يوميات دينا ابو الوفا … عارفين

سافرت الام مع زوجها وأولادها الى الغردقة، مصطحبين معهم الصديقة المقربة لابنتها الوسطى و التى أتت فى زيارتها الاولى لمصر بعد مرور ثلاثة أعوام كاملة على إقامتها بالولايات المتحدة الأمريكية ..

كان كل شئ يسير على اكمل وجه والجميع يستمتع بوقته على طريقته الخاصة …

فالأم تقضى أغلب وقتها مستلقية على شيزلونج تحدق فى الأفق … تملى عينيها من درجات الأزرق الساحرة فلا شئ يضاهى عناق جمع بين السماء والماء .. سوى ان تنضم الى المشهد ، أشجار النخل الشامخة بلونها الأخضر المبهج لتكتمل روعة المشهد … تستمع الى موسيقى هادئة ، لتغفو بين الحين والآخر وترحل الى عالم الأحلام الخاص بها

أما الأب فقد قضى أغلب وقته فى الماء ، يسبح احياناً ويستلقى بظهره على سطح الماء احيانا اخرى لينعم بتلك الحالة من الاسترخاء التام …

اما اولادها وصديقة ابنتها ، فقد قضوا وقتهم بين السباحة والاسترخاء ولعب “الكوتشينه” وال “فولى بول ” وممارسة ال “زومبا ” وال “أكوا ايروبيكس”

ورسم التاتو و سماع الموسيقى الصاخبة التى لم تلق استحساناً من الام اغلب الوقت ، فأذنيها لا تتحمل ذلك النوع من الموسيقى … فهى من وجهة نظرها احد اهم اسباب التلوث السمعى !!!

ولكون الموسيقى احد أوجه الاختلاف والخلاف الواضحة بين الأجيال ، اى بين جيلها وجيل اولادها ، والتى لن يصل فيها الطرفان الى نقطة التقاء ، فقد قرر كل طرف منهما ان ينعزل بعيداً عن الاخر ويستمع الى ما يحلو له ….

وفى كل ليلة كان الجميع يخرج لقضاء أمسية طويلة ممتعة خارج الفندق…

ومر يوم تلو الاخر والأمور تسير بشكل جيد … فالضحك لا ينقطع والحديث لا يتوقف واللحظات السعيدة تتوالى ، فيصير لكل منهم ذكرياته الخاصة به التى يضيفها الى البوم ذكرياته الثرى….

الى ان كانت ليلة ، لاحظت فيها الام ان الصمت قد غلب على ابنتها الوسطى … فأنقطع حديثها تماماً … واكتفت بالرد على الجميع بإيماءة من رأسها اًو ابتسامة باهتة لا معنى لها … بدت شاردة فى عالم آخر لا يعلمون عنه شيئاً ….. وكأنها تدير مع نفسها فى سكون تام حواراً، قررت الا تشرك احدا ممن حولها فيه ….

حتى ان ذلك التغير الذى طرأ على ابنتها قد أغضب صديقتها بعض الشئ … فحدثت ابنتها قائلة

” هو انا جايه من اخر الدنيا عشانك ، تقومى تسكتى كده ومتتكلميش … عامة يا ستى كلها كام يوم وارجع امريكا ومش هتشوفينى وهترتاحى منى”

فنظرت الابنة الى صديقتها واتت اجابتها مربكة للجميع …. صمت تام ودموع قد بدأت تتسلل الى عينيها …. دموع لم تلحظها سوى الام …

هكذا هى الام ، ترى فى اولادها ما لا يراه غيرها ، ، تقرأ ما لا يقرأه غيرها ، تسمع ما لا يسمعه غيرها ، تشعر بما لا يشعر به غيرها، تفهم ما لا يفهمه غيرها ،

فالأم ترى وتقرأ وتسمع وتشعر وتفهم بقلبها … فقلب الام يعد من أذكى اجهزة المخابرات ، ان لم يكن اذكاها على الاطلاق !!!!

ولان الام شعرت بمشادة على وشك الحدوث ، كان عليها التدخل سريعاً لتلافيه ..

ولكن لم يكن هذا هو السبب الوحيد وراء تدخلها ، بل كان السبب الأهم والرئيسى هو انها ادركت تماماً السر وراء سلوك ابنتها الغريب …. ادركته بسهولة كونها ام ولان ابنتها تشبهها كثيراً فى الطباع والروح …

نظرت الام الى صديقة ابنتها محدثة إياها بهدوء شديد

“حبيبتى …. بنتى معندهاش اغلى منك ولا بتحب حد فى الدنيا قدك … وسعادتها بوجودك معاها سعادة كبيرة اوى … يمكن مش بشوف بنتى على طبيعتها غير معاكى ولا بتتكلم مع حد قد ما بتتكلم معاكى … انتى لما سافرتى من تلات سنين … بنتى مرت بفترة سيئة جدا … قفلت عليها أوضتها … بطلت تتكلم معانا … انعزلت عن العالم كله .. عيطت كتير واتاثرت جامد بغيابك … لانك كنتى تقريباً توأم روحها … فضلت فترة كبيرة مش عارفه تتأقلم ولا تكون صداقات جديدة … كان كل اللى فارق معاها انك بعدتى عنها ….

وعشان كده لما جاتلك من سنة امريكا ، مكنتش عايزه ترجع ، لانها مش عايزه تتوجع تانى ولا تفترق عنك تانى…

والسنة دى انتى جيتى وكان رد فعلها اول ما شافتك بعد سنة غياب ، انها تبقى فرحانه اوى وتتكلم كتير وترغى وتحكى …

بس بنتى زيي بتخاف من الفراق ، بتخاف من الوداع ، بتخاف من احساس الاشتياق ، بتخاف من الوجع …. “

واستكملت الام حديثها بعد ان توجهت بعينيها الى ابنتها

” فبتشيل هم اللحظات دى قبل ما تحصل … وتبتدى تعيشها قبل حتى ما ييجى أوانها وده الحقيقة غلط … لانه ده بيخليها تفقد القدرة على الاستمتاع باللحظات الجميلة … خوفها من المستقبل بيخليها تنسى تعيش الحاضر …

بتقدر البلا قبل وقوعه زى ما بيقوله … وعشان كده هى ساكتة ودموعها محبوسة جواها دلوقتى …

علشان فكرة ان الايام اللى باقية معدودة وأنك كلها كام يوم وهتسيبيها واجعاها ومخوفاها … “

اتت دموع الابنة ، لتأكد نظرية الام…

نظرت الام الى الاثنتين واحتضنتهما بقوة ، وقبلتهما…

“عيشوا الحاضر ، عيشوا انهارده … استمتعوا بكل دقيقة ولحظة فيه … سيبوا بكره لبكره …. متخلوش بكره يسرق منكم انهارده …

وطول ما انتم مصممين على استمرار الصداقة دى هتستمر برغم المسافات … المسافات الطويلة عمرها ما قطعت روابط صداقة حقيقية ولا عمر قرب المسافات ما وصلت صداقة كدابه … يلا اسيبكم بقى ترغوا كعادتكم … ربنا يجمعكم دايما على خير ويديم الحب بينكم ويجعلكم سند لبعض طول العمر “

لم تنم الام تلك الليلة ، ليس فقط لانها اشفقت على الفتاتين من لحظة الفراق الدانية بل لان ما حدثت به ابنتها وما منحتها من نصائح لم تكن سوى نصائح تحاول ان تذكر نفسها بها … فلطالما خاضت ولا زالت تخوض تلك المعركة مع نفسها…

دينا ابو الوفا
دينا ابو الوفا

اقرأ للكاتبة

يوميات دينا ابو الوفا … عارفين

شكرا للتعليق على الموضوع