رضا عبد السلام يكتب :أجمل الذكريات مع شم النسيم!!
أكتب هذه الكلمات بعد عودتي من عند الحاجة أمي في البلد، بارك الله في عمرها ولا حرمنا من دعائها.
أكرر دائما بأنه رغم بساطة حياتنا في الريف خلال سنوات الطفولة والشباب…ورغم ضيق ذات اليد خلال تلك السنوات..إلا أنها كانت أجمل سنوات العمر…
شتان بين ما نحن فيه الآن من رفاهية وتكنولوجيا، وبين ما كنا نحياه في تلك الأيام من صعوبات الحياة والخيارات المحدودة…ورغم ذلك…تحن أفئدتنا دائما لتلك الأيام البريئة والجميلة…وذلك الريف الذي كان يوما ما…بريئا وجميلا.
شم النسيم…كان له طعم خاص جدا…مثل أي شيء آنذاك…الريف والغيطان وأشجار التوت والصفاصاف التي كانت تتدلى أوراقها الخضراء لتعانق مياه الترع…
رائحة البرسيم وحقول الفول والخضراوات…والبيوت المتشابهة والتي يعانق ويحمي بعضها بعضا…والسكون الذي يكسره الآذان…ياه على الجمال…هل يمكن أن يعود؟!
كنا في اليوم الذي يسبق يوم شم النسيم نمارس طقوسنا التي توارثناها عن اجدادنا الفراعنة، بأن نقطف أغصان وفروع الصفصاف، ثم نجعلها في شكل دائرة، ونعلقها أعلى باب البيت أو في رقاب المواشي، او على السيارات أقصد العربات الكارو التي تجرها الحمير…وذلك تمهيدا للاحتفال بشم النسيم.
في الليلة التي تسبق شم النسيم، البيوت كلها في حالة حركة ونشاط وترتيبات لإعداد الفطير المشلتت وفطيرة الصينية وشوي السمك، والغني في البلد كان يجيب رنجة يتنطط بيها..وطبعا دهان البيض (البيض البلدي وبيض البط كبير الحجم) بالألوان المختلفة.
أما دهان البيض فكان قصة لوحده…كنا من الليل او من بعد صلاة الفجر مبرابطون عند الحاج صانع الحصير، والحصير في الريف كان يتم تصنيعه من نبات السمار، الذي كنا نزرعه على حدود حقل الارز…
فكان يتم دهان الحصير بألوان الأخضر والأحمر والازرق…كنا في كل عام وقبل شم النسيم نحجز نتوسط عند صانع الحصير لشراء، أو للأمانة لشحاتة (تباته كده) الدهان الذي سندهن به البيض.
كنا نجلس ونراقب الأم بتركيز شدبد وهي تدهن البيض بالألوان الأخضر والأحمر والأصفر والأزرق…كنا نعتقد أنها تخترع الذرة.. وهي كانت تشعرنا فعلا أن الموضوع كبير، واحنا كنا مقتنعين …هي كانت سعيدة..وسعادتها أنها كانت ترى السعادة تلمع بها عيوننا.
المهم…كنا نلتف ونتنافس لنرص البيض في السبت المصنوع من الخوص أو من الغاب…كنا نضع في قعر السبت البرسيم الأخضر ثم نرص فوقه البيض بألوانه المختلفة، ثم نضع أعلاه الفطير المشلتت وفطيرة الصينية وهي أشبه بالبسبوسة…ولو فيه برتقالتين نبقى محظوظين، ثم نغطي السبت مرة أخرى بالبرسيم أو بأوراق الصفصاف.
طبعا كانت الأمهات في ذات الشارع يود بعضهن بعضا ويهدي بعضهن بعضا من الفطير والبيض وفطيرة الصينية، حتى يطلع النهار على كل أهل الشارع والجميع راض وسعيد…كان فيه إحساس…كان فيه جمال.
بعد ترتيب السبت في الليل أو بعد الفجر، وفي صباح يوم شم النسيم، كنا نسابق الشمس في الوصول إلى الحقول….البعض كان يخرج في عائلات…والغالب أننا كنا نخرج كأطفال وكل منا يحمل السبت الخاص به في يد وقلة المياه في اليد الأخرى، كنا نبحث عن أفضل شجرة توت (التوت الأبيض والتوت الاحمر) لنستظل بظلها ونملي عيوننا بجمال ثمارها.
كنا نفترش أوراق وأغصان نبات الصفصاف على ضفاف الترع التي تفيض بالماء النقي، بعد ان يخرج كل منا مافي السبت الخاص به، ثم تتبادل الأشياء حتى يصير معنا جميعا نفس الأشياء…
القضية لم تكن قضية طعام أو شراب بقدر ما كانت اللمة والصحبة والجو الجميل والطبيعة الريفية الساحرة…والله تعجز حروف اللغة العربية عن أن تصف هذا الجمال..الذي ولى معظمه ولم يتبقى سوى النذر اليسير منه.
بعد أن ننتهي من الطعام…كنا ننطلق ونصعد اشجار التوت كما القرود…ثم نبدأ في هزها فيتساقط التوت على الأرض…غالبا كنا نأكله دون غسيل….أما الولد النظيف والمعقد منا أو ابن الناظر، فكان يجمع التوت في طبق ثم يقوم بغسله في الترعة برضو…طبعا أكل التوت لم يكن بالأمر الهين، وكنا غالبا ما ينتهي بنا الأمر لعلقة سخنة من صاحب التوتة، وكان ذلك في آخر أيام الريف الجميل.
بالطبع…كان الشاطر فينا من يختم يومه بغطس في الترعة…والدولة آنذاك كانت حريصة على أن تكون الترع في هذا اليوم تفيض بالماء ليسعد الناس.
كان يوم شم النسيم هو يوم للم شمل الأسرة ولكن في الحقول…كان ذلك عندما كان الريف بريء وعندما كانت الحقول بريئة وعندما كانت البيوت بريئة بجمالها الطبيعي، بل وعندما كانت النفوس بريئة لا تعرف الحقد أو الحسد.
الآن أولادنا لديهم كل شيء وأشياء كثيرة لم نملكها عندما كنا في اعمارهم ولكنهم قطعا لم يتذوقوا طعم السعادة والمتعة ولم ترى عيونهم الجمال الطبيعي الذي عشناه في ذلك اليوم الجميل في الريف الجميل…أقصد الذي كان جميلا…
فما بقى لابنائنا واحفادنا هو حطام الريف الجميل…ولكننا دائما تخدع أنفسنا بقولنا بأن مفهوم السعادة يختلف من جيل لجيل حتى نسلم بالأمر الواقع ونواصل الرحلة….كل عام وانتم جميعا بخير وسعادة.
بقلم ا . د : رضا عبد السلام محافظ الشرقيه السابق
اقرأ للكاتب :
رضا عبد السلام يكتب : الصعيدي…جاني أم مجنيا عليه؟!