سجن الفراشة ” قصة واقعيّة ” ( 9 )

اقرأ : الجزء الثامن

الأيام الأولى ظلّت موحشة بالنسبة إليّ. أنزوي في غرفتي الصغيرة التي خصّصت لي، وأفيض حزناً وبكاءً.

– “حنان، ما الذي يزعجك ويبكيك؟” تسألني منى كلما رأتني على هذه الحال.

– “أريد العودة إلى أمي، لا أريد البقاء هنا”.

أجيبها بحرارة وترج، كأن خلاصي في تلك البقعة النتنة التي ولدت فيها، وبين أشخاص كانوا السبب في تهجيري خارج الحياة.

لا أعرف حقيقة ما الذي كان يحضّني على الشوق لأمي. أظن أن مشاعري كانت تنتمي في عمقها إلى توق فطري إلى عالم السكينة والمحبة والعائلة المضمومة، ولا تمتّ إلى واقع حياتي بصلة.

– “لماذا تخافين مني وتكرهينني؟” تسألني.

أهزّ كتفيّ بحيرة وأجيبها:

– “أكرهك، هكذا!”.

– “نحن نحبك هنا، وسنفعل كلّ شيء لإرضائك وإسعادك”.

ماذا تقول؟ لم أفهم ماذا كانت تعني بهذه  العبارات. ظننـت أن

ذلك يعني مجرد عمل أقل مشقّة، وعقابات أخفّ حدّة.

في الواقع، لم أكن “أعمل” حقاً في موطئي الجديد. بعض الأمور الصغيرة التي تليق بأيّ طفلة من عمري. أفتح الباب عند قدوم أحد الضيوف، أوضّب الخضار والأغراض، أجلب للسيّدة ماري بعض احتياجاتها، وأقوم ببعض الأعمال المنزليّة المحدودة، ثم انضمّ إلى كتبي ولعبي! كانت منى قد بدأت تخصّني ببعض اللعب والكتب المصوّرة لألهو بها. “هذه لك، هل تحبينها؟”. أنظر إليها باستغراب، وأجيب: “لي أنا؟”. لم أكن أصدّق وقتها أنه بإمكاني أن أمتلك أشيائي الخاصة. اللعب كانت كلها للارا ورلى في ما مضى. أتكمّش بما تقدّمه لي في حيرة وتردّد. “ماذا تخبّىء لي خلف نعومتها؟”.

كنت مضطربة ومتصدّعة. لم أرتخِ بسهولة برغم كلّ الملاطفات التي كانت تحيطني. حتى أنني جاهرت بعنادي وشخصيتي النافرة. عصفورة في قفص ذهبي تتخبّط بين حيطان سجنها في ضياع مطبق. غربتي مطلقة، وثقتي بالآخرين مقطّعة الأوصال ومشلّعة. تهرع منى إليَّ في الليل حين أستيقظ مذعورة وأبدأ بالصراخ تحت وقع كوابيسي. أستفيق مرتجفة ومتكوّمة، جاهلة أيّ أشباح تراودني عن نفسها.

– “لا تخافي، اطمئني. أنت هنا حنان، لا أحد سيؤذيك”.

تحاول تهدئتي وهي تجهل مدى الأثقال التي تغرق روحي في يمّ هائج ومسكون بشياطين الماضي.

البيت في الأشرفية واسع ومريح، يطـل مباشرة علـى الشارع

العام. تعيش فيه منى ووالدتها وحيدتين. يزورهما بعض الأهل والأصدقاء، أو تذهب السيّدة ماري أحياناً لزيارة أولادها المتزوجين وتمضية النهار عندهم. تعمل منى كمدرّسة في إحدى المدارس القريبة، وتعيش باقي وقتها في عزلة واضحة.

أسبوع بعد آخر بدأت الحياة تستغويني، والعطف الذي لقيته يرخي توتراتي الحادة. لم أدرك بسهولة التحوّل الجذري الذي يحدث ها هنا. لم  يكن  الاستقرار  والثقة حتى ذلك الحين، من العناصر القويّة في حياتي. أن تمسكني منى بيدي وتقودني في الشوارع المزدحمة بالناس والواجهات، للنزهة والتسلية، كان ذلك أمراً جديداً وغريباً تماماً بالنسبة إليّ.

تطمئنني العجوز مرّة بعد أخرى بالنسبة إلى حالتي الجسديّة.

– “سنعالجك، لا تخافي. لن نتركك على هذه الحال”.

لكنني في الحقيقة، لم أكن قلقة من جسدي المعطوب. تقبّلت ذلك كأنه جزء من نموّي، وراهنت في خشيتي على مخاوف أخرى.

لم تكد تمضي أيام قليلة، حتى اصطحباني إلى أحد أطباء الأمراض الجلديّة. عاين خدي المتورّم منذ أشهر، وجفلت مشاعره حين همست له منى أجزاء ضئيلة من قصتي.

– “أيّ ضمير يسمح للأهل بفعل ما فعلوا بحقّ هذه الطفلة!” علّق مستهجناً.

طلب إجراء عمليّة سريعة لإزالـة الورم الذي استفحـل بفعـل

الإهمال والعلاجات الخاطئة التي تلقّيتها. ثم  نصح لهـم بأسماء

بعض الأطباء المشهورين في مجال جراحة العظم.

– “لا يجدر بكم أن تتركوا قدمها تنمو على هذا الشكل. إذا كنتم أخذتم على عاتقكم أمر هذه الصغيرة، فامضوا بها إلى آخر الطريق”.

كان الطبيب يجهل تماماً الحادثة التي تعرّضت لها، وأدّت إلى ضعف ساقي اليمنى، وكذلك المرأتان اللتان احتضنتاني. كلّ ما أخبرهم به السمسار، الذي بدوره اطّلع عليه من أمي، هو أنني تعرّضت لحادثة سقوط في البيت الذي كنت أعمل فيه، ولم أتلقَ العلاجات المناسبة.

أجرى الدكتور خوري، عمليّة لوجهي في مستشفى أوتيل ديو، تركت مكانها إلى اليوم ندبة صغيرة تذكّرني بما كنت عليه. زال الورم وعاد وجهي إلى شكله الطبيعي. ثم جاء دور قدمي. عاينني الدكتور جبرا، وأمر بدوره بإجراء عمليّة أجهل تفاصيلها. “من المستبعد أن تعود ساقها إلى حالتها الطبيعيّة، لكنها بحاجة إلى سلسلة عمليّات كي لا تسوء أكثر من ذلك”. هذا كلّ ما فهمته منه.

أسبوعان أمضيتهما في المستشفى وسط اهتمام يفوق استيعاب مشاعري المشوّشة. تحوّلت منى إلى ممرضة وأم ومربّية وحارسة لحياتي. ظننت أن ردّة فعلها الرافضة التي بادرتني بها لدى السمسار، ستجعل أيامي المقبلة امتداداً لجحيمي السابق. استلزمتني فترة قصيرة لأكتشف أنها أخذت على عاتقها أن تكون عائلتي وعشي الدافىء. تخطّت عتبة الثلاثين بسنوات عدّة، من دون أن تتزوّج. وجدت فيّ الطفلة التي لن تحتضنها يوماً في رحمها، والأرض التي تصلح لتفيض عليها مطر حنانها واهتمامها.

تصل إلى المستشفى بعد عملها مباشرة، حاملة الألعاب والهدايا وباقات من الأزهار. غرقت في جنة بيضاء أنستني المكان الذي أنا فيه، وبذرت بين ضلوعي أحاسيس لم أختبرها يوماً. تمكث بقربي ساعات طوال وتمضي الليل مرّات على الكرسي المحاذي لسريري، لتستفيق فجراً وتهرع إلى عملها.

– “ليحفظ لك الله هذه الابنة الجميلة! ولكنك ترهقين نفسك هكذا بالبقاء بقربها ليلاً. دعي الأمر للممرّضات”.

قالت لها ذلك المرأة التي تعتني بزوجها الرازح في السرير المجاور لسريري.

– “هذه ليست ابنتي، فأنا لم أتزوج بعد”.

– “قريبتك؟” تساءلت المرأة.

– “لا”. ردّت منى، ثم أخبرتها قليلاً عني.

– “لم يخل العالم من الخير بعد، الحمد لله! من يصدّق أن هذه الطفلة اختبرت في فترة قصيرة أقاصي الخير والشرّ”.

– “أنا لم أفعل شيئاً استثنائياً. من الطبيعي أن نعالج أمراضها طالما هي في بيتنا”.

– “تجدين هذا طبيعيّا؟ ربما أنت على حقّ. على أيّ حال، إذا لم

يهجم نصيبك في المستقبل، فستكون هذه الطفلة ابنة حقيقيّة لك”.

– “لا أعرف ماذا ستكون. أنا أفعل ما عليّ أن أفعله، والفضل في ذلك كلّه لأمي. هي التي أصرّت على استخدامها”.

– “إنها امرأة طيبة للغاية. حادثتها مراراً هنا، وتأكّدت من لطفها وغيرتها”.

– “أجل إنها كذلك”.

عدت إلى البيت مجصّصة الجسد، ولكن السكينة تملأ قلبي. الخادمة المرذولة التي كنتها، باتت طفلة العناية والعطف. أطلعت منى باقتضاب على فصول بسيطة من حياتي الماضية، فأصابتها رعشة قويّة بمرأى مني. ارتجفت كقنديل تلاعبه الريح، فصرخت فيّ: “أصمتي أرجوك، لا أريد أن أسمع شيئاً بعد اليوم عن هذه الأحداث”. ثم استدارت على نفسها، وأشاحت بوجهها عني وانخرطت في بكاء صامت. أردت أن أخبرها ذلك، لأنني كنت بحاجة إلى أن يعرف أحد الحقيقة، ولأشعرها في أيّ ارتباك ونعيم قذفتني بتصرفاتها. لكنها برغم ظاهرها البارد والعنيد، كانت رقيقة كالخزف، ولا يمكنها أن تواجه أظافر الحياة من غير أن تتشقّق قشرة هدوئها ورزانتها.

عادت يوماً فوجدتني منكبّة على أحد الكتب المدرسيّة التي تخصّها. كنت ما زلت في فترة النقاهة، ولديّ متّسع من الوقت للعبث بأغراضها عندما تتوقّف حواراتي الطويلة مع جدتي الحنونة ماري. داعبتني فور وصولها، ثم توقّفت فجـأة وكأنهـا

فطنت إلى أمر لم يخطر على بالها في السابق:

– “حنان، هل تعلّمت يوماً القراءة والكتابة؟”.

– “لا سيّدة منى. لا أعرف شيئاً من هذه الأمور”.

– “قلت لك ناديني منى …” صمتت قليلاً ثم تابعت: “أو ناديني أمي، إذا كان يحلو لك ذلك”.

لمحت تأثّرها الخارق لدى تلفّظها بكلمة “أمي”. لا شك في أن عاطفتها كانت اندلعت بعنف في ذلك الحين، وتشـلّعت كلّ تحفظاتها، وبتّ أعني لها الكثير في أشهر قليلة.

أحنيت رأسي بصمت وأنا عاجزة عن تسديد خطى أحاسيسي. كيف أتخلّى عن تلك العبارة التي كانت تفصلني بصورة قدريّة عن عالم الأسياد؟ اعتدت مكانتي الوضيعة، ولم تكن لديّ طموحات كثيرة في الحياة. هل تريد حقًّا أن أناديها “أمي”؟ وأنا ماذا أريد؟ راودني غيظ باطني عند سماعي كلمة “أمي”. لا، لا أقدر أن أتلفّظ بها. تعيد إليّ مشاعر سوداء وغربة عشتها بالقرب منها.

– “ما رأيك لو علّمتك قراءة القصص الجميلة؟ تعرفين أنني مدرِّسة، وسأجعلك أبرع تلاميذي”.

اشتعلت حماسة للفكرة، وأجبتها على الفور:

– “أجل، أجل، أريد أن أتعلّم. يبدو أن هذا أمر رائع”.

– “بل أكثر من رائع بالنسبة إليك. ستغيّر الكلمة حياتك  بشكـل

جذري”.

كانت تلك نبوءة مرهفة أطلقتها منى، تأكدّت في ما بعد من عمق صوابيّـتها.

بدأتْ سريعاً تنفيذ ما اتفقنا عليه. أحضرت كتبًا خاصة بالمبتدئين مثلي، وأدخلتني وسط دهشتي إلى عالم الأحرف والكلمات. لم تكن لديّ فكرة حتى ذلك الحين عن قدرة استيعابي، وما إذا كنت أملك العقل المناسب القادر على المعرفة والحفظ والتحليل. عشت في عالم لم يخبرني فيه أحد أن الخدم قادرون على التعلّم، ويستحقونه. كان عالمي خاليًا من هذه الاحتمالات، وخاليًا كذلك من وجود الله. هذا المجهول الفائق، لم يكن مجرد مجهول بالنسبة إليّ، بل كان غائبًا تماماً لسبب بسيط، وهو أن أحداً لم يحدثني عنه قبلاً.

انذهلت منى من قدرتي على امتصاص العلم بصورة خارقة، كما أخبرتني في ما بعد. جلسات معدودة، كانت كافية لتجعلني قادرة على الكتابة والقراءة بشكل مقبول. تحوّلت الكلمات إلى كائنات حيّة أمام عيني. اكتشفت متعة الحوارات الصامتة مع الآخرين. جملة بعد جملة، أغوص في أماكن أُخـَر خارج عالمي المحدود والمفكّك، وأتوغّل في الخيال عميقاً حتى تتلاشى حدودي، وأنبض على وقع القصص والأبطال.

تنوّعت الكتب واتّسعت إثارتي. من التاريخ والجغرافيا، إلى الحساب والعلوم واللغات الأجنبيّة. ثم بدأت تلقنني الدروس بشكل منهجي، وفقاً للبرامج المدرسيّة، وأنا فرحة ومغتبطة بتأثير المعرفة فيّ. أدركت كم كنت أشبه شجرة بلا أغصان ولا جذور، وقصبة فارغة لا تصلح حتى لإخراج الألحان من مداعبات الريح الرقيقة لها.

ثم جاء دور الله! هبط فجأة من العدم إلى واقعي وكتبي، وبعدها إلى فكري وقلبي. بدأ اسمه يفاجئني هنا وهناك، ووجهه يلبس بعض الملامح المبهمة.

– “منى، أريد منك أن تخبريني عن الله. هل تفعلين ذلك؟”.

– “كنت أنتظر نضوجك وتفتّحك، قالت، ولكن يبدو أنك بتّ جاهزة للصلاة. سأجلب لك الكتاب المقدّس الخاص بالصغار. طالعيه، وسنتحدّث لاحقاً”.

– “أريد أن أذهب إلى الكنيسة”. فاجأتها بالقول. “ألا تذهبين أنت كلّ أحد مع جدتي ماري؟”.

كانت تخاف عليَّ من الضياع. الأمور كلّها جديدة بالنسبة إليّ، وماضيّ لا يحمل تراثاً ناصعاً على المستوى الروحي.

– “ولكنك تعرفين أن المسلمين يذهبون إلى الجوامع وليس إلى الكنائس. أريد منك أن تحافظي على إيمانك الماضي وإيمان أهلك. ليس ضروريًّا أن ننتقل من دين إلى آخر، إذا كنا نريد أن نصلّي ونعيش حياة صالحة”.

– “لم يكن لديّ أيّ إيمان في الماضي. كلّ ذلك لم أكن أعرف عنه شيئاً، ولم يكن يعني لي شيئاً. أنت امرأة رائعـة وأريد  أن

أتعرّف على سرّ روعتك!”.

بدأ كلامي يلبس أثواباً برّاقة، والمعاني تتأصّل وتتعمّق في تربة مختلفة. دفعني كرهي لأهلي ولما هم عليه، إلى النفور من كلّ ما يمثلونه، وللبيئة التي ترعرعت فيها، وصولاً إلى الدين الذي ينتمون إليه ظاهريًّا. أنا اليوم إنسـان جديد، كنت أعتقد، وسأكون جديدة في كلّ شيء.

تلقّت سكينتي ضربة موجعة يوم زارتني أمي للمرّة الأولى بعد مرور سنة ونصف على وجودي في منزل منى نجار. كانت صورتها قد بدأت تتلاشى من فكري، ولم أعد أملك من وجودها إلا بعض الذكريات الضبابيّة. خضّني اللقاء كما لم يخضّني أيّ شيء آخر منذ فترة طويلة. واجهتها بخوفي وبرودتي، وبصمتي الذي لم تتمكن بسمتها العريضة من زحزحته.

– “تبدين الآن صبية جميلة، حنان. هل أنت مرتاحة هنا؟”.

– “أجل”.

– “أختك إبتسام معنا في البيت الآن. وهي تبحث عن عمل جديد لها “.

– ” … “

– “ثيابك نظيفة وأنيقة! أترين، لم نسىء الاختيار لك هذه المرّة. تعرفين أنني لا أزورك غالباً، بسبب انشغالي وهموم البيت”.

كانت كأنها تتكلّم من صندوق مغلق. يصل صوتها إليّ غريباً ومشوّهاً. ألتصق أكثر بمنى، وهي تفيض وتسأل وتعلّـق علـى

بعض الأمور، وتخبرني أخبار اخوتي.

تفسّخ خوفي شيئاً فشيئاً حين أيقنت أنها مجرد زيارة ستنتهي في وقت قصير، لتعود حياتي إلى علوّها ورقيّها. استيقظت لومضات، الوحوش التي أرعبتني وأفقدتني قسماً من جسدي وإنسانيتي. شعرت للمرّة الأولى بكره شديد لما كنت عليه، وللشخصيّات التي لعبت دور البطولة فوق رقعة مأساتي. أحسست بكره لأمي لم أختبره في حضيض وجعي، وبكره لأبي، وأمل، وعائلتها، وللأمكنة التي عجنتني بخميرة شيطانيّة. حين تفتّح عقلي، ورقدت اضطرابات بحيرتي العكرة، وعيت لفساد الأقبية التي غلّلت روحي، ونمت بين عظامي ثورة هائجة، حاقدة، ومشبعة بأنفاس النقمة والانتقام.

كلّ هذه الانفجارات أشعلتها أمي بزيارتها. كنت بدأت أنسى، وأتوغّل في عالم آخر أشبه بالقصص الخرافيّة. أصابني النكد والنزق ليومين، دفعت فيهما منى إلى الحيرة والمعاناة وحتى الغضب من تصرفاتي غير المبرّرة. ثم عادت الطمأنينة وجرفتني من جديد.

انطوى الكره في مطارحي السريّة، تحت طبقات إنشغالاتي وإثارات حياتي الجديدة وعمر المراهقة الذي دخلت إليه. لم أدرك مدى انغرازه في كياني إلا يوم زارتنا أمي للمرّة الثانية، وبعد مرور أكثر من عامين على زيارتها الأولى. كانت في خلال السنوات الماضية تكتفي بالاتصال هاتفيًّا والتحدث إلى منى. أعلنتُ رغبة واضحة بعدم التحدث إليها، فقدّمت لها منـى

حجج غياب مختلفة في كلّ اتصال.

فتحت لها الباب، فأسقطني وجهها بلمحة في حفرة متحرّكة وموحشة. لكنني هذه المرّة لم أفقد اتزاني، ولا عضّني الخوف في مسارب دمائي. استغرق الوضع ثانيتين، لألبس وجه النفور وأردّ على تحيتها بقرف واضح:

– “هذه أنتِ؟”.

وقفت بصلابة في فتحة الباب كأنني أريد أن أعيق زحفها إلى الداخل، حيث المذود الدافىء الذي حضن ولادتي الحقيقية.

– “أهكذا تستقبلين أمك بعد غياب طويل؟”. قالت بحدّة.

لم أدرِ ماذا كانت تنتظر مني، وأيّ نوع من اللهفة كان عليّ أن ألاقي بها الكائن الذي رمى بذوره فوق الصخور والأشواك، ومعس بحذائه الغليظ أعناق البذور التي صارعت بيأس في تربة عدائيّة.

– “تقولين إنك أمي!” واجهتها بحدّة متبادلة، “ليست لديّ أم على هذه الأرض”.

في هذه اللحظات كانت منى قد باتت خلفي، وتناهت إليها أجزاء من الحديث المسنّن.

– “أهلاً سيّدة هدى، تفضلي”.

نظرت إليها بعتب واستغراب، فبادلتني نظراتي بأُخـَر من الطينة عينها، وقالت:

–              “هذه أمك، حنان. مهما كانت الأسباب، يجب ألا تتوجّهي إليها

بهذه الطريقة”.

كان الحوار بيننا أشبه بغرز الخناجر. أهاجمها عند كلّ نفس وحرف وفاصلة في حديثها. علمت أن أخواتي ما زلن يعملن في البيوت، ولو حاولت الكذب عليّ في هذا الشأن. أخبرتني بنفسها أن عدداً من أشقائي من الزوجات الأخريات، بدأ يدفع بأطفاله إلى الشقاء والعمل باكراً، تماماً مثلما كان يفعل أبي. ما هذه الدماء الفاسدة!

– “أترين؟ علّقت قائلة، ليس في مستطاع النساء أن يفعلن شيئاً. نحن نرضخ للأمور ونكتفي بالاطمئنان على بناتنا من فترة إلى أخرى”.

– “أنا أكرهك ولا أريد أن أسمع منك شيئاً. هل نسيت كيف استعجلت رحيلي بعدما عدت مشوّهة من منزل أمل الجندي؟ أين تاه حنانك في ذلك الوقت؟ أنا لم أعد أنتمي إلى هذه العائلة اللعينة.  لماذا لا تدعوني وشأني؟”.

– “من يدفعك إلى كره أهلك بهذا الشكل؟ من حرّضك علينا حتى أصبحت وقحة وعدائيّة إلى هذا الحدّ؟”.

– “لا أحد يحرّضها على أهلها، سيّدة هدى”. تدخّلت منى بحزم. “نحن دائماً ننصحها بالمغفرة والنسيان، ونكرّر لها أن عليها ألا تكرهكم مهما كانت الأسباب”.

– ” لم أعد صغيرة وغبيّة، كما تظنين. أنا اليوم  فـي الرابعـة

عشرة من عمري، ولديّ القدرة على التمييـز والمقارنـة. لـم

تدخلوني يوماً إلى المدرسة حتى يظلّ عقلي بارداً وبطيئاً، وشخصيتي هزيلة وهشّة. لم يكن لديكم الوقت لذلك. على أيّ حال، أنت جاهلة ولا تفهمين هذه الأمور. لقد تعلّمت الكثير هنا، وأضيئت في رأسي مصابيح باهرة كانت في ما مضى كامدة ومظلمة”.

– “يبدو أن العلم أفسدك. ما نفع العلم إذا كان يؤدّي إلى كره الأهل؟”.

– “وما نفع الغباء إذا كان يؤدي إلى قهر الأطفال؟”.

– “نحن أناس بسطاء، نفعل ما نقدر على فعله”.

– “لقد فعلتم أموراً قبيحة للغاية، ولا علاقة لذلك بالبساطة”.

كنت أواجهها بحقارة بالغة، يغذّيها خوف باطني من أن أفقد هذا النعيم الذي يغمرني.

تكرّرت زياراتها في ما بعد. تأتي مرّات بصحبة شقيقي الأكبر موسى. كان هذا قد تحوّل إلى وحش آخر من وحوش عائلة عبدالله. شكله قاس ومخيف، ونبرته خشنة وفاقدة أيّ أثر للعاطفة والمشاعر. تذكّرت بأسى جسده المعلّق رأساً على عقب في حديد النافذة، والضرب الهستيري الذي كان يتلقاه من أبي، ووجهه المشدود والحاقد في ذروة الوجع. لم أشعر بالشفقة عليه، لا أدري لماذا. ربما لأن وجهه يكاد يكون وجه أبي، وصوته يعيدني إلى فحيح أبوّة أكرهها. كان قد تزوّج باكراً، وبدأ بإنجاب مجموعة من التعيسات سيتحوّلن قريباً إلى خادمات قبل أن يبلغن الخامسة.

لم تكن منى كاذبة حين قالت لأمي إنها توصيني دائماً بعدم كره أهلي. كانت تعرف بخبرتها أن هذه المشاعر القاتمة ستحول دون سعادتي في المستقبل. إلى اليوم، وعلى ضفاف إيماني ومحاولاتي للعيش بكرامة وسلام، يخرقني نفور غليظ لا يليق بما أسعى إليه أو يبدو من الخارج أنني أعيشه بطمأنينة. هل أقول إن الآخرين مخدوعون بي؟ في جفافي الليلي ونضوب ينابيع إشراقي، أبدو منحطّة ومنخورة في عيون نفسي. ستزيد أحداث المستقبل جروحاً جديدة على أحداث الماضي، لتجعل انفلات حقدي مبرّراً مرّات ، ونتيجة طبيعيّة لمضاجعة البشر والشياطين.

تابعونا : الجزء العاشر

الكاتب والاديب سمير فرحات
الكاتب والاديب سمير فرحات

اقرأ اجزاء الرواية :

الجزء الاول

الجزء الثانى

الجزء الثالث

الجزء الرابع

الجزء الخامس

الجزء السادس

الجزء السابع

الجزء الثامن

 

شكرا للتعليق على الموضوع