تغريبة “باشو” ومحاولة مهرجان أفلام الأطفال لإعادة المجد لسينما الطفل
اصفهان – أحمد حيدري : في بداية شارع لشكر آباد (الرفيش)، يجلس باشو على كرسيه أمام كشك لبيع السجائر. تجاوز عمره الأربعين، ولا يغادر مكانه خوفا من هروب السياح الأجانب الذين جاؤوا ليلتقطوا صورًا معه، أو زوار من مدن أخرى وصلوا ليستعيدوا ذكرياتهم، ويبيعهم علبة سجائر لوّحتها الشمس. فهو بطل فيلم حصل على عدة جوائز عالمية، وأينما يشارك في مهرجان، تغطية الصحافة والنقاد.
ولكن لنعود إلى ثلاثين عاما مضت، وإلى: ما الذي يمكن للحرب أن تفعله في طفل؟ وما الذي يمكنه الفيلم أن يفعله بطفل؟
غناء بحري وأجساد نخيل وسقوط قذائف، هذه بداية فيلم “باشو الغريب الصغير”، حيث يظهر فجأة طفل من بين القصب كجنّي. أسمر خائف وفضولي. يُعتبر هذا الفيلم من أهم الأفلام الإيرانية المخصصة للطفل.
لكنّ الفيلم يخلط كل ما يُستمد من الجنوب ببعضه، فغناء بحري مع “نعاوي” نسائية عربية وثياب ترتديها النساء في البنادر، وبالتحديد في بندر عباس. المهم مصدرها كلها الجنوب، رغم البون الشاسع بين كل واحدة منها. ويستمر المخرجون والكتاب، في الأفلام وفي المسلسلات في هذا الخلط الثقافي.
يركب بطل الفيلم “باشو” شاحنة، دون علم سائقها الهارب من أرض تُقصف بشدة، ليفتح عينيه ويجد نفسه في الشمال، يترجل ويدخل غابة ثم مزارع الأرز.
هاي هي سحنة داكنة جدا وعينان بنيتان تدخلان دنيا السحنات الشمالية البيضاء اللامعة والعيون الملوّنة. جملة أطلقتها البطلة “ناتي” سوسن تسليمي، المتحدرة من عائلة فنية، ستتردد طول الفيلم: “كم أنت أسود!”. العزف على وتر: كلّ ما هو جنوبي أسمر وأسود وأقل، هو الحالة العكسية كلّيًا للشمالي. قطبية الشمال والجنوب. ستتحين الفرصة لكي تغسله وتسقط هويته السوداء عنه، لكن الماء لن يأثر في إسقاط السواد. وستقول وهي مندهشة: “لا، لافائدة، لم يصبح أبيض”.
بعد مرور عشرين دقيقة من الفيلم يتحدث الجني الأسود “باشو” من هو ومن أين جاء وماذا حدث لأمه ولأبيه. رغم المبالغة في لغته لتقريبها من الفصحى، وتلعثمها بها، ولن تنساب مثلما سيحدث في حواراته مع الجميلة “ناتي” وهي تسأله وتعلمه بلغتها الرجولية، أدوات الحقل الذي سيعمل فيه والذي أظهر الممثل الطفل نبوغة في التمثيل. جعل الغريب باشو من البيت إلى لجئ إليه خشبة مسرحه. رغم كل ذلك لم يفهموه ولا عرفوا ما حدث له ومن أين جاء.
الفيلم المنتج العام 1990، يلامسه فيلم “لون الله” مجيد مجيدي (1999)، إذ المنتج والداعم للفيلم جهة واحدة، وهي المركز التنموي الفكري للأطفال واليافعين، الطفل هو المحور وتعلب الطيور فيه دور اللحظات الحرجة وتتحدث ناتي معها وكذلك سيفعل باشو، وبطل فيلم “لون الله” محمد يعتمد على صوت الطيور لكشف العالم اعتمادا واضحا.
من المشاهد الصادمة في الفيلم، النار في التنور وصوت الرعد، وباشو يشعر بقصف الطائرات الوشيك، ينام على الأرض ويدعو الجميع للاختباء، لكن لغته تختلف عن لغتهم، يضحك الأطفال المحيطون به، ويهجمون عليه ليضربوه، وهنا، هنا بالتحديد تتحطم التغريبة الباشوهية. واقع على الأرض، العالم من حوله يضحك عليه يقول: “إيران سرزمين ماست. ما از يك آب وخاك هستيم”. “إيران أرضنا، نحن من أرض واحدة”.
جملة قاصمة لمَن حوله، هذا الجني الأسود منا.
تصل رسائل لناتي من زوجها الذي لا نعرفه، ويقرأها لها الجيران، في إحدى الرسائل يذيّل الزوج المفقود رسالته بتحية زوجته وابنه وابنته، وتنتهي الرسالة، تنهض ناتي لتتقفها وتقبض عليها معكوسة، خلط الشمال بالجنوب، لتكمل دور باشو المستقبلي، هو رجل البيت وسيعمل في الحقل ويحرسه من الخنازير البرية معها، ومشهد الخنزير في حقل الأرز يكشف رجولية ناتي المحيرة. التي سيوقعها المرض في الفراش، وسيأخذ باشو دورها الأمومي ليقدم الطعام للدجاج ويغسل طفليها، بل سيكتب ويقرأ الرسائل منذ هذه اللحظة.
يحاول المهرجان الدولي لأفلام الأطفال واليافعين الثلاثين في اصفهان، إعادة مجد أفلام الطفل عبر الأفلام التي يستعرضها واستحضار مثل هذه النوعية من الأفلام. فبعد أن مُنع الفيلم لأعوام من العرض، مع أول عرض له وصلت للصحف والقناة أكثر من 55 ألف رسالة تتحدث مع الفيلم وأبطاله، أكثرها من الأطفال، البعض منها يكمل ما سيلاقيه باشو الباقي للعمل في الحقل مع أبيه الجديد زوج ناتي، الذي فقد يده اليمنى فلم يلمس يد باشو الممدودة نحوه، ولم يكن أمام الجني المقبول به الآن غير احتضانه.
يقول بائع السجائر الآن وبطل الفيلم سابقا عدنان عفراويان “باشو”: أحاول محو باشو من ذهني، لقد فقدتُ كل شئ. ولا آمل إلا أن أسمع صوت المخرج بهرام بضائي أو صوت الممثلة سوسن تسليمي”.