مجانين ” قصة قصيرة “

كان الحلاق يمرِّر آلة الحلاقة فوق شعري ، حين بدأ يروي قصص المجانين.

– ” أترى هذا الشاب الذي يعبر الآن الشارع ؟ مسكين ! كان واحداً من ” شلتنا ” ، وكنا لا نفترق . أما الآن فقد أصبح في عالم آخر “.

– ” ماذا تعني ؟”.

– ” لا أعرف ما الذي أصابه ، لكنه يبدو وكأنه فقد عقله “.

التفتُّ بسرعة إلى الخارج لألمح مظهر الجنون فوق وجهه ، لكنه كان يدير ظهره إلينا . ولفتني تقوُّس ظهره وكأنه في السبعين من عمره، ورأسه المائل فوق كتفيه بصورة دائمة .

استأنف الحلاق حديثه بعدما استشفَّ اهتمامي بما يقوله :

– ” أخته طبيبة أطفال ، وأخوه الأكبر مهندس مدني يعمل في أميركا . ولديه أخ آخر يدرس الاقتصاد في الجامعة . أما هو فقد أخرجته والدته من المدرسة وهو في الثالثة عشرة من عمره. لا أعرف ، أظنُّ ذلك . أو ربما هو لم يعد يريد متابعة الدراسة، لم أعد أذكر. المهم أنه بدأ يزاول أعمالاً صغيرة. لا يستقر أكثر من بضعة أيام في عمله الجديد ، ثم يلازم البيت لفترة طويلة . بعد فترة ، بدأت أراه منكباً على الأعمال المنـزلية، كل مرة أقصده للتسلية أو للتسكع هنا وهناك . ماذا تفعل يا طوني ؟ اسأله . هل أصبحت امرأة ؟ يبتسم ابتسامة فارغة ويتابع عمله وكأنني غير موجود.

 في المرات القليلة التي تمكّنا بعدها من إخراجه من وكره ، كان يبدو صامتاً ومنسحباً إلى عالم آخر طيلة الوقت .حين نلتقي ببعض الفتيات من صديقاتنا ، وتدور بيننا أحاديث مختلفة ، يبدو طوني قلقاً ومضطرباً بشكل غير اعتيادي .يدير وجهه بسرعة إلى جهة بعيدة، وكأنه صادف فجأة جثة ميت ، ويبدأ بفرك يديه مهموماً .

” طوني ، كيف حالك يا طوني ؟”، تسأله إحداهن .

فيبدأ بهزِّ رأسه بانفعال ، من غير أن ينبسَّ بكلمة.

في تلك المرحلة ، كنا نتعامل مع حالة طوني بسخرية تامة. كيف يمكن أن تلومنا ونحن في صخب المراهقة وجوها المشحون بمشاعر التميز والرفض والسخرية ! رحنا نحاول أن نخرجه من البيت ، ليغني تسكعنا بأجواء المرح والضحك والمقالب. كانت تصرفاته الغريبة تزداد مع الوقت ، وحرجه المفرط أمام الفتيات يتحول إلى حالة  في غاية الطرافة .

جلب أحدهم مرة كولوتاً نسائياً ، وخبأه في جيبه. وعندما انفردنا بطوني ، سحب الكولوت ورماه في وجهه ، وقال ضاحكاً :” هذا الكولوت لليلى . أتعرفها؟ لقد نسيته البارحة “.

وكانت ردة فعل طوني هستيرية إلى حد ، لم تكن أفضل تخيلاتنا  الساخرة لتتوقعها. فقد قفز كالمجنون إلى الخلف ، وكأن سيارة تكاد تدهسه ، وراح يصرخ وينتحب قبل أن ينهار باكياً على الأرض.

لم يجلب هذا المشهد المسرحي إلا الضحك والمرح إلى نفوسنا، من غير أن تنتابنا أي فكرة معقولة عن الحالة التي تحوَّل إليها طوني.

ثم انتهى به الأمر إلى الانطواء التام. عندما يرانا قادمين إلى منـزله ، يدير ظهره لنا وينسحب . وحين نقترب ، نسمعه يتمتم بصوت مسموع كلمات غير مفهومة . أدركنا بعد سنين أن طوني أصبح مجنوناً. حتى شكله تغيَّر ، لا أعرف لماذا.

واليوم ، هو شاب في الثلاثين من عمره ، كما ترى. يقضي النهار وجزءاً كبيراً من الليل ، في التسكع فوق الطرقات . تراه مستعجلاً وكأنه تأخر على موعد. حين ألتقي به وجهاً لوجه ، تبدر منه جملة واحدة ، يكرِّرها بلا توقف حتى نفترق :

” أنا لا أصافح. لا أصافح أحداً. أنا لا أصافح”.

أتأمل به ، فأتذكَّر طوني الصبي الذي كنت ألعب معه ، ونخترع معاً شيطناتنا الطفولية . هل يمكن أن تشرح لي ماذا جرى له؟”.

فاجأني السؤال ، وأنا مستغرق في تتبع القصة. أخذني جنون طوني إلى ذكرياتي الخاصة. كانت مسألة الجنون تثير قلقي باستمرار. ما هو الجنون؟ وهل يعقل أن أصبح يوماً مجنوناً؟

أربكني هذا الموضوع، لأن اثنين على الأقل من أصدقاء طفولتي تحوَّلا إلى مجنونين. ليس الجنون بمعنى المنغولية الحادة، أو الخبل الذي يولد به الإنسان، ويمكنك أن تميزه منذ الأشهر الأولى. إنما ذلك التحوُّل إلى الغرابة في التصرف ، وسذاجة النظرات ، وبساطة التفكير، والضحك المعتوه، والحركات غير المبررة والمتكررة بشكل تسلطي.

عُرف توفيق بشقاوته الفظيعة في الحي كله. لا يهدأ، ولا يدعك تهدأ لحظة واحدة. كنا ننتقل من التسابق ، إلى لعب الكرة ، إلى الاختباء في الأحراج، واختراع ألعابنا الطفولية، إلى الطعام ، ثم التسابق ، ثم اللعب ، من غير استراحة ولا هدنة. عشنا سنوات طويلة معاً على هذه الوتيرة، حتى منتصف المراهقة. تباعدنا بعدها بسبب الدراسة ، والأصدقاء الجدد، واختفى توفيق تقريباً من حياتي.

علمت بعد فترة أنه سافر ليعمل في الخارج ، فغاب تماماً عن ذاكرتي. ثم التقيت به بعد سنين. يا الهي! كدت لا أصدق عينيَّ. لقد شاب شعره تماماً، وفقد معظم أسنانه ، وغزت وجهه بعض التجاعيد ، وتحوَّلت بشرته إلى الاصفرار المرضي. صدمني المشهد تماماً ، ولم أستوعب في وعيي للوهلة الأولى ، التحوّل الذي أصاب توفيق. تقدَّمت منه مبتسماً، وحاولت أن أبدو غير مكترث لصورته الجديدة ، أو غير منتبه إليها.

– ” كيف حالك توفيق ؟”

لمحت فجأة عينيه المخبولتين، تبحثان عن صور الماضي. عرفني بسرعة ، ومن النظرة الأولى، برغم مرور أكثر من خمس عشرة سنة على آخر لقاء بيننا.

ابتسم بوداعة ، وكأنه فرح بالعودة إلى ذكرياتنا المشوشة.

-” أنا بخير. وأنت؟ لقد كبرت “.

– ” أجل ، فقد مرت سنين طويلة منذ أيامنا الماضية “.

حاول فجأة مواصلة الحديث من النقطة التي انقطع فيها في مراهقتنا :

-” هل تذكر كيف كنا نلعب معاً ؟”.

– ” أجل ، كان الماضي جميلاً “.

وانقطع الحوار بلا مبرر. توفيق متمسك بابتسامته المخبولة ، وأنا أتأمل به حائراً ومرتبكاً من شخصيته الجديدة ، التي لا اعرف عنها شيئاً.

– ” واليوم ، كيف أحوالك ؟” ، سألته مستأنفاً الحديث.

– ” أنا بخير “.

– ” ماذا تعمل ؟”.

– ” لا شيء. هل تذكر كيف كنا نلعب معاً ؟”.

– ” طبعاً ، طبعاً. كانت أياماً جميلة “.

واحترت بعدها ماذا أقول، وأنا انظر إليه تائهاً وسط ضباب كثيف يلفُّ عقله.

– ” هل تريد شيئاً ، لقد سعدت برؤيتك “.

– ” إذاً ، ما زلت تذكر كيف كنا نلعب معاً “.

– ” اجل طبعاً ، إلى اللقاء “.

غريب أمر الجنون. ماذا أصاب توفيق؟ لم يكن هناك أي مؤشر على الحالة التي سيتحوَّل إليها. لماذا هو وليس أنا؟ كنا أصدقاء ولم نكن نفترق.

علمت بعد ذلك أنه كانت له علاقة حب، وهو في مطلع العشرينات من عمره. سافر ليؤسس لمستقبله، ويتمكن من الارتباط بمن يحب، وتواعدا على الزواج والوفاء.

تواصلت العلاقة لأشهر قليلة ، قبل أن تطلب منه الفتاة عدم الاتصال بها مجدداً، لأنها على علاقة بشاب آخر، وقد تقدم لخطبتها. لم تنفع توسلاته وتذكيره بالوعود التي قطعت ، في حملها على العودة عن قرارها. فما وقع قد وقع.

وبعدها ، بدأت حالة توفيق المعنوية والنفسية بالتدهور. من الحزن ، إلى الانطواء، إلى العصبية، إلى الانحطاط والترهل ، فالجنون.

أين غاب ذلك الطفل والمراهق والشاب المملوء حيوية ونشاطاً وحماسة؟ ماذا بقي منه؟ وما صلة هذا ” المجنون” الذي ألتقيه مرة بعد أخرى به؟

وما يحيِّرني أكثر هو أن الآلاف والملايين من الشبان والشابات ينهون علاقات عاطفية من غير أن يفقدوا عقولهم. بعض الحزن والحداد لفترة معقولة قبل أن تعاودهم الرغبة بالحياة والحب من جديد. لماذا من بين كل هؤلاء، فقد توفيق عقله؟

– ” في داخل كل واحد منا شعلة جنون تنتظر من يوقدها”.

قطع الحلاق تأملاتي وذكرياتي، باستنتاج فلسفي جعلني أنسى لوهلة المكان الذي أنا فيه، ومن هو صاحب الجملة الأخيرة.

-” لكن هذا لا يجعلنا مجانين !”.

– ” لا ، طبعاً. أنا أقصد الجنون ، بمعنى ” الشعطة ” الموجودة في كل واحد منا “.

ابتسمت له.

– ” نعم ، هذا صحيح”.

– ” نعيماً” ، فاجأني بها ، وأنا مستغرق بعالم الجنون ، وأكاد أسترجع في رأسي كل تصرف غريب يصدر عن أحد معارفي.

– ” شكراً لك “.

غادرت صالون الحلاقة ، وفكري ما زال معلقاً بين توفيق وطوني. انتبهت فجأة إلى أنني لم أخبره عن المجنون الثاني الذي كان فيما مضى رفيق طفولتي. لكن في تلك اللحظة بالذات، غابت صورته تماماً عن ذاكرتي.

حاولت جاهداً أن أتذكَّر من هو، لكنني لم افلح.

” غريب!”، قلت في نفسي. ” هل يعقل أن أنسى مَن من رفاق طفولتي

أصبح مجنوناً؟”.

ثم لاحظت فجأة ، أن الناس من حولي ينظرون إليَّ نظرة غريبة. ولمحت بعضهم حتى يبتسم.

” ما بالهم، بحق الله! هل في شكلي ما يثير الدهشة والابتسام ؟”.

ثم مررت أمام واجهة أحد المحلات، التي انعكست صورتي فوقها. حدَّقت جيداً، فلم أتعرَّف إلى الشخص الذي أنظر إليه. لم يكن أنا. ولوهلة ذكّرني شكله بأحد المجانين الذين أعرفهم.

شعرت بالحيرة.

” مسكين هذا الإنسان “، قلت في نفسي. ” هل يدرك حقاً أنه مجنون؟”.

الكاتب والاديب سمير فرحات
الكاتب والاديب سمير فرحات

اقرأ للكاتب :

 أعطني وهماً آخر

شكرا للتعليق على الموضوع