“لَكِ يَا قُدْسُ فِي السَّمَاءِ ضِيَاءٌ” قَصِيدَتَا وَرَائِعَتَا صبيحة شبر ومحسن عبد المعطي

اَلقاصة العراقية الْمُبْدِعَةْ : صبيحة شبر

الشاعر والروائي: محسن عبد المعطي محمد عبد ربه

{1} من يوميات عظم

اَلقاصة العراقية الْمُبْدِعَةْ : صبيحة شبر

عظام متكسرة ، بارزة ،، ولحم آيل للنفاد ،، وجه يكسوه التعب ،، وتحيطه الكآبة ،، سنوات عجاف من الهم والكمد ،، ألمت بصاحبة هذا الوجه الجميل ، وقضت على ما فيه من نضارة ، وما بثته في الناس من بهجة تبعثها تقاسيمه الرقيقة ،الهادئة ،شعر وخطه المشيب على عجل ،، وعلى حين غرة من صاحبته ، أتت السيدة على غير انتظار ، باحثة في العظام المتجمعة التي رميت هنا بغير اهتمام

نادت السيدة التي أعرفها تمام المعرفة :

– أكل هذه العظام جاء ذووها ؟

الصوت أعرفه تمام المعرفة ، طالما هدهدني ، وأنا طفل صغير ، اعتنى بي ، صبر عند مهدي باشا ، متحدثا بأعذب الحكايات ، عل النوم يأتي إلى عيوني التي تأبى مفارقة التدليل

سيدة تدل ملامحها ، على جمال أخاذ ، كان يثير الإعجاب ، في المشاهدين ، كنت أنا أنظر إليها ، مبهوراً برباطة جأشها ، وتحملها الصعاب ، وصرخاتي المتواصلة ، التي أصر على إطلاقها ، دون توقف ، ليأتيني ذلك الوجه الآسر ، الذي يرغمني على الصمت

تقلب السيدة ، ذات الجمال الآفل ، العظام بيدها ، تبحث عن عظام كانت ، تسعى إلى إيجادها في هذه الكومة ، التي وضعت هنا ، بلا اهتمام ، أشفق لمرأى السيدة العزيزة ، وهي تحاول أن ، تجمع العظام على بعضها ، لتكون مخلوقا ، كان عزيزا على قلبها ، أثيرا على نفسها ،تسأل الرجل الواقف بالتياع :

– ألا يوجد عظام غير هذه في مكان قريب ؟

يثيرني صوت السيدة ، الذي يبدو الرعب ، عليه واضحا ، وإن حاولت جاهدة أن ، تخفي معالمه ، في نفسها المرهقة منذ زمان

صوت أخاذ جميل ، ينشد أغاني فيروز ، محاولا أن يحسن التقليد ، بنبرات مطمئنة ،عشقت ذلك الصوت ، كنت أصرخ باستمرار ، طالبا أن تأتيني ، صاحبته ، لتسمعني : تلك الأغاني الرائعة ، بعذوبة متناهية ،، يأخذني جمال الصوت ، إلى عوالم من البهجة ، أتمنى معه أن يبقى ، محيطا بي ، لا يفارقني

تعود السيدة لتقلب العظام ، والتساؤل ، ينبعث قويا من نبرات صوتها ، الآخذة بالارتفاع

– أين وضعوا العظام الأخرى ؟    

يرعبني الصوت المأسور بضعف ووهن ، لم أكن أعهده ، بتلك المرأة ، التي كنت واثقا ثقة تامة ، أنها قوية ، لا تعرف الخنوع ، ولكن الأيام تفعل فعلها ، في النفوس ، قبل الأجساد ، وتأتي بتغيرات لم نكن نظن أنها تحدث بمثل هذه السرعة ، وبهذا الشكل العجيب

يعود صوت المرأة ، التي طالما أسرتني بحضورها الجميل ، إلى التساؤل من جديد :

– ألا تدري ، أخي ، أين وضعوا العظام الباقية ، لرفات الأجساد الأخرى ؟

أندهش للسؤال ، ألا تدري السيدة العزيزة ، ماذا جرى ؟ عظام متفرقة ، لأجساد كثيرة ، تجمع أكواما أكواما ، على غير ترتيب ، في أماكن متفرقة ، استطاعت أن تعرف ذراعي ، من كم قميص ، كانت قد أخاطته لي ، بيديها الرقيقتين

يعود صوت السيدة ، التي كثيرا ما بهرتني ، بجمالها ، إلى السؤال بلهفة المحتار ، من جديد

– هل يمكنك أن تدلني على الذراع اليمنى ، وعلى الساق اليسرى ؟

لقد نحرونا أيتها العزيزة ، ولم أكن أعلم ، أنني سأكون شاهدا على حيرتك سيدتي العزيزة ، تعبك ذهب سدى كما في كل مرة

الطفل يبكي بإصرار عجيب ، يبحث عن سيدة جميلة ، ذات منظر أخاذ ، تنشد له أغاني فيروز ، بابتسام ، وتحرص على أن يأتي صوتها جميلا ، كجمال صوت فيروز

تمسك السيدة العظام ، بيديها ، تحاول أن تجمعها بهيئة واحدة ، تدرك انها تفقد عظمين اثنين ، من العسير عليها ، أن تعيد تشكيل الجسد بدونهما ،، تسأل برغبة شديدة ألا يأتيها الجواب الذي تحرص على تأخيره

– دلني ، أخي ، أين وضعوا العظام الأخرى ؟

عظامنا سيدتي دقوها ، نثروها ، مزقوها ، ثم جمعوها بغير عناية ، ولا انتباه ، في أماكن متفرقة

الطفل تغمره البهجة ، شرب حتى ارتوى ، لعبت وإياه السيدة ، لاطفته ، أسمعته حلو الأناشيد وعذب الأغاني ، بصوتها الجميل ، حتى اطمأن وعرف أنه ملاك بهيج ، يغني للسماء مع الشحرور

تعود السيدة إلى سؤالها الغريب ، ويبدو أن الرجل يأبى ، إشفاقا ،أن يطلعها ، على جوابه الصحيح

– قل لي ، أخي ، أين وضعوا العظام ؟ أريد الذراع اليمنى ، والساق اليسرى من جسد عزيز ، لأجمعها مع بعضها البعض ، ثم أدفئه في بيتي

الطفل يضحك ، تأخذه السيدة ، بيديها ، تأرجحه يمينا وشمالا ، وهو يكركر ، بصوت سعيد ، طالبا المزيد ، من اللعب مع السيدة الرقيقة

يسمع صوت السيدة ، ينبعث بهلع مكبوت :

لطفا ، أخي ، أريد الذراع اليمنى والساق اليسرى ، إنه ولدي ، لقد عرفت أخيرا أنهم أعدموه ، وكنت أظن أنه ما زال حيا يرزق

نفذوا حكم الموت بالآلاف سيدتي الحبيبة ، لم يتبق مني إلا عظام نخرة ، أمي ، كيف يمكنك أن تجمعي العظام وهي رميم ؟

تهم السيدة بطرح السؤال مرة أخرى ، فلم يعد الرجل قادرا على الاحتمال ، بعد زخات من الأسئلة المتدفقة ، التي تلقيها على عاتقه ، تلك السيدة العزيزة ، يجيبها بانفعال :

– سيدتي ، لم تبق فينا عظام ، تهرأ كل شيء فينا ، أصبحنا رمادا تذروه الرياح

اَلقاصة العراقية الْمُبْدِعَةْ: صبيحة شبر  

19    

{2} لَكِ يَا قُدْسُ فِي فُؤَادِي شُعُورٌ

الشاعر والروائي: محسن عبد المعطي محمد عبد ربه

وَعِـــظَــامٌ تَــكَـسَّـرَتْ مِــــنْ يَــهُــودٍ    …    شَــرَّدُوا الْـوِلْدَ وَاسْـتَهَانُوا بِـشِنْدِي

مَـــنْ أَبَـــاحَ الـتَّـقْـتِيلَ بَـيْـنَ يَـدَيْـهِمْ    …    فِي زِحَامِ الْأَهْوَالِ مِنْ كُلِّ وَغْدِ؟!!!

لَــــكِ يَــــا قُـدْسَـنَـا الْـوَلِـيـدَةَ حَـــقٌّ    …    عَــرَبِــيٌّ قَــــدْ بَــاسَــهُ كُــــلُّ بُــــرْدِ

لَــكِ يَــا قُـدْسُ فِـي فُـؤَادِي شُـعُورٌ    …    دَوَّخَ الْـمَـارِقِـيـنَ مِــــنْ كُــــلِّ قِــــرْدِ

لَـــكِ يَــا قُــدْسُ نَـاطِـحَاتُ سَـحَـابٍ    …    سَــوْفَ تَـبْـقَى بِـرَغْـمِ قَـتْـلٍ وَطَــرْد

لَــكِ يَــا قُــدْسُ فِــي الْـقُلُوبِ فَـخَارٌ    …    صَــادِقُ الْـوَعْـدِ رَغْــمَ دُسْـتُورِ جَـلْدِ

لَــكِ يَــا قُـدْسُ فِـي الـسَّمَاءِ ضِـيَاءٌ    …    عِـنْـدَ رَبِّ الْأَكْــوَانِ فِــي كُــلِّ عِـقْـدِ

لَــكِ يَــا قُــدْسُ فِــي الْـحَـيَاةِ مَـنَالٌ    …    رَغْـــمَ ذَاكَ الـسُّـفُورِ فِــي كُــلِّ وَأْدِ

لَـكِ يَـا قُـدْسُ فِـي الـشَّبَابِ أُسُـودٌ    …    سَـــوْفَ يُـنْـهُـونَ فَـــرْدَةَ الْـمُـتَـعَدِّي

اقرأ للشاعر

قَصِيدَتَا وَرَائِعَتَا أمينة غتامي ومحسن عبد المعطي

شكرا للتعليق على الموضوع