مصطفى اللداوي يكتب: نبل المقاومة وخسة الاحتلال في ملف الأسرى والاعتقال
لا مقارنة البتة بين أخلاق المقاومة الفلسطينية النبيلة ومناقبيتها العالية، وشيمها العربية الأصيلة ومفاهيمها الإسلامية السمحة، وقيمها العسكرية وضوابطها القانونية خلال الأعمال الحربية الضارية، في تعاملها مع الأسرى والمعتقلين الإسرائيليين، ممن يوصفون بأنهم مدنيون من الأطفال والنساء، رغم أنهم مستوطنون وأتباع كيانٍ محتلٍ غاصبٍ قاتلٍ ومعتدٍ، لا يزال يمارس القتل والبطش والإرهاب ضد المدنيين الفلسطينيين من الأطفال والنساء والشيوخ، ويدمر الحجر ويحرق الشجر، ولا تتوقف غاراته الوحشية على سكان القطاع ليلاً ونهاراً، في سرمديةٍ من العدوان لا تفتر، وديمومةٍ من القتل لا تشبع.
إذ أحسنت المقاومة الفلسطينية في تعاملها مع أسراها الإسرائيليين، ولم تسئ إليهم، ولم تضيق عليهم ولم تعذبهم، ولم تحرمهم شيئا مما يلزمهم ويتوفر عندها، واطمانت إلى صحتهم، وقدمت لهم الدواء المتوفر والعلاج اللازم، ووفرت لهم رغم القصف الجوي والبري والبحري المجنون، أماكن ظنوا أنها آمنة، وأن العدو الحريص على قتلهم والتخلص منهم، لن يصل إليهم ولن يطالهم بصواريخه وقذائفه، وهو الذي قتل عامداً أكثر من ستين منهم، ولم يبد على ذلك ندماً، ولم يقدم لذويهم أسفاً.
وعندما حان وقت تسليمهم إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أحسنت نقلهم، ولانت في مرافقتهم، وأخذت بيد ضعيفهم، وصبرت عليهم ولم تدفعهم، وابتسم مقاتلوها في وجوه أطفالهم، ولم يترددوا في حمل من لم تستطع المشي على أقدامها نتيجة الصدمة النفسية التي سببتها غارات جيشها الكثيفة، وأصوات صواريخه المرعبة، مما تسبب لهم في أزماتٍ نفسيةٍ سيصعب عليهم تجاوزها والشفاء منها، وقد شاهد العالم كله عيون الأسرى الإسرائيليين وهي تبرق فرحاً، وهم يلوحون بأيديهم للمقاتلين شكراً، ولم يظهر أن أياً منهم كان مكبلاً بالقيود أو مصفداً بالأغلال، أو معصوب العينين يتعثر في خطاه.
والتزمت المقاومة الفلسطينية بالشروط التي وافقت عليها، ولم تخل بأي بندٍ منها، ولم تنكث اتفاقها، ولم تنكص على عقبيها، ولم تشترط على الأسرى والمفاوضين من حكومتهم عبر الوسطاء، ألا يظهروا فرحتهم، أو يبدو سعادتهم، ولم تطلب منهم الامتناع عن الاحتفاء بالحرية والاحتفال بالعودة إلى بيوتهم وعائلاتهم، بل تركتهم يعبرون عن الفطرة الإنسانية، ويبدون فرحتهم الطبيعية، ولم تشترط عليهم أن يكبتوا أنفسهم أو يحرموا أهلهم من فرحة استقبالهم، والسعادة بعودتهم، فهذه مشاعرٌ طبيعية وعواطف إنسانية، خلقها الله فينا ولم يحرمنا من التعبير عنها قولاً وفعلاً، في السر والعلن، وفي القلب وأمام الناس.
أما العدو الإسرائيلي فقد رأى العالم كله ما قام به، وشاهد سلوكه وتصرفه، وسكت عن أفعاله وممارساته، وعرف خبثه وقبحه ولؤمه وحقده وسخام قلبه، وهو إذ لم يفاجئنا بأخلاقه، ولم يصدمنا بتصرفاته، فهو لا يستطيع أن يغير طباعه أو يستبدل أخلاقه، فهو على هذا السوء المطلق فُطر، وعلى هذه الدونية والانحطاط خُلق، وعلى هذه الخسة والنذالة نشأ، وبهذه الأخلاق الرذيلة والسلوكيات القذرة عُرفَ واشتهر، فلن يغير من طبيعته شيئاً إلا أن يرغم ويقهر، ويجبر بالقوة ويدرك أن عاقبة أفعاله الخسران المبين والخاتمة المقيتة.
وهو لم يتورع عن الإساءة إلى الأسرى والمعتقلين وهم نساءٌ وأطفالٌ، فبعد أن سامهم سوء العذاب، وضيق عليهم في السجون والمعتقلات، وسحب منهم كل الامتيازات، وحرمهم من أبسط الحقوق وأقلها، قام في الساعات الأخيرة بحشرهم في زنازين ضيقةٍ لساعاتٍ، وكبلهم بالقيود والسلاسل، وعصب عيونهم وأغلظ معاملتهم، ودفعهم إلى السيارات دفعاً، وتركهم يتعثرون في خطواتهم وهم لا يرون الطريق أمامهم، وأجبرهم وذويهم على التوقيع على تعهداتٍ تحت طائلة العقوبة وإعادة الاعتقال، بألا يظهروا فرحتهم، وألا يبتهجوا بحريتهم، وألا يفتحوا سرادقات للتهنئة، ولا بيوت للاستقبال، وألا يظهروا على وسائل الإعلام، وألا يدلوا بتصريحاتٍ أو مواقف تشيد بالمقاومة أو تمتدح فعلها.
ورغم هذه الأفعال الدنيئة التي قامت بها سلطاتهم، وأقرتها حكومتهم، وسكت العالم عنها واعتبرها مشروعة، فقد نكث في عهوده، وانقلب على اتفاقه، ولم يلتزم بشروط الهدنة التي سعى إليها وحض الوسطاء عليها، إذ أخر الإفراج عن الأسرى بعد أن ضيق عليهم، وتلاعب في شروط أفضلية قدامى الأسرى، وحاول أن يستبدل الأسماء المتفق عليها بأخرى، في سلوكٍ واضحٍ يدل على عدم أهليته ومسؤوليته، فهو لا يحترم شيئاً من العهود، ولا يلتزم الأعراف، ولا يقدر القوانين، ولا يقيم وزناً للوسطاء والضامنين.
فهل يدرك العالم الذي يدعي الحضارة ويتشدق بالحريات ويدعو إلى احترام حقوق الإنسان، ويتهم المقاومة بالإرهاب، ويصف أصحاب الحقوق بالمعتدين، أن هذا الكيان الذي زرعوه ورعوه، وساندوه وساعدوه، هو الإرهابي الحقيقي والقاتل الوقح والمجرم الوضيع، الذي يهدد العالم كله، ويسيئ إلى الإنسانية جمعاء، بسياسته وأفعاله القبيحة المنافية للقيم والأخلاق والأعراف.
د. مصطفى يوسف اللداوي – بيروت
اقرأ ايضاً
مصطفى اللداوي يكتب: الهدنة الإنسانية المؤقتة مكاسبٌ وحاجاتٌ