رمضان ابوجزر يكتب : جنين و نابلس و اعتصام بروكسل

في أوج مراحل انتفاضة الأقصى و ايام الصمود الأسطوري لابطال فلسطين في جنين و بطولات جبل النار في نابلس و قصص العطاء و الوحدة الوطنية بين كل شرائح الشعب الابي في كل مكان تواجده .. و اشتداد الامر على مناضلينا تحت غطرسة الآلة العسكرية الهمجية التي استخدمت الطائرات و الدبابات و المدفعية ضد عشرات الأبطال الصامدين و تردد الأخبار عن سقوط عشرات الشهداء و مئات الجرحى في جنين و نابلس و باقي مدن و قرى الوطن الغالي .. هبت جماهيرنا في المهجر و أنصار فلسطين في حراك دائم لمساندة صمود الأبطال و فضح جرائم الاحتلال امام العالم الذي احتاج لجهد الجاليات و أنصار فلسطين ليكشف زيف ديمقراطية الصهاينة و بدأ يعرف وجه الصهيونية الحقيقة و جرائمه ضد الانسانية.

و في فجر يوم 08/04/2002 قمنا كمجموعة من ابناء الجالية الفلسطينية في بلجيكا بالتواجد امام مبنى الصليب الأحمر الدولي في بروكسل و بمجرد فتح ابوابه دخلنا المبنى و قمنا بالاعتصام داخله و نشرنا أعلام فلسطين من نوافذ المبنى باتجاه الشارع الرئيسي و بدأت وكالات الانباء و الشرطة بالتوافد للمكان و كان صوت حالنا واحد موحد يطالب بتدخل الصليب الأحمر الدولي لاخلاء الجرحى و الشهداء من ازقة جنين و نابلس البلدة القديمة تنفيذا لاتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بعمل الصليب الأحمر الدولي اثناء الحروب .

كان من ضمن المعتصمين من ابناء الجالية عائلات قدمت مع اطفالها و منهم رضع . و اذكر بعض الأسماء الفاعلة يومها مثل محمد القزاز و زياد السعدي و عارف نوفل و فؤاد نوفل الذي حضر برفقة اطفاله و الذين تحملوا عناء الاعتصام و الضغط الذي تعرضنا اليه لحثنا على انتهاء الاعتصام و مغادرة المكان بكل الوسائل و التي تكلفت من الإخوة و الأخوات حينها بالتحدث و التفاوض باسم الجميع مع الجهات الرسمية و ادارة الصليب الأحمر الدولي .

المفاجأة التي احدثت حدثا اخر انه بمجرد نشر إعلام فلسطين و لوحات الاعتصام و صور الجرحى و الشهداء و الدمار التي الحقته آلة الحرب الصهيونية من نوافذ المبنى ( لم نكن نعلم ان مبنى الإذاعة الاسرائيلية في بروكسل جوديكا مقابل مبنى الصليب الأحمر ) حيث بدأت الراديو اليهودية تبث نداءات استغاثة ظنا منها اننا قدمنا لمهاجمة مبناهم و كانت بعض عبارات الاستغاثة ( مجموعات ارهابية فلسطينية تهاجمنا ) مما زاد الوجود الأمني و الاهتمام الحكومي بضرورة إنهاء هذا الاعتصام .

و بعد ساعات ردت الإذاعة العربية في بروكسل بنداءات تأييد لنا و تطالب الجالية العربية بالتوجه لمساندتنا مما أشعل الموقف خارج المبنى و اصبح الشارع مغلق من الجانبين و لا يتواجد فيه غير طواقم الصحافة و الكاميرات الذين بداوا ياخذوا لقاءات مع المعتصمين من خلال النوافذ .

و بعد ظهر اليوم دخل المبنى أعضاء برلمان من أصول عربية لحثنا على مغادرة المبنى و إنهاء الاعتصام موضحين لنا مدى تعاطفهم مع شعبنا و ادانتهم للاجراءات الاسرائيلية و لكن بعد نقاش لأكثر من ساعة خرجت فضيلة لعنان عضوة البرلمان البلجيكي تعلم الصحافة ان البرلمانيين قرروا الاعتصام معنا الى حين تلبية مطالبنا بالتدخل الفعلي للصليب الأحمر الدولي و اخلاء الجرحى و الشهداء و خاصة في جنين و نابلس .

عدالة قضيتنا هي من ساعدتنا في إقناع المفاوضين للانضمام الى معسكر فلسطين رغم الضغط الصهيوني و لم انتظر كثيرا حيث اتصل وزير خارجية بلجيكا حينها لوي ميشيل بالاتصال بالسفير الفلسطيني السابق في بروكسل المرحوم شوقي ارملي يطلب منه التدخل لدى المعتصمين معتمدا على حسن العلاقة بين بلجيكا و القيادة الفلسطينية فأبلغه حينها السفير شوقي بان ليس لديه اي نفوذ او سلطات على المعتصمين و وجهه للاتصال و الاستعانة بالأخ فاروق القدومي ( ابو اللطف ) رئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير حينها . و فعلا طلب وزير الخارجية البلجيكي من ابو اللطف المساعدة في إنهاء الاعتصام و اجابه الاخ ابو اللطف حينها بالإيجاب .و في ساعة الغروب اتصل الاخ ابو اللطف بي و سألني عن همتنا و عزيمتنا .فاجبته بأننا بخير و اننا سوف نبدأ إضرابا عن الطعام و لن نغادر المكان حتى نحقق مطالبنا .. فما كان منه الا ان شد من عزيمتنا قائلا على بركة الله ..الله يحييكم و سوف أعمم على كل جاليتنا في أوربا للقيام بنفس الخطوة …و نعم القائد الذي لم يجامل وزراء دول كبرى على حساب مشاعر ابناء شعبه .

أبلغت المعتصمين بفحوى محادثة الاخ ابو اللطف التي كان لها عظيم الأثر في شحذ الهمم و أصبحت المعنويات مرتفعة اكثر بعد مرور اكثر من نصف اليوم الاول ..و هنا شعر مسؤولي الصليب الأحمر بصعوبة مهمتهم و ان الامر يجب ان ينتهي قبل ان نصل الى بداية اليوم الثاني ..فالجميع يعلم انه مع ساعات الصباح الاولى لليوم التالي سوف تكون الحشود بالألوف متوجهة للمبنى لمساندتنا .. و هنا بدأت الليلة العصيبة ..و انا أتنقل بين الشباب و الأخوات و الأطفال الذين افترشوا الارض و طاولات المكاتب ..و انظر من النافذة و ارى الشرطة و هي تحاول منع الناس من الاقتراب و سمحوا لامرأة مسنة برفقة ابنها تحمل لنا الطعام ..هنا دمعت  عيناي ( هذا الطعام للمحاصرين في جنين  و ليس لنا ) كم انتم عظماء ابناء الجالية العربية في بلجيكا .

في ظل استمرار الاعتصام و فقدان الأمل من إنهائه بالطرق العادية توجه رئيس الصليب الأحمر الدولي في أوربا السويسري تيري جيرمو الى بروكسل و وصل الى المبنى رفقة طاقمه ليبدأ المفاوضات معنا و طلب مني ان اصعد للدور الاخير للقائه . و بدأ باطلاعي على الخدمات التي يقدمها الصليب الأحمر الدولي للأسرى الفلسطينيين على مدار الساعة و انهم قاموا بتزويد مستشفى نابلس اليوم بمولد كهربائي و و يشكو من عدم سماح الجيش الاسرائيلي لطواقم الصليب الأحمر بالوصول لمناطق معينة و خاصة جنين و نابلس . و ابلغني بأنهم اجتمعوا مع المجرم شارون اليوم و طالبوه بالسماح لطواقمهم بالعمل و لكنه رفض و هم مستمرون بالتفاوض معه .

هنا طالبتهم بإصدار بيان من الصليب الأحمر الدولي يُتهم جيش الاحتلال بمنع طواقمه من تأدية واجبها و يحمله كامل المسؤولية على ما يترتب على ذلك  . و فعلا ذهبنا بصعوبة الى هذا الحل … و بدأت ساعات عصيبة في صياغة نص البيان حيث ذكر مفردات لم نقبلها مثل الجيش الاسرائيلي و و كنت مصمما على كتابة جيش الاحتلال او الاراضي المحتلة من قبل اسرائيل و لم أتراجع عن حرف او كلمة توافق هدف الاعتصام بفضح الوجه القبيح للاحتلال و العمل على التخفيف عن اهلنا .

البيان الصادر عن المنظمة الدولية للصليب الأحمر
البيان الصادر عن المنظمة الدولية للصليب الأحمر

رغم مرونة تيري جيرمو في الحديث الا انه كان يتصلب عند الكتابة … و مع مرور الوقت و ضيقه صدر البيان المرفق  بالصيغة التي أردناها و التي تحمل جيش الاحتلال المسئولية عن منع المنظمة الدولية للصليب الأحمر من تأدية عملها و أخذ البيان شكل بيان صحفي كما طلبنا و ان تكون هناك نسخة موجهة الى الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان حينها .

و حمل توقيعي عن المعتصمين و توقيع تيري جيرمو عن الصليب الأحمر الاوربي و توقيع مدير الصليب الأحمر البلجيكي .

و ايام عز لجاليتنا الفلسطينية في بلجيكا رغم قلة عددنا تلك الفترة الا انها بالوحدة و الانتماء لفلسطين و فلسطين فقط كنّا جالية فعالة و كنّا نسير على درب قيادة نحبها و نثق بها و بأدائها ..و اليوم التالي كانت الصفحات الاولى للصحف البلجيكية تحث بعناوين مثيرة (. مجموعة فلسطينية تقتحم و تحتل مبنى الصليب الأحمر ) و اخرى ( برلمانيين بلجيك يشاركون في اعتصام مع مجموعة فلسطينية ) و اخرى ( حرب الاعتصامات بدأت في بروكسل .. فلسطينيون يجبرون الصليب الأحمر على ادانة اسرائيل علنا ) ..

عاشت فلسطين

عاشت جالياتنا الفلسطينية موحدة دوما

رمضان ابو جزر ( ابو الأقصى )

بروكسل – بلجيكا

اقرأ للكاتب :

تفجيرات بروكسل و الرواية الحقيقية…أين ؟

بلجيكا و تبعات غزوة باريس الإرهابية

شكرا للتعليق على الموضوع