سجن الفراشة ” قصة واقعيّة ” ( 8 )
اقرأ : الجزء السابع
لمعت في رأسي صورة رقيقة وأنا أقطع المسافة القصيرة بين السيّارة والبيت.
“سأفاجىء أمي!” هتفت في نفسي بحماسة ملائكيّة.
تفحّصت المكان بعيني ذاكرتي، فوجدت أنني غريبة بعض الشيء عن المشاهد والأزقة والأحداث التي عشتها.
لم تربكني الغربة كثيراً بعدما طغت الطمأنينة في خلاياي.
قفزت الدرب قفزاً حتى وصلت إلى المدخل.
أحنيت جسدي ومشيت على رؤوس أصابعي حتى أترك للمفاجأة مداها العميق.
اختبأت تحت الشبابيك وفتحت الباب بنعومة والفرح يتآكلني.
لمحتها من بعيد وركضت إليها ملهوفة أضجّ بطبول حنيني.
غمرتها وانتظرت عاطفتها لتنسكب عليّ كمطر أهوج، لكنني اصطدمت بحائط برودتها وضرع لهفتها الجاف.
ظننت أنها ستلاقيني كما لاقتني في المرّة الأولى بعد عودتي من بيت “تيتا حنّة”.
تحملني وتدور بي في الغرف وهي تقبّلني وتشمّني وتضحك أبهج ضحكاتها.
لكنها لم تفعل شيئاً من ذلك.
اكتفت بقبلات سطحيّة قبل أن تبتعد وتعود للجلوس مكانها.
بدأت تسألني أسئلة عاديّة كأنني كنت في عطلة ليومين.
ابتلعت خيبتي ورحت ألهو مع شقيقي الأصغر يوسف وشقيقتي الصغرى إلهام التي بالكاد بدأت تتعلّم خطواتها الأولى.
فرحت بهما كثيراً، وتذكّرت فجأة أنني لم ألمح أختي رانيا التي تصغرني بسنتين.
– “أين رانيا؟” سألتها.
– “وضعها أبوك في أحد البيوت للعمل. فليشوه الله بجحيمه كما يستحق”.
اشمأزت نفسي سريعاً من الجو الذي أتنفّس فيه.
لم أسأل أمي لماذا لا تسعى إلى استرجاعها.
كنت أعرف أجوبتها سلفاً. لقد واجهتني بها مراراً عندما كنت أرجوها الخلاص.
لم يكد يمضي أسبوع على عودتي، حتى أعلمتني أن عليَّ أن أستقرّ في منزل شقيقي بكري. “لديّ إخوتك الصغار، ووقتي لا يسمح بالاهتمام بك”.
كانت تغيب طيلة النهار بحجة العمل في البيوت.
لاحظت أن ثيابها بدت أنيقة أكثر من السابق، وشعرها دائم الترتيب.
وحتى فساتينها كانت قصيرة جدًا تكشف عن ساقيها بشكل مريب.
لم أكن معتادة على هذا النمط من المظاهر، ولكن ذلك لم يعنِ لي شيئاً في ذلك الوقت.
كان هناك الكثير من الرجال الذين يزوروننا، وأنا لا أعرف من هم.
أذكر خصوصاً “أبو فادي” كما كانت تدعوه. أعطاني مرّات بعض المال، وكان يلاعبني كإحدى بناته.
مكثت حوالى الشهر في منزل بكري مع أولاده الأربعـة، ثـم عدت مجدّداً إلى البيت، فوجدت مفاجأة في انتظاري.
– “سنذهب برفقة أخيك إلى بيروت. هناك امرأة رائعة ستتدبّر لك منزلاً لائقاً تعملين فيه بصورة محترمة”.
– “ماذا تقولين؟” صرخت مدهوشة”. سأعمل في البيوت من جديد! أنتِ أيضاً!”.
– “نحن في حاجة إلى المال، ماذا تريدينني أن أفعل؟
سلمى المفتون تريد المال الذي أعطته إلى أبيك مقابل عملك لفترة تسع سنوات، وأنت لم تعملي لديهم إلا فترة ثلاث سنوات ونصف. علينا أن نتدبّر أمرنا”.
– “كنت تقولين إن أبي هو الذي يدفعنا إلى العمل، لكنك أصبحت قاسية مثله”.
– “العمل أفضل من بقائك في البيت. ألا ترين حالتك؟ ربما وجدنا العائلة المناسبة التي ترضى بك وتؤمّن لك العلاج”.
كان الأمر محسوماً بالنسبة إليها. لم يجدِ بكائي وتوسّلاتي، فوجدت نفسي مهزومة فوق المقعد الخلفي لسيّارة الأجرة التي ضمّت أيضاً أمي وبكري.
تمتعت لشهرين ببعض الاستقرار، عاشرت فيهما إخوتي الصغار واسترجعت رمقاً من سكينتي.
كنت في العاشرة من عمري تقريباً، حين تعرّفت على لميا “الاختصاصيّة” بترتيب أمور الفتيات القادمات من الشمال للعمل في بيروت.
بدت محنّكة في مهنتها ولديها الكثير من المعارف.
استغربت حالتي من النظرة الأولى، وقالت لأهلي: “هذه الفتاة معطوبة! كيف يمكن أن نتدبّر لها عملاً؟”.
وتبيّن في ما بعد أنها على حقّ. استقرّيت أسابيع عديدة في منزلها وهي تدور بي من مكان إلى آخر، وتعرض “بضاعتها” على من هم بحاجة.
لكن الورم في وجهي لم يكن قد زال بعد، والترنّح في مشيتي مازال على حاله.
اخترعت للناس بعض الحجج عن حالتي. “تعثّرت منذ أيام ورضّضت قدمها في سقوطها، لا شيء يدعو للقلق.
والورم في خدها نتيجة لسعة حشرة. ستشفى بعد أيام”. ومع هذا لم تجد أحداً يرضى باستخدامي. كنت أفرح كلّ مرّة أواجه رفضاً في أحد البيوت.
عرفت أن ذلك سيسهّل عودتي إلى طرابلس. لم يكن حنيني إلى أمي ما يبعث الرعشة في صدري بل الخوف مما ينتظرني.
بدأت مشاعري تجاهها تتحوّل. لمسني تيّار انحطاطها وفتح عينيّ على حقائق موبوءة.
حتى في الفترة القصيرة التي أمضيتها عند لميا تعرّضت لتحرش أخيها السكير.
كان لطيفاً وعطوفاً في الحالات العاديّة، يشتري لي الحلويات ويعاملني بمودّة.
حين أطفأت الخمرة وعيه في إحدى الليالي، دعاني إلى فراشه.
بالرغم من حذري وتجاربي الماضية مع لطف الرجال، ظننت أن هذا مختلف.
في الفراش فاجأني بعريه ولمساته الوقحة. قفزت كالملسوعة بضجة قويّة. دخلت إلينا لميا واصطحبتني إلى غرفتها.
“لا تقتربي من عمر مرّة أخرى. ألا ترين حالته وضياعه؟”. ثم عادت إلى أخيها وأشبعته شتماً ولعنات.
عندما يئست لميا من إمكان استخدامي، أعادتني إلى أهلي.
ومن جديد بدأت دوامة البحث عن سماسرة الخدم. لم تمهلني أمي فترة قصيرة أستعيد فيها رونق الحياة الطبيعيّة، فوجدت نفسي بعد أيام في مكتب سمسار يدعى بطرس مخلوف برفقة صبيتين من عكار تبحثان عن فرصة للعمل.
وجوه ووجوه وأفكار مفكّكة، والوقت يمضي. في الليل كنا نبيت في منزل بطرس، وفي النهار نعود إلى واجهة العرض.
في يوم ما دخلت امرأة عجوز إلى المكتب برفقة ابنتها. العجوز في أواخر الخمسينات من عمرها، وابنتها في بداية الثلاثينات.
كان ذلك تاريخاً حاسماً بالنسبة إليّ، وأنا لم أكن أستشف ما ينتظرني.
دار حديث بين المرأتين والسمسار بشكل ودّي دلّ على أنهم كانوا على معرفة سابقة.
نادى بطرس علينا من الغرفة المجاورة لمكتبه، وتحدّث بدءًا عن الصبيتين قبل أن يشير بإصبعه صوبي قائلاً:
– “هذه الصغيرة لا تهمّكم، على ما أعتقد. أردت فقط أن أطلعكم على وجودها”.
تفرّست بي العجوز بعينين صبورتين، وتوجّهت إليه بالقول:
– “لماذا قلت إنها لا تهمّنا سيّد بطرس؟ ما بها هذه الصغيرة؟”.
أطلعها باقتضاب على حالتي والصعوبة التي يجدها في إيجاد من يستخدمني.
نادتني بلطف بالغ وسألتني:
– “ما اسمك يا حلوتي؟”.
– “حنان عبدالله”.
– “ما به خدّك الجميل؟ هل يؤلمك؟”.
– “قليلاً، ولكن الطبيب قال إنني سأموت!”.
ابتسمت لعفويتي ولخوفي البليغ.
– “لا، لن تموتي. هذا أمر بسيط وستشفين منه بالتأكيد”.
وضعت يداً فوق كتفي وقالت للسمسار:
– “أفكّر في استخدام هذه الطفلة”.
– “ماذا تقولين أمي؟” تدخّلت الصبية قبل أن تتيح لبطرس إمكانيّة التعليق.
“هل جننت؟ كيف يمكننا أن نستخدم طفلة في هذا العمر؟ ثم ألا ترين حالتها وأمراضها؟”.
– “سنعتني بها! ألا يجدر بنا أن نفعل ذلك بدل أن نترك لدوّامتها أن تتمادى؟”.
– “نعتني بها؟ هل نبحث عمن نعتني به أو عمن يعتني بك؟ أريد أن أذهب إلى عملي مطمئنة، وأترك في البيت من يهتمّ بتنظيفه ومدّ يد العون إليك. ماذا يمكن لهذه الصغيرة أن تفعل؟ ستشفقين عليها بالتأكيد وتدعين الأمور تسوء في المنزل”.
– “أظنّ أنه من حقّي أن أختار من يؤازرني في شؤوني. أليس من أجلي تفعلين ما تفعلين؟ سنأخذ هذه الطفلة إلى بيتنا ونعرضها على الطبيب”.
– “لن أقبل بذلك أبداً!” صرخت الابنة. “ستجلبين لي المتاعـب
بدل أن تسهّلي عليَّ الأمور. أطباء وأمراض وعناية بالأطفـال!
يكفينا ما لدينا”.
– “قلبي ينبئني بأنه عليَّ أن أختار حنان. لقد اتخذت قراري”.
– “سأترك المنزل إذا اضطررت لذلك!” أجابت الابنة بعناد وحدّة.
– “يا جماعة، تدخّل بطرس، خذوا وقتكم في التفكير ومناقشة الموضوع. لا داعي للعجلة”.
دار النقاش لصالح الأم العجوز ماري، وتغلّب عنادها على عناد ابنتها منى.
في اليوم ذاته وجدت نفسي في منزل المرأتين في الأشرفية، وأنا متوجّسة مما يمكن أن يكون في انتظاري من جرّاء التجاذب الذي سبق استخدامي.
لم تكفّ منى عن التأفّف طوال الطريق، ولم يساعد شكلي ورائحتي في تسهيل الأمور عليها. القمل يملأ شعري، والنظافة هي آخر ما يمكن أن أنعت به في ذلك الحين. شعرت بقسوتها ونفورها، فاستكنت خائفة ومخضوضة بذكرياتي الأليمة.
لاطفتني السيّدة ماري فور وصولنا، وطمأنتني إلى أن حياتي ستتغيّر من الآن فصاعداً:
– “هنا بيتك الجديد لست سنوات. ستعيشين في أمان، ولا أحد سيؤذيك أو يسبّب لك الأسى”.
كيف تسرّبت إليها معاناتي؟ السمسار كان يجهل كلّ شيء عـن
حياتي، ولم يرَ أمامه إلا جسداً مهشّماً وروحاً منكسرة. لم يكـن
هو إذاً من زوّدها بقلقي. كان قلب تلك العجوز متوقّداً في صدرها، واستشفّت من معطوبيتي الجسديّة والنفسيّة ونظراتي الزائغة، ملامح مأساتي القريبة.
الصمت كان كلّ ما فعلته في اليوم الأول. هل يمكن أن تتكرّر الأمور بالنسبة إليّ بشكل قدري؟ لم تفارقني الخشية لحظة واحدة. كيفما تلفّت ألمح أطيافاً مزعجة ومخيفة تحيط بي وتعصر مكامن خوفي.
– “ما بك متوتّرة إلى هذا الحد، حبيبتي؟”. سألتني.
لم أجرؤ على الإجابة أو حتى النظر. لم يعد لطف البشر يغريني ويخدعني. كنت أشبه بحيوان جريح يحدّق في عيني صياده. هل يطلق هذا طلقة أخرى ويقضي عليه، أو يذبحه بطريقة مختلفة.
اختفت منى لحظة وصولنا، لتعود بعد فترة محمّلة بمواد التنظيف ودواء للقمل وملابس جديدة. لم تستوعب الحدث، وكانت تريد أن تجعلني أليق بمنزلها الفخم والنظيف، ورائحة الأناقة التي تفوح بين أرجائه.
حين لمحتني أقف كوتد مصعوق في زاوية المكان، رقّت فجأة ملامحها وبدت أقلّ استياءً وعنفاً. أدخلتني إلى الحمام وعرّتني من ملابسي. كنت أرتجف من الداخل، ففاض ارتجافي من جوفي إلى الخارج، وبان جسدي الهشّ على حقيقته. شهقت بتأثّر حقيقي عندما عاينت هشاشتي. آثار الحروق تتوزّع كلّ مساحاتي، وتزيد على إعاقاتي طعم المرارة.
جسدي هزيل وعظام صدري نافرة. وجهي منتفخ مـن جراء الورم، والرعب يكبّلني.
– “يا إلهي، ما هذا؟” أفلتت بتضرع من بين شفتيها.
تأمّلتني طويلاً وأنا على هذه الحال. عريي فضح جروحات حياتي، وكلّل بالشوك هامتي المصلوبة. أحسست بتساؤلاتها الكثيرة، وتمزّق أحشائها بمشاعر مختلفة. لكن لسانها يبس أمام هذا المشهد، ولمحت في عينيها بريقاً رطباً تحوّل بصمت مهيب إلى دموع مكتومة. كانت منى تبكي في ذلك الحمام، في ذلك المكان، في ذلك الزمن الذي لم أشهد قبله مثيلاً! للمرّة الأولى ألتقي شخصاً يبكي حالتي. وفي لحظة مثقلة بالتأثّر، أدركتُ أن هناك أضواءً دافئة في الحياة تختلف عن أظافر الظلمة التي حفرتني في السنين الماضية.
تابعونا : الجزء التاسع