لؤي ديب يكتب : كلام في الممنوع

لو كان فينا ذرة من الكرامة لاعتبرنا أن الانقسام الفلسطيني الذي تجرى افرازاته منا مجرى الدم هو انحدار وشرشحة ورُخص وهزيمة داخلية لا تقل عن هزيمة 67 ونكبة تعادل نكبة 48 وهى ليست اقل تسبباً للعار والخجل مما سبق .

بدأت من حيث كانت تجبْ النهاية فالموضوع لا يحتاج شرح ومقدمات والكارثة مفجعة بحيث لم تشابهها كارثة ولا يقل احد أن الفلسطينيين اقتتلوا سابقا في لبنان وغيرها فذاك كان قتال المناضلين أم هذا فهو قتال اللامقاتلين مع اللامقاتلين .

وقد أنتج هذا الانقسام فيما افرز التالي:

1- سلطة في رام الله لا تعرف على ماذا تفاوض أو من تفاوض فالخارطة الجغرافية تتبدل حولها كل ساعة.

2- مقاومة في غزة حصرت كل جهودها وطاقاتها في الدفاع عما في أيدها ’ وأصبحت عاجزة كالحية التي ابتلعت بقرة وما عادت قادرة على الحراك.

3- قوى رفض رافضة حتى لوجودها تشبعنا كلام دون فعل وعلى الجانب الآخر قوى سياسية ناشئة لا نعرف لها لون ولا وزن.

4- حالة ضياع وغياب لإستراتيجية إجماع وطني وأتحدى لو سألنا شيخاً أو طفلاُ أو شاباُ إن كان يعرف ماذا نريد في النهاية من وراء كل هذا.. فلسطين بأكملها وان كان كذلك ما الخطة؟ أم سلام على حدود 67 وان كان فكيف وأين الشريك؟.. أم نضال قانوني في المؤسسة الدولية وهو ما تؤكد الأفعال عكسه !..أم سياسة إن كنا نُسمى ما يجرى انه سياسة ’ أم ضياع وعدم معرفة ويبدو انه الثابت على الأرض.

5- تهويد للقدس زاد بنسبة 68% في عام وتمدد استيطاني قفز إلى 23% مما كان عليه العام السابق وحوالي 11 ألف مختطف ما زالوا ينعتون بالأسرى من شدة السطحية في توصيف حالتهم فما انطبقت عليهم يوماَ حالة الأسرى بل هم مختطفين وسيان بين الكلمتين في القانون الدولي ’وكسر لشوكة امتدادنا الديموغرافى في الداخل وترنسفير لأكثر من 70 ألف من احتلال إلى سجن كبير ومياه تُسرق وغاز يُنهب ونفوس تُخضعْ لأنها تريد أن تعيش على رأى الدكتور عزمي بشارة وشعب يُقزم من 11 مليون إلى 2 مليون تحت الاحتلال في الضفة ومليون ونصف سجناء الإغلاق في غزة والبقية الباقية تضيع في مخيمات الشتات دون قيادة وجيل بأكمله أكلته الغُربة لحماَ وأبقت منه العظم.

ولو أردنا التعديد لما انتهينا وصفاَ لزمن الانحدار المدوي مع استمرار الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني وما قذفه علينا من تحولات فكرية وانعطافات مست بالحقوق والثوابت النضالية للقضية الفلسطينية ’ فما عدنا نرى قادتنا يخرجون للمؤتمرات ليزرعوا الديناميت فينا حيث مفترض الحال يجب أن يكون ’ بل أصبحوا يخرجون علينا ببدل فاخرة تحمل بين ثناياها بضع كيلوات من اللحم والعظم بعد اجتماعاتهم بضباط المخابرات الذين يحالون إصلاح ذات البين بينهم ’ هل بهؤلاء يستكمل ملف القضية الفلسطينية التي هي تاريخ وشعب ..لجوء وتشرد ..شهداء وجرحى..الخ من العناوين الكبرى التي تحتاج إلى عمل ابداعى وكفاح متميز وحضور دولي للقضية لا يحصرها في ذاتها وسياسة ماهرة تربطها وتشبكها عضويا ببعدها العربي الاسلامى وتُظللها بالتحررية الاجتماعية الدولية لتجعل منها رمزاَ للشعوب وقضية ثقافة ومستقبل لكل الطامحين للعدالة.

تحتاج القضية الفلسطينية إلى قادة يعرفون متى يتحررون من إطارهم الفلسطيني ويتخففون من مسؤوليات التزاماتهم الحزبية والحركية ليصنعوا ما يصنعوا في حريتهم من اجل هذا الإطار دون الانسلاخ عنه ..لا قادة يجعلون أعلام أحزابهم تُغيب علم فلسطين ويغيرون مواقفهم طلوعاَ ونزولاَ من فوق لتحت حسب نصائح السيد اوباما أو إدارته المنتظرة في عقيدتهم الوهمية..فما حك جلدك مثل ظفرك ’ لقد عمل السيد اوباما ما بين المحامى وأستاذ القانون ما يزيد عن 38 عاماَ وعاشر كأستاذ قانون أحلك فصول التميز العنصري في جنوب إفريقيا ولم ينتصر لأبناء جلدته ولو بمقال واحد في جريدة فهل سينتصر لنا ؟

من له قضية بحجم قضيتنا عليه أن يصنع الأحداث والمنظومات ولا يتركها تصنعه ولو كنا على قدر ذكاء الصهاينة في وحدتهم واختلافهم لكنا الآن نحن من يصنع المنظومة والسياسة الدولية وربما رؤساء الدول !ولكنّ المناكفات وألاعيب أصحاب الدكاكين السياسية في الساحة الفلسطينية خلقوا فينا جروحا غائرة وأودعوا بيننا من يبعنا الاستشلاق والاستهانة بحرمة الدم حتى أصبح المرء يخاف التوغل في دراسة أفعالهم حيث كلما اقترب من عمق التصرفات تحولت فيه صورة الانتماء إلى فلسطين إلى إحباط ويأس.

نبت بيننا عشب ضار تمثل في ضحالة وادعاء وضجيج فارغ وعناصر قوة وضعف تختفي دون قدرة على التقيم ’ وامتلأت الساحة بقيادات يسخر وينتقد كلاَ منهم الآخر دون أن يمتلك اى منهم تصور للأفضل أو لما يجب أن يكون ..أشخاص ينطلقون على هواهم ويتحررون إلى حد كبير من صفة العنوان الذي أوصلهم إلى مكانهم دون التزام بأدنى درجات الأمانة للخط النضالي ومحاذير الفكر السياسي .. باعونا الوهم حتى أصبح للوهم علينا سيادة وأصبحنا لا نعرف من اى قاعدة سننطلق وما الهدف الذي سنسدد نحوه حتى صرنا نضرب عدونا بسيوف من خشب وبنادق من قصب السكر وكأننا ندغدغه من أصابع قدميه !

من المفترض أننا نعيش حالة ثورة لاسترداد الأرض وإعادة الاعتبار وحسب معرفتي فكل الثورات التي سبقتنا كانت منشغلة في الحديث والعمل والتدرب على حروب العصابات والتنظيم ..المهمات..الهجوم المفاجئ.. المخابرات والكمائن..تنظيم شبكات الاتصالات وتدمير شبكات معادية.. سعى للمحافل الدولية لا تواطؤ في تلك المحافل .. الخ . فكيف استطاعوا أن يجعلوا من هذا الإنتاج العظيم من ثوارنا حراس سجون ومكممي أفواه وعبيد لراتب آخر الشهر؟

افهم المقاومة فهماَ يختلف عن حالة مقاومتنا التي تنتظر الضربات وتعيش حالة دفاع مستمر ’ فالمقاومة تعنى عندما يتقدم العدو نتقهقر وعندما يتراجع نطارده وعندما يتوقف نناوشه وحين يتعب نسحقه ’ ليس تقليلاَ من شأن المقاومة التي انحنى لها ولكنها رغبة حقيقية في مصارحة شجاعة ودرجة عالية من النقد ’ وان كنا نخوض حرب تحرير فعلاَ فعلينا أن ندرك أن كسب قطعة من الأرض التي نناضل من اجلها ليس سبباَ للفرح وخسارتها ليست سبباَ للأسف فمن غير المعقول نبقى نتمترس بالحد الأقصى من قواتنا تاركين المبادرة للعدو دون أن ننازل هنا وهناك وها نحن لا نفقد الأمل فحسب بالمجتمع الدولي بل نفقد صوابنا من إدارة ظهره لنا ’ فهل سنبقى ننتظر صحوة ضمير الإسرائيلي ليرفع الإغلاق عن غزة ؟ أم ستجبره المؤتمرات وشعارات التنديد على التوقف عن فغص القدس وقضم الضفة وسحق الهوية العربية لأهلنا في الداخل ’ أم نبادر إلى إبداع يجبره على مقايضة هذه بتلك كأضعف الإيمان ! وهذا يتطلب إدراكا أن عقل السلطة والمصلحة والتقوقع ربما يحافظ على دولة لكنه لا يأتي بها.

ولا أمل بسلام يلوح مقابل كل الاستسلام ’ وما زلنا نفقد قيمة وراء قيمة مما أكسبتنا إياه التجربة والتاريخ ودماء من سبقونا. تعنى كلمة (peace) باللغة الانجليزية (السلام) وتعنى كلمة (piece) التي تلفظ بنفس الطريقة اى (بيس) تعنى (قطعة) والسلام الذي تريده إسرائيل منا هو (بيس) من الأقصى و(بيس) من رام الله و(بيس) من نابلس و(بيس) من غزة و(بيس) من مياهنا و(بيس) من غازنا و(بيس) من لبنان و(بيس) من سوريا و(بيس) من أخلاقنا و(بيس) من حقوقنا و(بيس) من هويتنا و(بيس) من الهواء الذي نتنفس و(بيس) من أعمارنا .. الخ. فبأي (بيس) تحاولون أن تقنعوننا ؟

إذا أراد احد أن يقنعنا أن الوطن الموعود يعنى التحرر من القيم والتعقل يعنى التنازل عن الحقوق والثوابت فينبغي أن يكون تجار المخدرات هم القادة لأنهم الأقدر على قتل الخلايا في الدماغ ’ وإن كان العمل السياسي في نظرهم هو هذا الهذيان الأكثر تحللاَ من عُقد الثوابت فإن السكارى ربما يكونون الأجدر بالتفاوض ولعب السياسة بدلاَ منهم.

يعيش الشعب الفلسطيني شئنا أم أبينا كارثة لا تحتمل اى نوع من البساطة أو التبسيط .. نسميه مطب أو مصيبة المهم انه واقع فرض نفسه قصداَ أو صدفة وأرخى بسمومه على ماضي وحاضر ومستقبل شعب يُدوخ ليل نهار وسط ضجيج وخزعبلات زمن من العار ليُذبح لاحقاً وتوزع لحومه وشحومه على الجزارين ’ وأضحى حال المواطن الفلسطيني العادي الباحث عن حقه بالعودة إلى وطنه السليب كحال قدماء فلاسفة العالم في العصور الوسطى يشبهون رجلاَ معصوب العينين يبحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة .

لقد أهدتنا سنوات الاستسلام والانقسام قادة من طراز خاص يبنون قصورهم في مرحلة المساومة وضياع الحقوق بأذرع الشهداء والجرحى والمعذبين بين جدران الإغلاق والسجون ’ ووسط قعقعة هذا السقوط أصبحوا طارئين دائمين على عالمنا المرير.. أفاقهم طليقة لا يحاسبون أنفسهم ولا يكترثون بالآخرين ولا يعنيهم احد ’ تملكوا كل أدوات الشجاعة للتخلص من الخجل وأراحوا الشهيد أبو إياد في قبره بتحقيق توقعه فجعلوا من الخيانة مجرد وجهة نظر وأصبحوا يعجنون تفاهتهم بعظمة مصطنعة وضعوها على أكتافهم في شكل نسور واقتلعوا بها أعين الناظرين ’ ونالوا من الشهداء في استشهادهم في سبيل قضية مقدسة ونعتوهم علناَ بالحقراء وسراَ بالجرابيع وتغنوا بمقاعد انتخابية افتراضية ولدت من وهم أوسلو الناتج من تصدع جارح في واقع القضية الفلسطينية .

على عكس ما بدأت اختم مستشهداَ بالتاريخ وتحديداَ عام 1943 حين طالب اليهود حكومة بريطانيا بتأليف فيلق يهودي وإلحاقه كوحدة مستقلة بالجيش البريطاني وقرر تشرشل مساعدتهم في ذلك ’ حينها اعترض المارشال ويفل قائد القوات البريطانية في مصر والشرق الأوسط على هذا الطلب خوفاَ من إثارة مشاعر العرب وتحداه تشرشل وشكل الفيلق وجعله قسماَ من الجيش البريطاني في حملته على ايطاليا عام 1944 ليعود الفيلق بعد ذلك بأسلحته الخفيفة إلى فلسطين وقد كتب تشرشل في مذكراته التي نشرها بعد الحرب العالمية الثانية ما نصه حرفيا (ولقد نصحني ويفل بعدم تشكيل ذلك الفيلق خوفاَ من إثارة شعور العرب لكنى تحديت ويفل وكتبت إلى الدكتور وايزمن بالسماح بتشكيل الفيلق ولم يتحرك كلب عربي واحد بالاحتجاج على ذلك ) وعذرا على ما جاء في النص ولكني نقلت حرفيا من مذكرات تشرشل ’ وهذا هو حال الواقع ’ منّ سيتحرك لنا إن كنا ساكنين تلهينا خلافاتنا ومشاكلنا وتنازعنا كراسي الوهم وتبعدنا عن مقومات الانتصار . أصبحنا بحاجة إلى مشرط وعيناَ مفتوحة فالجسد الفلسطيني قد أثخن بالجراح وشخصيات لا اعرف هل هي من نتاج الاستسلام والانقسام أم هي أسبابه ! كلام في الممنوع في زمن غياب الصقور وظهور الغربان.

د.لؤي ديب

رئيس الشبكة الدولية للحقوق والتنمية GNRD

شكرا للتعليق على الموضوع

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *