ياقوت ” قصة قصيرة “

بدأ القارب بالاهتزاز مع أول موجة داهمته فاهتزت معه كل قلوب الركاب صغارًا وكبارًا…. وبدأت الصلوات والآيات القرآنية والتسابيح تختلط ببكاء الأطفال… وارتفع الصراخ حتى بلغ حدته فاكتظ به القارب إلى أن ثقل أكثر وبدأ يترهل ويفقد طوعًا بعضًا من أجزائه…

جن جنون محمد وهو يحاول الصعود إلى الأعلى كي يجتمع بياقوت ويحاول النجاة معها لكنه لم يستطع على الرغم من محاولات عدة… وعلى الرغم من دفعه لبعض الناس.. الكل كان يشد حبل الحياة صوبه… وكأن لا أحد في تلك الساعة فهم لعبة الموت سوى القارب….

تدافع كل الموجودين إلى الأعلى… سب وضرب سكاكين ودماء وجثث بدأت تلقى في البحر… لم يخف محمد في حياته كلها مثل خوفه في ذلك اليوم..

انهار بالبكاء وهو يصرخ: ياقوت يا ياقوت ياقوت ياقوت…

ثم استسلم وجلس حاضنًا ركبتيه ينتظر المنية… وفي تلك اللحظات بدأت تلمع في رأسه كل ذكريات حياته… وصوت ياقوت يحفر في أعلى رأسه على الرغم من كل الضوضاء وأصوات الصلوات المندمجة بعضها ببعض مشكّلة رهبة الموت…

وفجأة سقطت قطعة خشب أمامه وكأن ملاكًا من السماء فتح له فتحة في سقف القارب.. فقد وقع رجل من الأعلى إلى الأسفل بعد تكسر خشب القارب العتيق تحت قدميه… قفز محمد من الفتحة مسرعًا إلى سطح القارب وهو يصرخ:

ياقوت وينك ياقوت ياقوت ياقوت

بين كل المهاجرين الهاربين لم يجد ياقوت… ثم لمحها وهي تحاول شد طفلة صغيرة من الماء والطفلة كانت متشبثة بيدها خوفًا من الغرق..

– تانت لا تتركيني… أنا بحبك لا تتركيني… تبكي الفتاة…

وقبل أن يصل محمد إلى ياقوت تسحب موجة عالية الفتاة الصغيرة فتفلت يد ياقوت التي تسقط إثر ارتجاج المركب في الماء وهي تصرخ:

دخيلك خلصني

قفز محمد في الماء وسبح باتجاهها ليخلصها…

كان يرتدي سترة نجاة مثله مثل كل الركاب… لكن السترة تساعد صاحبها فقط ساعتين في الماء هذا إذا كانت مصنوعة صناعة جيدة… أما إذا كان هناك ثقب في قطب السترة فيتسرب الماء مباشرة إلى داخلها ويغرق صاحبها بخمس دقائق…

لم تكن سترة ياقوت من الصناعة الجيدة…  بدأت بالغرق لكنها حاولت أن تقاوم الموت وتتشبث بمحمد…

صرخت ياقوت وهي ترتجف:

لا تتركني محمد بوس إيدك…

في تلك اللحظة أدرك محمد أنه سيغرق حتمًا إن لم تتركه حبيبته…. فدفعها عنه في حين كانت تحاول التمسك به إلى حد أنها حاولت أن تغرز أظافرها في يده، لكنه أراد أن ينجو بنفسه… غارت ياقوت في المياه وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة…. أما محمد فأخرج رأسه وهو يبكي، وفي رأسه تبرق اللحظة الأولى التي سلبت بها ياقوت قلبه وهي تشق قلب البحر…

هناك التقيا وهناك افترقا… وكأن الياقوت لا يستريح إلا في أعماق البحار.

مريم مشتاوي

تاليف : مريم مشتاوي

أديبة لبنانية مقيمة في لندن

شكرا للتعليق على الموضوع