قراءة في ديوان (ذاكرة نجمة) للشاعرة والإعلامية هند أحمد
أنثى الشعر وشعر الأنثى
قراءة الدكتور:أحمد فرحات “ناقد مصري”
عندما تمسك المرأة القلم وتكتب فعلينا أن نقف إجلالا ومهابة لبوحها الأنثوي، أن ننصت حتى لوقع حفيف الأوراق بين يديها، وأن نتروى في إصدار أحكام نقدية على كتابتها، شأننا في ذلك شأن المصلي صلاة الجمعة فلا يهمس ولا ينبس ببنت شفة. وإن مشى نحو امرأة يمش على أطراف أصابعه احتراما لقولها.
قرأت “ذاكرة نجمة” لهند أحمد فاكتشفت عالما شاسعا من البوح الأنثوي المهيب، عالما لا يحفل كثيرا بالماديات قدر حفاوته بالمعنويات، عالما أشبه بالملكوت الذهبي لا ترى فيه متناقضات الحياة المعيشة، بل ترى بعينك عالما من السحر والخيال فيه تبدو ميتا وأنت حي، أو حيا وأنت ميت..
حينما يكون صبحك ليلا
وليلك .. أدهم
حينما تكون مقيدا
بداخلك وخارجك
تكون ميتا ..
ولكنك على قيد الحياة!!
تشغلك هند أحمد بطفولتها العاقلة، وعقلها الطفل، فهي حائرة بين الطفولة والعقلانية، وتبث قلقها هذا إلى المتلقي في جمل قصيرة جدا، لكنها مثيرة، كوخز الإبرة سريعة لكنها تفجر الدماء..
مذ كنت طفلة
يكبرني عقلي
وحين كبرت
لم تغادرني طفولتي
لم يكن لبوح المرأة صدى لولا ثورتها وتمردها، فهي متمردة على كينونتها، متمردة على عادات مجتمعها الذكوري، نافرة بطاقاتها الإبداعية إلى أقصى مدى، ضاربة فيه بسهم، أو آخذة منه بطرف، فلا تخجل من أنوثتها وبراءتها بل تجأر بصراعها الداخلي في وجه قساة القلوب فتقول صارخة معبرة عن طبيعة ذاتها الثائرة.
إلا تلك الزهرة
الودود
حمقاء
تجمع كل أشكالهن
تمضي في ملكوت .. وحدتها
جبروتها .. طقوسها
محاطة بعنفوان الدنيا !
لكن صوت الذات يفوق طبول الحرب
ومزامير القلب
يشق السكون
عله يطرب
هيهات .. ثم هيهات
صراعات وأبخرة ودخان
تملأ أرضها ..سماءها
دنياها
(عذراء داخل شرنقة) تموت فيها
ووحدتها
منذ الأزل ..
لعل من أبرز سمات الشعر الأنثوي التمرد والثورة، مما يجعل للمرأة بوحا مهيبا، وسكوتا اختياريا، وربما سجنت نفسها داخل ملكوت وحدتها تبوح بما لم تستطع البوح به في وجوه مجتمع قاس، مازال يرنو إلى المرأة نظرة دونية، ومكانة هامشية. وكان الشعر متنفسا لهن، ورئة أخرى يستنشقن من خلالها هواء نقيا، ففي الشعر قدرة عظيمة على استيعاب تمردها وثورتها. إن الخيال الذي يمنحه الشعر للشعراء والشواعر قادر على استبطان تلك النفوس، وإخراج ما بها من در مكنون، ولآلئ دفينة..
وددت أن أكتب كلماتي
وحين هممت
جف قلمي
استعنت بآخر
جف أيضا .. وآخر وآخر
أيقنت حينها
أن تبقى محبوسة في سجن عقلي
كلماتي
دعوتها لتخرج
أبت ..
لا مفر
ستبقى في ظلمة
لا يراها
لا يسمعها ولا يقرأها
سوى ذاتي
كلماتي .. كلماتي
فيالله! كيف تجف أقلام من شدة الكلمات؟ إن جفاف الأقلام هنا رمز لقساة القلوب المنغلقين، وفي الرمز بوح لا يضاهى بالتعبير المباشر، ومن ثم آثرت الشاعرة الكتمان، لعل في كتمانها جلالا وهيبة!
ولم يكن جفاف الأقلام فحسب هو الأمر اللافت لدى الشاعرة هند أحمد بل تسرب إلى وأد ربيع المرأة، وتحوله إلى خريف أسود، فكل شيء بات خريفا
أنفاس كانت خضراء
باتت من شدتها.. سوداء
اتكأت هند أحمد على لغة شعرية شديدة المرارة والقسوة، فمعجمها الشعري زاخر بكل أصناف العذاب والألم، والحزن سمة من أهم سمات شعرها، ففي الأحزان تنجلي النفس الإنسانية المأزومة، مما يوحي بالانكسار والتعثر، تأمل معي مفردات معجمها، وما يشي..خريف، سواد، جفاف، أشجان، غرق، ظنون، تعثُّر ، أحزان، ضباب، قتامة، سجن، ظلمة، كذب، ضياع ..
شوق .. خفاق تعثر في
وادي الأحلام
ضاع .. تبعثر في عالم
النسيان..!
مات السلطان
وترك الأشجان غرقى
في نفس الزمان ونفس المكان..
وخلف هذا الحزن المرير كبرياء أنثى طموح، تمتلك تراثا عظيما، يسد عين الشمس جلالا وعظمة، تستند إليه هند أحمد وتستدعيه كلما تطلب الأمر ذلك، فالانكسارات تولّد الأمجاد، وتستدعيها لتسكن في ربوعها، وفي أنفها شيم الكبار الأمجاد، ولا غرو فالحزن عارض، وليس كامنا في النفس، طالما استمسكت بعظمة الأجداد
تبعثرني لا أسأل عنك .. هل هي قسوتي ؟
لا أطلب منك
نعم إنها مكابرتي
تسعدني وتحميني
السمة الأهم عند الشاعرة هند أحمد هي سمة الحكمة، والاتزان النفسي، قد يبدو الإنسان حكيما إذا بلغ من التجارب مبلغها، ووصل إلى مرحلة كبيرة من الاتزان النفسي، والتصالح مع النفس، لذا تجد الشاعرة تميل إلى الومضات الشعرية، وهي عبارات قصيرة تقوم على المفارقة، والتكثيف اللغوي، فتبدو قصيرة وسريعة لكنها عميقة، غائرة في الذات لتبلغ مبلغها عند المتلقي، وهي غرض شعري متطور عن فن التوقيعات في العصر العباسي، فتحت عنوان ومضات تقول:
كيف أكتب
لك
دون أن ترتجف .. أناملي؟!
وتقول هامسة صارخة:
كل الصراخ .. مسموع
وصراخ روحي .. مدفون
يبقى أن أشير إلى العنوان(ذاكرة نجمة) ، والعنوان عتبة نصية مهمة لقراءة النص، وتكمن أهميته في قصره، وإثارته؛ فهو عنوان مثير لكل قارئ. فأية ذاكرة تلك التي تحتفظ بها (نجمة)؟ وهل تحتفظ النجوم بذكريات؟ إن النجوم إذا بدت سرعان ما تتلاشى، فضوء القمر أكبر، وضوء الشمس أعظم، أما ضوء النجوم خافت، أشبه بهسيس الرياح في يوم شديد الحر.
وفي اختيار للفظة (نجمة) إثارة ذهنية لطيفة، تجعل من المتلقي الذهاب في معناها كل مذهب، وفيها من العلو ما فيها، وفيها من الجمال ما فيها، وفيها من عدم الوصول، وضياع الأمل ما فيها .. إذن فالعنوان معبر وصادق عن مضمون الديوان، ونابع من مفردات أنثوية جلية.