كيف نتجنب تدمير العالم الرائع الذي نعيش فيه؟
أينما تعيش يوجد بالتأكيد على مقربة منك مكان تعتز به، سواء كان منطقة ريفية أو شريط ساحلي ينفرد بجماله وروعته، وربما يستقطب هذا المكان زوارا من جميع أنحاء العالم. ولعل هذا المكان تعيش فيه النباتات والحيوانات التي قلما تجدها في أي مكان أخر على وجه الأرض، لأنها وجدت البقعة التي تناسبها تماما.
وربما تتذكر أنك كنت ترتاد أماكن من هذا النوع وتستكشف معالمها حين كنت صغيرا، ولعلها خلفت في نفسك أثرا لم يمحه الزمن قط.
ويشاركك هذا الشعور الشاعر البريطاني الشهير وليم ويردزويرث، حين وصف في إحدى قصائده التي عكف على كتابتها منذ عام 1798 حتى مماته سنه 1850، كيف شكّل اقترابه من الطبيعة حياته بأكملها.
إذ قال ويردزويرث: “شغفت بحب الطبيعة، وفي صخب المدينة الشاسعة، التي تموج بالناس والأشياء، وأدركت كم أنا مدين لكي أيتها الطبيعة وللمناطق التي يسودها السكون الريفي”.
ربما كل منا انتابه هذا الشعور في لحظة ما. وفي هذه القصيدة الطويلة التي تسمى “المقدمة”، أشاد ويردزويرث بفضل الطبيعة لما خلفته عليه من أثر. كما استشعر الكثير من العظماء قيمة الطبيعة وفضلها، بدءا من أفلاطون ووصولا إلى بيتهوفن.
وبينما كان يكتب ويردزويررث رائعته “المقدمة”، كان أحد الشغوفين بالطبيعة يشق طريقا عبر الغابات المطيرة فيما يسمى الآن فنزويلا، وهو ألكسندر فون هومبولت، عالم طبيعة ومستكسف من بروسيا. وفي عام 1800 انزعج بشدة من المشهد الذي رآه في وادي أراغوا بفنزويلا.
إذ وجد أن التلال، التي كانت قبل عدة عقود حدائق غنّاء، كما يصفها سكانها، جردت من الأشجار، ودمرت الغابة. وكنيتجة لذلك، كلما هطلت الأمطار بغزارة، جرفت المياه تربة التلال. وفاضت مياه الأنهار، وأتلف تدفق المياه المزيد من الأراضي.
وفي سردها الرائع لسيرة هومبولت في كتاب “اختراع الطبيعة”، تقول أندريا وولف، المؤرخة البريطانية، إن هومبولت أدرك منذ هذه اللحظة أن الناس ليس لديهم القدرة على الاستمتاع بالطبيعة فحسب، بل يمكنهم إيذاءها أيضا.
وتكتب وولف: “حذر هومبولت من أن تصرفات البشر في شتى بقاع الأرض قد تؤثر على الأجيال القادمة”.
وتحكي وولف كيف صادف هومبولت بعض النُساك الأسبان في غابة أورينوكو المطيرة بعد بضعة أسابيع وكانوا يضيئون أكواخهم بإشعال الزيت المستخلص من بيض السحالف المائية، وللأسف، تضاءلت أعداد السحالف المائية على إثر ذلك.
وفي غمرة ازدهار الحركة الرومانسية، طور البشر طرقا جديدة للتعبير عن إعجابهم بالطبيعة، وفي الوقت نفسه استشعروا مسؤوليتهم في الحفاظ عليها. ولم يخف ذلك بالطبع على ويردزويرث وهومبولت. ولكن يبدو أن الكثيرين الآن قد غفلوا عن هذه المسئولية.
في عام 2014، أحدثت موجة من الفيضانات أضرارا بالغة في عدد من المدن في المملكة المتحدة، وأوضحت نتائج استطلاعات الرأي أن نظرة الناس للطبيعة في أعقاب الفيضانات تحسنت بشكل غير مسبوق. وكتب جيفري لين في صحيفة “التليغراف”: “ساهمت الفيضانات في إحداث تغيير على المستوى السياسي والشعبي”.
ولكن هذه الحماسة ما لبثت أن فترت كما اتضح في استطلاعات الرأي اللاحقة. إذ أن هذه الموجة من الاهتمام بالطبيعة ذهبت هباء.
ومع الأسف، الكثير منا ينزع إلى الإهدار. ففي القرن التاسع عشر، زاد حجم النفايات في العالم بواقع عشرة أضعاف، ومن المتوقع أن يتضاعف مرة أخرى عام 2025. ورغم أن النمو السكاني قد يفسر جزءا من هذه الزيادة في حجم الفضلات، إلا أنه ليس المسبب الوحيد لها.
فالفضلات التي نتنجها تفوق كل الملوثات الأخرى. وما يدعو إلى الأسف، أن المحيطات أصبحت تعج بكميات هائلة من الفضلات البلاستيكية التي تهدد الحياة البحرية، لأنها تحجب ضوء الشمس الذي تتغذى عليه العوالق والطحالب.
تشهد درجات الحرارة على كوكب الأرض تغيرا أيضا.
إذ أن درجة حرارة سطح الكرة الأرضية آخذة في الارتفاع، وهذا ما أكدته القياسات المأخوذة حول العالم مقارنة بتلك المسجلة منذ عدة عقود مضت.
ويعزى ارتفاع درجة حرارة الأرض لأسباب عديدة من أهمها وجود غازات في الغلاف الجوي مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان، اللذين تطلقهما المصانع في الجو بكميات كبيرة كنفايات غازية. وتمتص هذه الغازات ضوء الشمس وتحوله إلى حرارة، لتحول دون ارتداد هذه الطاقة المستمدة من الشمس إلى الفضاء الخارجي.
وقد اكتُشف هذا الأثر في بداية القرن التاسع عشر، ومن المعروف أن الصواريخ الباحثة عن مصادر الحرارة تأخذه في الحسبان عند احتساب مساراتها، لأن هذه الغازات تتداخل مع الإشعاعات التي تبحث عنها الصواريخ.
ويعد غاز آخر، أقل شهرة، من بين الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وهو غاز سداسي فلوريد الكبريت. وعلى الرغم من أن تأثير هذا الغاز على الطقس أقل من تأثير ثاني أكسيد الكربون، لأنه ببساطة يوجد بكميات أقل في الجو، فإنه في الحقيقة أقوى مفعولا من ثاني أكسيد الكربون بمراحل.
ومنذ بضع سنوات، قررت وزارة الطاقة بالولايات المتحدة الأمريكية إيقاف تسرب غاز سداسي فلوريد الكبريت من منشآتها، وفي عام 2013، أشارت التقارير إلى أنها نجحت في تخفيض كميات غاز سداسي فلوريد الكبريت المتسربة بنحو النصف، أي 35 ألف طن سنويا، لأنها ببساطة أصبحت أكثر حرصا.
فإذا لم نحرص على الأشياء التي نعتز بها، فقد نؤذيها من دون أن نشعر.
وربما يسهم أي تغيير طفيف في معدل درجات الحرارة السنوية، ولو درجة واحدة أو درجتين مئويتين، في الحفاظ على بقاء الأنواع النادرة. وتعد الفراشات الملكية التي تعيش في أمريكا الشمالية، والتي اشتهرت بهجرتها الجماعية، من الأنواع التي تأثرت بارتفاع درجات الحرارة.
ومن دون أن نقصد، قد تصبح تبعات أخطاءنا أكبر مما نتوقع. فكلما ارتفعت درجة حرارة الأرض، على سبيل المثال، كلما ذاب الجليد البحري على المحيط المتجمد الشمالي، ومن ثم، ستتقلص طبقة الجليد البحري التي كانت تعكس أشعة الشمس إلى الفضاء الخارجي، وهذا يعني أن درجة الحرارة ستزداد ارتفاعا وسيذوب المزيد من الجليد البحري.
كما نشهد ارتفاعا في مستويات مياه البحار، وهذا يمثل تهديدا للمناطق الساحلية التي تقترب من منسوب سطح البحر، مثل ولاية ميامي وولاية فلوريدا. ويعزى ذلك أيضا إلى الإهمال في مراقبة مستويات غاز ثاني أكسيد الكربون التي نطلقها في الجو، لأن هذه الحرارة تسهم في تمدد مياه البحار، وقد زاد منسوب المياه في المحيطات على مدار القرن الماضي.
وفي عام 2016، نبه رون كيز، الفريق الأول المتقاعد بالقوات الجوية الأمريكية، إلى أن ارتفاع منسوب مياه البحر سيكون له عواقب وخيمة على الأمن القومي.
وقال كيز في المنتدى الذي تعقده مؤسسة “كومون غود” سنويا: “لدينا 19 قاعدة عسكرية نعتبرها درة التاج في قدرتنا العسكرية، وهذه القواعد ستتأثر بارتفاع منسوب سطح البحر”.
ويرى كيز أنه كلما زادت احتمالات تعرض المجتمعات حول العالم للفيضانات، زاد تكليف الجيوش بإنقاذهم، وبالتالي سيقل تواجد القوات العسكرية على الجبهات للتصدي لأي هجوم.
وهذه التغيرات البيئية قد تكشف عن أسوأ جوانب الطبيعة البشرية.
وفي أسيا الوسطى، أدى ارتفاع درجات الحرارة إلى ذوبان الأنهار الجليدية في جبال قرغيزستان وأوزبكستان، وغيرها من الدول. وتعتمد المزارع في الوديان المجاورة على المياه التي تُجمع من ذوبان هذه الأنهار الجليدية، ولكن المياه المتوفرة تتضاءل تدريجيا. والأن يتنازع المزارعون بضراوة على ما تبقى من مياه.
ولا نعرف بعد ما ستؤول إليه الأوضاع من هذا النوع، ولكن ما نعرفة أنها تهدد الأمن والاستقرار في العالم. وفي عام 2016، أصدر خبراء الأمن القومي الأمريكي تقريرا ذكروا فيه أن الأحداث التي يشهدها العالم الآن بسبب التغير المناخي تمثل “تهديدا بالغا للأمن القومي الأمريكي”.
ورأى الكثير من الزعماء البارزين أن حماية البيئة واجب أخلاقي يقع على عاتق البشر.
وفي خطابها الحماسي الذي ألقته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1989، قالت وزيرة الخارجية البريطانية مارغريت تاتشر: “يتسبب البشر وما يمارسونه من أنشطة في تغيير بيئة كوكبنا بأساليب خطيرة ومضرة”. وذكرت تاتشر الضرر الناتج عن الملوثات، وتدمير الغابات، والاحتباس الحراري الذي تسببه الغازات في الغلاف الجوي. وأضافت: “سيدي الرئيس، الدليل موجود، والضرر يحدث أمام أعيننا”.
وقد ذكر المستشارون السياسيون للرئيس رونالد ريغان حقائق مشابهة. إذ قال جيمس سي غرين، المستشار العلمي للجنة العلوم والتكنولوجيا بالكونغرس الأمريكي: “إن الستار الذي يغطي الكرة الأرضية من القطب إلى القطب، فوق قاراتها ومحيطاتها، يدق ناقوس الخطر. وهذا الستار هو صنيع البشر، إلى حد كبير، ويطلق عليه، التلوث الناتج عن غاز ثاني أكسيد الكربون”.
وقد ذكر مؤخرا أرنولد شوارزنيغر، حاكم ولاية كاليفورنيا السابق، والمنتمي إلى الحزب الجمهوري، أننا إذا استثمرنا الأموال في الطاقة المتجددة ووسائل النقل غير الملوثة للبيئة، مثل السيارات الكهربائية المصنوعة في الولايات المتحدة الأمريكية، سنكون على قدر المسؤولية وسيجني الجميع الثمار.
وبالنظر إلى الجانب المشرق، فإن هناك طرقا كثيرة يمكننا من خلالها إنقاذ الطبيعة وبهذا سنحسن حياتنا أيضا.
ويطور الأن أبرز رواد الأعمال والجامعات وسائل تكنولوجية للاستفادة من موارد الطاقة النظيفة. فإذا أنفقنا المال على تطوير هذه الوسائل التكنولوجية النظيفة بدلا من تلك الملوثة للبيئة والمهدرة للموارد، سنحدث تغييرا كبيرا. فإن حرق كميات أقل من الفحم، لا يقلل من الاحتباس الحراري على المدى البعيد فحسب، بل يحد أيضا من تلوث الهواء السام والضباب الدخاني.
وربما نوفر أيضا الكثير من الأموال إذا رشدنا استخدام الطاقة. وذكر أحد العلماء الأمريكيين في مقالة نشرت بمجلة “ذا ساينتيفيك أمريكان”: “إن الأموال التي ينفقها المواطنون الأمريكيون لتوصيل الكهرباء للأجهزة المغلقة تفوق ما ينفقونه عليها وهي في وضع التشغيل. إذ تستهلك أجهزة التلفاز وأجهزة تجسيم الصوت (الاستريو)، وأجهزة الكمبيوتر وشواحن البطاريات وغير ذلك من الاجهزة الالكترونية والكهربائية، كميات أكبر من الطاقة، وهي في وضع الإغلاق، ولهذا من الأفضل أن تفصل التيار الكهربائي عن الأجهزة”.
وإذا استعدنا الغابات، ربما نحد من كميات ثاني أكسيد الكربون في الجو، والأهم من ذلك، أننا سنحافظ على الأراضي والحياة البرية من الأضرار التي لاحظها ألكسندر فون هومبولت منذ 200 عام.
وبالطبع سنحتاج لتدخل الحكومات لحماية الأماكن التي تربطنا بها ذكريات الطفولة.
فإن الحكومات والمنظمات الكبرى لديها القدرة على مساعدتنا من خلال إدخال الطاقة النظيفة إلى منازلنا، وعقد صفقات للحد من انبعاثات النفايات الغازية مثل ثاني أكسيد الكربون.
وهناك العديد من الطرق التي تستطيع بها الحكومات أن تحقق ذلك، من بينها فرض ضريبة على انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، والتي لاقت تأييدا لدى بعض الجمهوريين ورؤساء الأعمال في الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد تحل هذه الضريبة محل ضرائب موجودة بالفعل، مثل ضريبة الدخل، بدلا من فرض ضريبة إضافية. ووفقا للمقترح الأمريكي، ستعاد إيرادات الضريبة كلها إلى الشعب بدلا من الحكومة.
وطبقت أيرلندا ضريبة الكربون، لتجعل بموجبها حرق الوقود الملوث للبيئة أعلى كلفة من حرق الوقود النظيف.
ويقول فرانك كونفيري، خبير اقتصادي بجامعة دبلن: “من خلال تطبيق ضريبة الكربون، استطعنا أن نتفادى زيادة ضريبة الدخل، التي كانت ستخفض من الدخل المتاح وتزيد من تكاليف العمالة وتقضي على الكثير من الوظائف”.
ولم ترتفع مستويات انبعاثات الغازات الضارة في أيرلندا منذ ذلك الحين.
وقد دعى كثيرون إلى أن يأخذ الناس على عاتقهم مسؤولية حماية العالم. ولكن ربما قل اهتمام الناس الآن بحماية الطبيعه بسبب العزلة التي فرضتها علينا مواقع التواصل الاجتماعي التي تحجب عنا أصوات الآخرين.
وربما حان الوقت لنطيل النظر إلى المناطق الريفية والحياة البرية، التي لا تبعد عنا كثيرا في الغالب، ونغير أساليب حياتنا لنحافظ عليها من الزوال.
ورغم أننا منذ وقت طويل لم نقرأ قصائد في روعة قصائد ويردزويرث، فإن كلماته لا تزال باقية لتذكرنا بأن حماية الطبيعة واجب أخلاقي لا ريب. فلو لم ننظف مخلفاتنا، من سينظفها؟
بي بي سي