مصطفى اللداوي يكتب : باب المغاربة معبر اليهود وبوابة المستوطنين

لا يكاد يمر يومٌ دون أن يقتحم الإسرائيليون، المستوطنون والمتعصبون والمتشددون والسياسيون، والوافدون والزائرون والمتضامنون، المسجد الأقصى من بوابة المغاربة، التي يحرسها جنودٌ إسرائيليون مدججون بالسلاح كأنهم في ثكنةٍ عسكريةٍ أو على أبواب معركةٍ، ويقف على طول الطريق فيها عناصرٌ شرطية من الرجال والنساء، يعترضون طريق كل عربي، ويوقفون كل فلسطيني، يدققون في هوياتهم، ويعيقون دخول المصلين والحراس، ويمنعون بعضهم ويسمحون لقلةٍ منهم بالدخول، ويعتقلون آخرين ويتعرضون بالضرب على أكثرهم.

لا يفرق الإسرائيليون في سوء معاملتهم بين الرجال والنساء، وبين المسنين والشباب والأطفال، فحقدهم على الجميع سواء، وكرههم للكل واحدٌ، وقراراتهم ضدهم تطبق بلا استثناء، فلا سماح للفلسطينيين بالدخول إلى الحرم، لا في يوم الجمعة والمناسبات، ولا في الأيام العادية والأعياد ووقت الصلوات، وإن كان لا بد سيدخلون فمن غير هذه البوابة، التي يرونها لأنفسهم، وخاصةً بهم دون غيرهم.

يقوم الجنود ذاتهم الذين يسومون الفلسطينيين سوء العذاب ويهينونهم، ويضيقون عليهم ويمنعونهم، بحماية الزوار اليهود، وضمان أمن مقتحمي حرمة المسجد الأقصى من المستوطنين والغاصبين، فيتولونهم بالرعاية، ويمدون إليهم أيدي المساعدة، وينقلون بالعربات الصغيرة المسنين منهم والعجزة من زوارهم، وويلٌ لمن يعترض طريقهم، أو يقف في وجههم، أو يبدي استنكاره لدخولهم، أو اعتراضه على رغباتهم، أو غيرته على الحرم المقدسي من عري نسائهم، وفجور رجالهم، ووقاحة زوارهم، وقلة أدب صبيانهم، وسخافة عقول كبارهم، وفوضى دخولهم، وانتهاك خصوصية المسلمين خلال ممارسة طقوسهم، والصلاة الآمنة المطمئنة في وقتها في مسجدهم.

كأن اليهود عموماً والإسرائيليين على وجه الخصوص يكرهون باب المغاربة ويحقدون عليه، ويشعرون تجاهه بالكثير من الحنق والغضب، والغيرة والنقمة والحسد، وقد جعلوه همهم الأكبر وشغلهم الشاغل في القدس، لا يغيبون عنه ولا يتأخرون عن الاجتماع فيه والتنادي إليه كلما أحسوا بالرغبة في اقتحام الحرم والدخول إلى باحات المسجد، وكأن لهم معه ثأرٌ قديمٌ وحسابٌ دفينٌ يجب أن يسوى، فهم لا يرونه فلسطينياً، ولا يعترفون به عربياً، ويمقتونه مغربياً، وقد عمدوا إلى تغيير معالمه، وتبديل أساساته، وتزوير تاريخه، إذ ما دخلُ المسلمين العرب المغاربة بالقدس والأقصى، ليكون لهم فيها بابٌ باسمهم، وبوابةٌ تخلد وجودهم، وتبقي على تاريخهم، وتحمل إلى الأجيال القادمة حتى قيام الساعة دورهم ومساهماتهم، وكأن لهم الحق في هذا المكان، وعليهم حمايته والدفاع عنه، وصونه بالقوة وصيانته بالمال والرجال.

باب المغاربة الأقرب إلى حائط البراق هو جزء من حارة المغاربة، وقد أطلق عليه هذا الاسم تيمناً بجماعةٍ من أهل المغرب العربي، وفدوا قديماً إلى فلسطين وأقاموا في القدس، وكانت لهم فيها أحباسٌ وأوقافٌ ما زالت تحمل اسمهم إلى اليوم، وهم من بقايا جنود صلاح الدين الأيوبي، الذين شاركوه في استنقاذ القدس وتطهيرها، فاستبقاهم على أبواب المسجد الأقصى لحمايته من الصليبيين، وقد وصفهم عندما كلفهم بهذه المهمة “أنني أسكنت هذه الأرض الذين يثبتون في البر ويبطشون في البحر”، وقد استأمنهم على أملاك المسلمين وأرواحهم وأرضهم، وظن أنهم سيكونون عليها أمناء، وأن أحداً لن يقوَ في وجودهم على استباحة المدينة ومسجدها.

لكن العدو الإسرائيلي الذي احتل الجزء الشرقي من مدينة القدس في حرب يونيو عام 1967، صادر مفاتيح البوابة، وقام بتسوية المكان وجعله مدخلاً إلى ساحة البراق التي يطلقون عليها اسم “الحائط المبكى”، فكانت مدخلاً للمصلين اليهود وزوار الحائط، الأمر الذي قلل من عدد الفلسطينيين الذين يمرون من هذا الباب إلى باحات المسجد الأقصى، وهو على الرغم من اتساعه نسبياً، حيث تم تهيأته في ظل الإدارة الأردنية لدخول العربات فيه، ومع ذلك فإن أقل من 7% من المصلين الفلسطينيين يدخلون منه، نظراً إلى الإجراءات القاسية والمعاملة المهينة، وعمليات التدقيق والتفتيش التي يتعرضون لها من قبل جنود جيش الاحتلال وعناصر الشرطة، الذين يضيقون على الفلسطينيين ويتعمدون عدم مرورهم من هذا الباب، ليبقى حصراً لليهود دون غيرهم.

ولهذا أقدمت سلطات الاحتلال على هدم الطريق المؤدي من باب المغاربة إلى الحرم القدسي، لتضيق على الفلسطينيين أكثر، وتقلل أعدادهم السالكة لهذا الباب، وبالغوا في استهداف باب وحارة المغاربة، الذي لم يقتصر استخدامه على المصلين والزوار اليهود، وإنما أصبح منطلقاً لهجوم واقتحام قوات الجيش وعناصر الشرطة الإسرائيلية، الذين اعتادوا على مداهمة المسجد انطلاقاً من هذه البوابة الواسعة، التي أتاحت لهم الفرصة لتأسيس وبناء مراكز تجمعٍ خاصة بهم، ونقاط تفتيشٍ ومراقبة أمنيةٍ.

وانطلاقاً من ساحات باب المغارب التي سواها الاحتلال بالأرض، قام بعمل حفرياتٍ كبيرة وكثيرة تحت الأرض، بحجة البحث عن بقايا الهيكل المزعوم والمعبد الموعود، وقد أصبح لهم في الأنفاق العديدة التي اخترقت أرض الحرم أكثر من كنيسٍ يهودي ومعلمٍ دينيٍ، وطرقاً ومسالك معبدة ومضاءة، وغدت الحفريات مرافق عامة ودائمة، تنظم لها الزيارات، وتكتب عنها الدراسات، وتسجل على جوانبها تعليماتٌ وإرشاداتٌ وبياناتٌ ومعلوماتٌ، يدونون فيها تاريخهم، ويكتبون عليها ما يشاؤون من رواياتهم.

يتطلع المستوطنون اليهود من خلال باب المغاربة الذي أصبح تحت سيطرتهم الأمنية والدينية، خاصةً بعد اقتطاع ساحة البراق، وحدوث انهيارات ترابية عديدة على جوانبه، ومنع الأوقاف الإسلامية من ترميمها، إلى بناء كنيسٍ يهودي داخل صحن المسجد الأقصى المبارك، وقد وضعت خرائط كثيرة وتصورات عديدة لهذا الكنيس، وكلها تنطلق من باب المغاربة، كونه المكان الأكثر حريةً لهم للخروج والدخول وإدخال المعدات وإخراج الأتربة والصخور، لكنهم لم يحسموا خياراتهم بعد لجهة المكان، وإن كان قرار التشييد وصورة الكنيس وخارطة البناء قد حددت ورسمت.

سيبقى مغاربة اليوم أوفياء لأجدادهم مغاربة الأمس، الذين شدوا الرحال إلى القدس من بعيدٍ، وجاؤوا إليها على عجلٍ وبكل حبٍ وشوقٍ وشغفٍ، ليكون لهم سهم في حمايتها، ودورٌ في الدفاع عنها، وشرفٌ بالإقامة فيها والانتساب إليها، فكانت بوابتهم الشهيرة، “باب المغاربة”، باباً للمسلمين جميعاً دون غيرهم، وسيبقى إلى يوم القيامة باباً مغاربياً عربياً إسلامياً يفضي إلى باحات المسجد الأقصى، ويؤدي إلى صحن المسجد ومنبره ومحرابه، وسيحفظ المغاربة الأحفاد عهد الأجداد، وسيوفون بوعدهم، وسيكونون لهم خير خلفٍ لخير سلفٍ.

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

اقرأ للكاتب :

قمة العرب على بوابات القدس

 

شكرا للتعليق على الموضوع