وحيد عبدالمجيد يكتب : الفقراء المهمشون لا يثورون.. فماذا يفعلون؟

كانت ثورة 25 يناير، التى تهب روائحها العطرة هذه الأيام، نموذجاً فى النضال السلمى الذى عبر عن طموحات شرائح معتبرة من الطبقة الوسطى، واستند على تأييد أو تعاطف قطاعات أوسع من هذه الطبقة بعد أن وصل يأسها من أى إصلاح فى إطار نظام حسنى مبارك إلى ذروته.

وستظل هذه الثورة نموذجاً يُدرس فى علم اجتماع الثورات، ويُلهم كثيرين فى العالم، رغم انقضاض الثورة المضادة عليها مرتين بصورتين مختلفتين.

ومن أهم ما يُعنى به الدارسون فى هذا المجال العلاقة بين طبيعة السلطة من حيث السلمية أو العنف، والفئات والشرائح الاجتماعية التى تتصدرها.

والأرجح أنها ستُدَّعم افتراضاً قوياً قد يرقى إلى مستوى النظرية، وهو أن الثورات الشعبية السلمية من هذا النوع ترتبط بتحرك الطبقة الوسطى أو قطاعات مؤثرة منها تُشَّكل “كتلة حرجة” فى لحظة معينة، وتجذب إليها بعض الفئات الدنيا فى المجتمع.

 لماذا لا يثور “الغلابة”؟

فهذه الفئات الدنيا، وخصوصاً الأكثر تهميشاً وفقراً فيها، لا تصنع ثورة، بل لا تثور أصلاً، لأسباب تتعلق بثقافتها المجتمعية، وتعودها على الخضوع جيلاً وراء جيل، وسعيها إلى حل مشاكلها المعيشية بطرق فردية، فضلاً عن أنماط حياتها التى تجعلها مستعدة لانتظار مُنقذ تتوهم أنه سيأخذ بأيديها أو أى فُتات يُلقى إليها من أعلى.

 وهناك استثناءات بطبيعة الحال من هذه القاعدة. التى تبدو أقوى كلما تقلص عدد العمال الصناعيين، وصاروا أقلية صغيرة بين الفقراء، وتوسع نطاق الفئات الهامشية والمهَّمشة التى أصبحت أكثر تنوعاً بكثير جداً من “البروليتاريا الرثة” التى تحدث عنها كارل ماركس قبل ما يقرب من قرنين، واستبعدها من بين القوى الثورية التى كانت الطبقة العاملة محورها الرئيسى.

 وقد انخفض عدد العمال الصناعيين فى مصر الان الى نحو ثلث ما كان عليه حبن شارك بعضهم فى انتفاضة الخبز فى يناير 1977، رغم أن عدد السكان زاد بنسبة حوالى 130% منذ ذلك الوقت وأصبحت أغلبية ساحقة من الغلابة الذين يزدادون فقراً مهمشين وهامشيين لا تجمعهم مصالح مشتركة محددة.

ومن الطبيعى أن يثار هنا سؤال عن الآثار التى يمكن أن تترتب على ازدياد معدلات الفقر كماً ونوعاً، فى ظل الارتفاع الهائل والمتوالى فى الأسعار، نتيجة الإجراءات المالية والنقدية القاسية التى تهدف إلى خفض العجز فى الموازنة العامة، ومحاولة ضبط سعر صرف الجنيه أمام الدولار وغيره من العملات الأجنبية، وفى غياب رؤية لمعالجة المرض الاقتصادى الأساسى الذى تعد مشكلتا الموازنة وسعر الصرف مجرد اثنين من أهم أعراضه.

فهذه الإجراءات تؤدى بالضرورة إلى ارتفاع قياسى فى معدلات التضخم على النحو الذى ظهر فى التقارير الأخيرة للجهاز المركزى للمحاسبات، الأمر الذى يزيد الأزمة الاجتماعية تفاقماً. فالتضخم يلتهم جزءاً متزايداً من القدرة الشرائية للطبقة الوسطى والفقراء، أى القدرة على شراء ما كان يمكنهم ابتياعه من قبل.

 كما يؤدى إلى ركود قطاع متزايد من الأنشطة الإنتاجية التى يضعف الإقبال على شراء منتجاتها نتيجة انخفاض القدرة الشرائية لمعظم أفراد المجتمع.

ويقود ذلك إلى تحول الأنشطة الإنتاجية باتجاه ما يُطلق عليه سلع الفقراء التى يزداد الطلب عليها، لأن من انخفضت قدرتهم الشرائية يلجأون إليها بعد أن تنخفض قدراتهم الشرائية.

وينتج عن ذلك عدم قدرة هذه الأنشطة على تلبية الطلب المتزايد على سلع الفقراء. وعندما تضعف فى الوقت نفسه القدرة على استيراد هذه السلع بسبب صعوبة الحصول على العملة الأجنبية اللازمة لذلك، تتفاقم الأزمة حتى بالنسبة لهذا النوع من السلع، وترتفع أسعارها.

ويؤدى ذلك إلى إحدى نتيجتين أو كلتيهما. وهما عجز الأكثر فقراً عن شراء سلع الفقراء (السلع الأساسية لاستمرا الحياة عند أدنى حد لها) إذا توفرت فى السوق، وعجز الأقل فقراً عن الحصول على هذه السلع حين يزداد النقص فيها نتيجة قلة الإنتاج وضعف القدرة على الاستيراد.

هذا ما يفعله الفقراء المهمشون

ومؤدى السؤال عن الآثار المترتبة على ازدياد معدلات التضخم هو: ما الذى يحدث فى هذه الحالة، وهل يبقى الوضع ساكناً مادام الفقراء لا يثورون، وكيف يكون الحال عندما ينفذ صبرهم مع استنفاذ آخر أمل فى أن يجدوا ما يسد الرمق بصعوبة أقل، وليس بسهولة أكثر؟

وينطوى هذا السؤال على أهمية قصوى اليوم لأن الجواب الخاطئ عنه، من نوع أنهم مستعدون لتحمل اّلام فقر تشتد ضراوته دون أن يعرفوا له نهاية، قد يقود الى عواقب وخيمة، وربما يؤدى الى اضطرابات خطيرة منبتة الصلة بثورات الطبقة الوسطى السلمية ذات الصبغة الحضارية.

ونجد إجابة مستمدة من الواقع عن هذا السؤال فيما يحدث فى فنزويلا الآن، ويعبر عنه مشهد مؤلم وخطير نقلته “نيويورك تايمز” مؤخراً، عسى أن يستوعب صانعو السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية ما ينطق به لكى نتجنب كارثة مشابهة.

ولنقرأ بعض ملامح هذا المشهد: (الهجمات تتوالى على شاحنات نقل السلع الغذائية فى فنزويلا. ولذلك تقوم فرق شرطة مسلحة بحراسة هذه الشاحنات.

 كما يحرس الجنود المخابز. وتطلق الشرطة أعيرة مطاطية على أشخاص بائسين ينقضون على متاجر الخضر والبقالة واللحوم والصيدليات.

وقُتلت فتاة فى الرابعة من العمر بطلقات نارية بينما كانت عصابات الشوارع تتقاتل على حصصها من الطعام.

إنه الجوع يهز أوصال فنزويلا. واقتحم مئات من الأشخاص فى مدينة كومانا سوبر ماركت كبيراً بعد أن خلعوا بوابة معدنية ضخمة ودخلوا، وتنازعوا كل ما وقع تحت أيديهم، وخلفوا وراءهم ثلاجات مهشمة ورفوفاً مقلوبة رأساً على عقب.

 وسُجلت خلال أسبوعين أكثر من 50 حركة شغب كبيرة ومتوسطة من أجل الغذاء، فضلاً عن أعمال سرقة ونهب لا تُحصى فى أنحاء دولة لديها أحد أكبر الاحتياطات النفطية فى العالم).

وفى موضع آخر من التقرير الذى يرسم هذا المشهد نقرأ: (خلصت دراسة عن أحوال المعيشة أجرتها جامعة سيمون بوليفار إلى أن 72% من الرواتب الشهرية تُنفق على الغذاء فحسب).

وفى الموضع الخاص بتحليل المشهد نقرأ: (يقول اقتصاديون إن سوء التدبير الاقتصادى أدى إلى تراجع شديد فى السلع الغذائية التى كان بعضها يفيض ويُصدَّر مثل الذرة والأرز، فصارت تُستورد بكميات لا تكفى الحاجة. وأحكمت السلطة قبضتها على موارد الغذاء، وأوكلت إلى كتائب من الموالين لها توزيعه).

وينتهى التقرير بسؤال ينبغى أن نتأمله اليوم وليس غدا وهو: هل كل أعمال الشغب هذه بسبب الجوع فقط، أم نتيجة غضب تضخم فى بلد مأزوم؟

ولم يُطرح السؤال من بنات أفكار شخص، بل من واقعة ترويها صاحبة مطعم تدعى أينس روديجز عما حدث حين هاجمت مجموعة من البائسين مطعمها، فعرضت عليهم كل ما فى المطبخ من طعام مقابل عدم تحطيم الأثاث، ولكنهم رفضوا وحطموا المطعم بعد أن أخذوا ما فيه.

فهل نستوعب ونعى ونكف عن الاستهانة بالأخطاء القاتلة فى السياسات الراهنة، وبالأخطار الناتجة عن تفاقم معدلات التضخم وازدياد الضغط على الفقراء، وهل ندرك أن من لا يعرفون كيف يحتجون سلميا، أو توصد أبواب مثل هذا الاحتجاج فى وجوههم، يصبحون قنبلة قابلة لانفجار لا يريده أحد؟

وحيد عبدالمجيد – مصر العربية

شكرا للتعليق على الموضوع