أوراق المنفى ” قصة قصيرة “

من منزل ريفي تظلله أشجار الصنوبر والسنديان في إحدى ضواحي المنفى ، خلف أبواب مرصعة بألم ملونة بالذكريات المعذبة برائحة الحنين ، تطاردني سحابة الكتابة تهرب إلى الأوراق تريد الكتابة ترى في بياض الأوراق بشاعة الظلام ، فتهرب إلى حيث لا أعلم ، تاركة ورائها حقائب الذكريات تطل برأسها المفعم بالحنين ، مخترقة نوافذ الحرب ، أحاصرها بسدود من ورق .

سرعان ما تغرق في رماد الشوق والحنين ، تشب في مخيلتي نار تحرق كل ما يتعلق بماضيي وحاضري ، تتركني هشيماً في العراء .

ستبقى رائحتها مرسومةٌ على جدران قلبي المثقل بالجراح ، تناثرت من حولي صور الحنين ، وحلقت فوقي أحلامُ أعدمتها رمياً بالذكريات على منصة الواقع أمام حشود ترتدي عباءة الأمل .

  يتساقط الثلج على نافذتي المكسوة بغبار الحنين ، أقف وحدي محاط بكل الذين رحلوا إلى الغياب البعيد أستنجد بفنجان قهوتي لعله يهزم لحظة الشوق لكنه سرعان ما يتبخر في عناوين الغياب و الفراق .

الليل في المنفى يا وطني كابوس لعين يطارد الغريب بالذكريات ، يمر ثقيلاً بصمته القاتل المتوحش ليلا ، ظلامه مدكوك بالسواد يشبه كحل الحرب الذي أصاب عين الوطن بالعمى .

حتى القمر يغيب عن السماء ، والنجوم اختفت ورحلت إلى سماء لا يجلس تحتها غريب.

في منفاي اعبث بألوان منزلي لعلي أجد منها لون يهزم سواد الليل ، أتجنب مشاهدة التلفاز حتى لا أرى وطني بصوره المحترقة بين زوايا الحرب ، أصوات البنادق عدائية الصنع علت فوق أصوات الموسيقى ، واغتالت القصيدة وأغلقت المدرسة التي عشت فيها أجمل أيام طفولتي البريئة .

أنظر إلى نافذتي ذات الزجاج الملون أرى طيور النورس التي كانت تقف على مئذنة الجامع تحمل بين ريشها رائحة الوطن ، أذهب إلى جارتي الخياطة وأنا أنزف ، أطلب منها خياطة جروح الوحدة والغربة التي أعيشها ، أراها منهمكة في خياطة لباس أبنها الذي ذهب إلى الحرب ولم يعد .

تنسجها بخيوط الأمل وتلون من دموعها أزرار القميص ، لم تفقد الأمل يومٍاً بأن يطرق بابها ظله البعيد .

أتجول في شوارع المنفى تنتشر الفنادق ذات الأبنية الشاهقة في قريتي لا يوجد فندق واحد أعلى بناء فيها  ارتفاعه طابقين يمر القطار من أمامي أتذكر أن القطار لم يكن يمر من قريتي الصغيرة لأن الشوارع ضيقة وعندما اندلعت الحرب مرت منها الدبابات .أثناء تجولي رأيت فتاة تقف عند إشارة المرور تلوح  بيدها لحبيبها لمحت في عينيها ابتسامة حبيبتي التي كنت اشتري لها من مصروفي الشخصي قطع الحلوى و ألعاب الأطفال هي اليوم زوجة جاري الغني .

تمر أيامي على شكل دموع بطيئة تتدفق كالنهر الجاري من نبع أحزاني.

في منفاي البعيد تغير عنواني مراراً وتكراراً ولكنني ما زلت أحن إلى رصيف أحزاني الأول أموت في اليوم مرتين أو أكثر الموت حق وأنا تنازلت عنه لذكرياتي المعلقة على أبواب السماء قلبي أسير بين السطور على ساحات الورق منهزم في معركة الكتابة ضائع بين أوراق المنفى من لا يملك وطن مثلي تصبح الكتابة بيته الذي يعيش فيه على هامش الحلم.

عبد الكريم الأحمد

تاليف : عبد الكريم الأحمد – سوريا

ِ

ا

شكرا للتعليق على الموضوع