خفقات فــي صــدري…” قصــة” الجزء الرابع (الأخير)

الجزء الثالث

تأليف: نادية حلمي

والدمع حبيس عينيها أتمنى لو أرى الفاعل لألقنه درسا في الإنسانية ودون أن أشعر جثوت بجوارها ألملم معها أشيائها.. أنظر لزوجي فأرى في عينه اعتراضا.. أنظر لصغاري أرى على وجههم خجلاً.. أنظر للطفل أشعر في صدره ألما فتجعلني آلامه جاثية بجوار جدته الطاعنة في السن لأجمع أشيائها معها ودمعها يتقاطر من عينيها.. تقول الجدة هنا على أرضك يا بورسعيد استشهد أبنى الأكبر وهناك على أرضك يا سيناء استشهد الأصغر..

أدركت من أين آتى الشموخ واعتزاز النفس في عروقه دم الأبطال الشامخ بشموخ انتصار الوطن.. أتأمله وبطرف عينيه ينظر جدته واعتراض يجيش في صدره بما تفعل.. أشعر بأنفاسه تصرخ صامتة إنهضى يا أم الشهيد أبى لا أريد شيئاً بإهانة النفس.. يقرأ قلبي رسالة قلبه.. النابعة من سحيق أعماقه أربت عليها.. قد حنيني بها يجفف دمعه المتواري خلف الأجفان.. قد قربى منها يراوده بالأمان.. أسألها أبكيت يا أمي من قليل؟ تنظر واندهاش بالسؤال يساورها وبهزل المهموم تجيب.. ماذا يا أبنتي إن كنت أنا أو غيرى.. الباكيات كثيرات.. أنا أم من الأمهات اللاتي أبكتهن الحروب وهناك من شردتهن الحروب في جميع بلدان العالم.. لو بحثتي في عين كل أم ستجدين دمعا بلا عزاء فأما أنا هو الانتصار فأن لم يكن لكنت تشردت في الشوارع والطرقات وعشت تحت الخيام مثلهن.. الانتصار قهر لهب الحزن في صدري… فلا مكان للهب.. تصمت وأسألها من فعل هذا بأشيائك؟

شاب صغير شديد الغضب تخيل اليتيم يزاحمه ليسبقه في الدور.. سقطت حقيبته.. أنفعل وجذب بغضب أشيائنا من يد الطفل وبطول ذراعه ألقاها فتبعثرت كما ترين.. بينما المكان مكتظ بغيرنا من الواقفين والمزاحمين كثيرين.. ولكن ماذا نقول.. المسكين دائما في عين القوى ضعيف.. وأقاطعها.. تصرف منه غير إنساني.

وأسترسل في حديثي.. ألهذا بكيت من قليل ورددتى عبارة حرام عليك.. بالطبع تصرفه أَذَى مشاعركما.

تقاطعني.. شاب والشباب سريع الانفعال والغضب.. أسألها.. أغاضبه منه؟ تجيب بل مشفقة عليه.. أندهش: مشفقة!

وبأنفاس متهدجة.. لقد جعل اليتيم بجواري يرتجف ارتجاف شجر الوعر مع الرياح العاصفة.. اهتزت أوصاله وبقلب مجروح باليتم بكت نفسه.. غاص دمعه الدفين للأعماق غائرا وفي السحيق سكن الدمع فانشطر قلبي.. نزف الجرح مجددا.. وبحسرة الشهيد بكيت.. برهة من الصمت وتستطرد صادقه.. أشعر بصدق القول في أنفاسها قائلة: – ومع ذلك لم يُرميه قلبي بنزفه دم حيث لا يشعر الآلام سوى المتألم بجرحه..

أتأثر وإلى صدري أضم الطفل.. أحسن خفقاته بين الأضلع مشتعلة بالنار لاهثة بالخوف كاللاهث بالعناء مضطربا وفي العين دمع سجين الكبرياء، وعيناه ترمق الجدة حانية بالجسد تجمع من بين المارة ثمن مجهودها.. سهرت الليالي من أجل نقود تجعل على ثغرة ابتسامة تسعدها.

ابتاعت الحلوى بشقي النفس.. قد يعود ويتذوق مذاق الشهد حفيدها.. افتقد المذاق حين أفتقد والديه.. لم تعد نفسه مقبلة على شيء والجدة تحاول جاهدة قد يذوب المرارة في الحلق.. ويشعر بشهد الحلوى.. إنها لم تشعر بذل الروح.. شامخة حتى في أحزانها وإنما.. صمت حفيدها وبكاء قلبه الصامت صمت الرجال.. يعتصر قلبها للذل يقودها فريسة.. أضم الطفل الجميل وفي عينيه أنظر أجد سطور مكتوبة.. أقرؤها.. يا من باقيه من رحيق الماضي.. يا كل كوني أنهضي.. يا أمي.. يا جدتي.. لو أستطع لأجعلك في سحيق العين وعليك أسدل الأهداب ليعجز الموت عنك.. يا من في عروقها دماء الشهيد أبى.. لقد بالفراق سكن الخوف صدري وأغلق الباب فلا بالرحيل تسحقي أنفاسي.. فإن رحلت اقتلعت الرياح غصنى.. ماذا أفعل لو مُكروه اصابك تضمه الجدة بإحساس جياش وعيناها بالصمت السحيق تخاطبه.. يا طفلي المسكين ماذا تفعل عند الرحيل.. وحيدا في عالم برحته الرحمة.. ماذا ستفعل وسط بشر منهم حلفاء الشيطان.. وآخرون تائهون وسط الزحام.. وآخرون ظالمون أنانيون.. والقليلون منهم يسعون للسلام خيراً.

هؤلاء كثمرات صعبة المنال.. وسط غابة من البشر ووحوش حادة الأنياب كل منهما ينهش في جسد الآخر، وبالحنين الفياض تضمه بشده بنظرات شاردة الذهن باكية القلب.. ترمقه عينها وشعورا مخيف يعتريني.. أتصورهما في لحظة وداع في لحظة فراق للأبد.. تساورني رجفة والطفل الجميل يمسك بجدته يساعدها على الوقوف ونظرة من سحيق أعماقه جياشة بالمخاوف تطل على ما يدور في أعماقها يغوص في دمعها المتدفق ويصرخ قلبه بالمخاوف وتنهض خلايا الجسد صارخة أتوسل يا كل كونى يا شريان قلبي الخافق في الصدر.

لا تضعفي إزاء الظروف.. منك أستمد قوتي.. منك أستمد حياتي.. بك تنبض خلايا الجسد بالحياة.. فلا تحرميني من عبير الماضي.. من أجلى اصمدي قفي في وجه الموت.. اصمدي قوية.. باستشهاد أبنائك عند الانتصار.. وقفتي في وجه الحزن، من أجلى تصدى للمتاعب.

تحدى الظروف ليشتد العود وأصبح وتد وأتأثر تأثيراً شديداُ..

يبكى قلبي وتضطرب أنفاسي.. أنظر لزوجي وصغاري.. أجد دمعا حبيساً في أعينهم بما يجيش من مشاعر فياضة بالحب مصحوبة بالمخاوف.. أهتز وعند رحيلها والصغير يعتريني أحساس الباكي بالوداع الأخير.. ارتبطت أرواحنا أحببتها شمس الأصيل.. أحببت الطفل جميل الطلعة..

ليس لأنه بالجمال جذب روحي وبالبراءة أخفق خفقات صدري وإنما لإنه يملك صفات الأقوياء المقاتلون، متماسك النفس.. شامخ شموخ المصري ذو إرادة صلبا كالحديد..

برهات وحين الرحيل “تقترب أعانقهما ونبدأ بالخطوات.. نبتعد وكل منا يتابع بعينه طريق الآخر حتى لا ترى العين سوى سراب..

يخالجني إحساس يؤلم نفسي كما لو تاه عضو من أعضاء جسدي على الطريق..

يأخذني شعورا غريب كما لو تربط بيننا صلة دم..

ولم لا.. جميعا أبناء وطن واحد.. ارتوينا من ماء نيل واحد..

ونصعد الأتوبيس بعد انتظار ساعات ويقود السائق بطيئاً كما كان في الصباح، أجلس والنوافذ مفتوحة حيث نسمات ما قبل الثانية صباحا تمر من نافذة لأخرى تداعب النسمات أنفاسي تقودني للنعاس اللذيذ.. استغرقت في النوم بعد استرخاء غالب الجفون.. تهدأ الأنفاس في الصدور بعد تعب يوم طويل تطالب الأجساد بالراحة وينام الجميع وبعد ساعات من السير في ظلام الليل الكثيف تبدو قاهرتي متلألئة الأنوار كنجوم السماء.. اتنهد الصعداء وسؤال في الرأس؟

بم يا نفس خرجت من رحلتك؟

خرجت بدروس كثيرة.. علمتني شمس الأصيل ما لم أتعلمه من غيرها..

(كم يحتاج الإنسان ليشعر بالأمان وليس كم يحتاج الإنسان ليشعر بالثراء).

(علمتني الأمومة قوة وتضحية وليس ضعف وأنانية)..

(علمتني الوطن ليس لقب وإنما انتماء وعطاء وشجاعة وحماسة)..

فجرتا بداخلي حرارة المرأة العريقة..

ونصل للبيت وعلى فراشي ألقى بجسدي وفي الذهن تجول شمس الأصيل… من فجرت ثراء النفس من استعدت بها مكنوناتي.. وأخاطبها: بك تخللت نفسي راحة يا عظيمة في قولك

نعم يا شمس الأصيل … السلام يفوق كل التضحيات.. صدق قولك

( لو على الأرض بين البشر سلام لأصبح العالم بستان كبير)

يا شريان دفاق بالعطاء … في صدري تخفقين خفقان الجنين في الأحشاء

سلام لنيلك … سلام لوطنك..

سلام للعالم ليسترسل فجرا مشرقا في قلب السماء…

انتهت بحمد الله

الأديبة نادية حلمى
الأديبة نادية حلمى

اقرأ للأديبة

ولكل صوت صوت…”قصــة”

شكرا للتعليق على الموضوع