذا يجري من حولي، ومن أنا، وكيف يجب أن أشعر في حالتي. لم يبقَ مني إلا جسد مرتجف يحمل وعياً غائماً. اختبرت من جديد، وبتأثير أكثر حدّة هذه المرّة، الشلل يفقدني أعضائي عضواً بعد آخر، وينتشر من أسفل قدميّ صعوداً أو هبوطاً حتى رأسي.

لا أعرف كيف مضت الساعات في ذلك الليل الثـقيل، وما الذي حصل معي كلّ ذلك الوقت، ومتى حلّ النوم وقادني إلى غشيته. أو ربما فقدت الوعي فاستراحت أعضائي من الخفقان. كلّ ما أذكره أنني فتحت عينيّ في عالم آخر، مبهم وضبابي، حادّ في بياضه وبريقه. كانت الشمس قد طردت بقايا الظلمة الطويلة، وجعلت من وجه الثلج مرآة شديدة السطوع تعمي الأبصار بتوهّجها. ثـقيلة كثور جريح في حلبة إسبانية، أعماني النور القاسي، وتبيّنت بين خيوطه حضوراً ما. شعرت في الوقت عينه بلكزات متواصلة في خاصرتي. كان ذهني بطيئاً ورخواً، ثم بدأت أذناي تلتقط صوتاً آتياً من قربي:

– “قومي، انهضي! غفوت حتى في هذا المكان! من أيّ طينة أنت؟ حيثما رميناك تجدين طريقة للنوم”.

بدأ وعيي يلملم غيابه، فهبطت مرضّضة فوق أرض الواقع. كانت أمل تحاول إيقاظي منذ دقائق، وشيء ما فيّ يقاوم العودة. حين استعدت ذاتي، كنت حزينة حتى الموت. لم أعد أريد هذه الحياة، ولا ناسها وأحداثها وليلها الطويل.

– “هيّا، انهضي. لن أقف النهار بطوله في هذا البرد القاتل”.

أذعنت كئيبة وحاولت النهوض فلم أقدر. استغربتُ جسدي وعجزي الحقيقي عن النهوض. حاولت ثانية ففشلت من جديد، وهي تنظر صامتة إلى محاولاتي. ثم شعرت أنني ناقصة! بعد محاولات متكرّرة، فهمت كالوميض أن قدميّ لا تستجيبان لقراري. ظننت لوهلة أنهما ليستا في مكانهما. انتابني الذهول والقلق، ولم أفهم ماذا حدث لقدميّ.

– “سيّدة أمل، أين قدماي، لا أشعر بهما؟”.

مددت يدي وحاولت تحسسهما، فلم أشعر بشيء! صرخت من خوفي:

– “دخيلك سيّدة أمل، فقدت الإحساس برجليّ، ماذا أفعل؟”.

انتبهت بقلق إلى أن الحدث جدّي، فسألتني:

– “ماذا تعنين بذلك؟ لا شكّ في أن طريقة نومك أفقدتك الحسّ لفترة بقدميك، كما يحصل عادة”.

– “لا. لا. أنا لا أشعر بشيء”.

ورحت أنتحب باكية. انحنت صوبي وكشفت الغطاء عني، فاكتشفت برعب أن ساقيّ تفشّى فيهما الازرقاق بصورة كاملة.

– “ما هذا بحقّ الله؟” تساءلت مقشعرّة، ثم أضافت: “لا يأتي منك إلا المصائب! ماذا أفعل بك الآن؟”.

أمسكتني من كتفيّ وجرتني إلى المطبخ. تركتني فوق البلاط لتتصل بأحد الأطباء للوقوف على مشورته. كانت تتحدث بصوت خفيض حتى لا يستفيق زوجها ويطّلع على ما جرى. أخبرته أنني هربت أثناء الليل من المنزل، ومشيت في الثلج طويلاً، فوجدتني صباحاً فاقدة الحسّ والقدرة على المشي. ثم نادت أحد الجيران ليساعدها في نقلي إلى المستشفى كما أمر الطبيب. وفي الوقت الذي همّا فيه بحملي إلى السيارة استفاق السيّد إبراهيم، واستفسر مصعوقاً عن الموضوع:

– “ما بها حنان؟” سأل متّهماً.

– “العنيدة! لا تكفّ عن مخالفة أوامري المتكرّرة لها بعدم العبث بالطعام”.

– “أمل، لم أسألك ماذا فـَعَلـَتْ، بل ماذا فعلت أنت بها؟”.

– “لقد أغاظتني عميقاً ليلة أمس، إلى حدّ دفعتني فيه إلى جعلها تنام على الشرفة”.

– “ماذا؟” صرخ مذهولاً. “جعلتها تنام في الخارج في هذا الصقيع؟ أيتها الحيوانة المجنونة، هل تريدين قتل الطفلة وزجّنا في السجن؟”.

قال هذا وهجم عليها مستذئباً، وصفعها صفعةً مدويّةً جعلتها تدور على نفسها وتترنّح كرقّاص الساعة. كانت هذه المرّة الأولى التي أراه فيها يعاملها بهذه الطريقة. وعلى الفور حملني إلى السيارة وطار بي إلى المستشفى.

كشف عليّ الطبيب، فأحسست بالرغم من قدرتي الضئيلة على الاستيعاب، أن الوضع سيئ وخطر. “لا أعرف إذا كانت ستمشي من جديد!”، سمعته يحذّر إبراهيم. “يجب أن تكون على علم بكلّ شيء منذ البداية. الأمل ليس مقطوعاً طبعاً، فالصقيع الذي جمّد دماءها لم يقض على شرايينها تماماً، لكن الأمر صعب وبحاجة إلى علاج طويل وعناية”.

عدت إلى البيت مشلولة الأطراف. هزمني الأذى في جسدي وأفقدني حركة كنت أستعملها مرّات للهو والسفر من واقعي البغيض. لازمت الأرض طويلاً مرميّة فوق الغطاء الوحيد الذي رافقني كلّ السنوات التي عشتها في هذا المنزل، وفي الزاوية عينها التي كانت بمثابة غرفة نومي. كأنني محرّك صدئ  متروك لرطوبة الزمن لتزيد موتاً فوق موته.

كم ناجيت في شللي قدميّ ومسّدتهما بحنان الأم التي ترضع وليدها الباهت والمحرور. “متى تعودان إليَّ؟ متى تحملان جسدي من جديد، وتمشيان بي إلى زمن ناصع النقاوة؟” لكنهما ظلتا هامدتين، باردتين، ومفجوعتين بزرقة الاختناق.

رحت أراقب الطفلتين تلهوان أمامي وتضحكان وتتنقلان كفراشتين أسكرتهما ريح صيفيّة، فأتحسّر وأبكي. أهمّ باللحاق بهما فأنهزم، ويعاودني البكاء. تضايق الجميع من بكائي، تأفّفوا، تذمّروا، وصرخوا في وجهي، وأنا أنشج بين دموعي وأردّد: “أريد أن أمشي”.

تابعونا : الجزء السابع

الكاتب والاديب سمير فرحات
الكاتب والاديب سمير فرحات

شكرا للتعليق على الموضوع