صانع الراقصات “قصة قصيرة”

تعجَّب حارس السجن في المرَّة الأولى، من الهدية التي تلقيتها من زائرتي . دَخَلَت إلى حمام الزوار، وخرجت وهي تحمل الكولوت في يدها. عرضته للتفتيش طبعاً، قبل أن تسلِّمني إياه. شكرتها على تلبيتها طلبي، فيما تحلَّق الحراس من بعيد يتهامسون ويتضاحكون . ظنوا أن هذه إحدى نزواتي النسائية كمُخرِج شغل الناس والمجلات لعقود طويلة.

ثم جاءت زائرة أخرى، وسلمتني كولوتاً آخر. وبعدها توالت الزيارات، وباتت ظاهرة الكولوت عادية بالنسبة إلى السجَّانين. حاولوا مراراً فهم ما يجري. سألوني مباشرة عن الموضوع، فكان جوابي بالنسبة إليهم أشبه باللغز : ” هذه هي مفاتيح التحية التي سأتركها للعالم “.

أجروء وأقول أنني كنت أول من أظهر الكولوت على الشاشات العربية. كالعادة، اشتعلت الصحف والمجلات بالانتقادات، واتهموني بإفساد الأجيال، وتشويه رسالة الإعلام، وتحويل البرامج التلفزيونية إلى سهرات خلاعية. وسرعان ما انطفأت الانتقادات، ودخل النقاد في لعبة اختيار أفضل راقصة، وحقق البرنامج نجاحاً غير مسبوق.

كانت الكاميرا تلاحق مؤخرات الراقصات، وتدخل تحت الفساتين، وتحرِّض صرخات المشاهدين المسمَّرين خلف الشاشات في بيوتهم. يسترق الأزواج النظر إلى أجساد زوجاتهم الممتلئة ويتحسَّرون، والمراهقات يسترسلن خلف أحلام زهرية يرين فيها صورهن العارية على الطرقات، وأسماءهن تسطع في عيون العابرين.

وتدور في رؤوس الأمهات أفكار ملحَّة : ” لماذا لا تشارك ابنتي في هذه المنافسة ؟ رقصها يكاد يخلع القلوب، والبرنامج قادر على ايصالها إلى ما تريد في أسابيع قليلة. وبعدها لن ينضب المال من بيتنا مدى الحياة”.

كان الجميع يمتدحونني.

الراقصة التي تقف أمام لجنة الحكم، تشيد بعبقريتي كمخرج، وبأبوتي، واهتمامي بها كإنسانة.

الإعلام يتحدث عن المخرج الذي عرف كيف يجمِّل الأمسيات، ويطلق الفن على مصراعيه، ويجعل العالم كله مشدوداً إلى بلدنا الصغير.

المحطة التي أعمل لديها، والتي تحوَّلتُ إلى شريك أساسي فيها. جعلتها الأكثر مشاهدة بين جميع المحطات على امتداد الساحة العربية.

والمشاهدون الذي أعطيتهم الفرصة لإطلاق مكنوناتهم الجنسية بفن ورقي.

أعطيت الشهرة للكثيرات. شهرة سريعة لم يجرؤن في السابق حتى على الحلم بها. وبات ما يعرض عليَّ أكثر بكثير من طاقة البرنامج على الاستيعاب، حتى مع تجديده سنوياً.

تتهافت الأمهات، والآباء أحياناً، إلى مكتبي برفقة بناتهن. يدعونني إلى النظر إليهن كمحترف، والكشف عن أجسادهن المتفجِّرة، وكثيراً ما يتركونني في خلوة معهن، لأكتشف بنفسي طاقاتهن. وكانت الفتاة تعرض كلَّ طاقاتها، حتى قبل أن أتحرك من مكاني. وتبدو عليها السعادة حين تنال رضاي. والحقَّ أن الأمر بات بالنسبة إليَّ من ملذات العمل، وشبقه، وفرادته. كانت لديَّ موهبة بارزة في اكتشاف الراقصات، لا بل في صنعهن. عليها أن تعرف كيف ترقص في خيالي قبل أن تهزَّ جسدها. بصوتها، ونظراتها، وحركات أصابع يديها، ومشيتها، وطريقة جلوسها، وكل نفس من أنفاسها.

انتشر هوس الراقصات في كل صدر من صدور الفتيات، وبين جميع شرائح المجتمع. ليس صحيحاً أنني كنت استهدف الفتيات الفقيرات بإغراء الشهرة والمال. لا بل كنت أستبعد الفقيرات بشكل مقصود، من دون أن ألفت انتباه أحد. لا أحبها أن تبيع جسدها من أجل حياة افضل. كان عليها أن تحبَّ الرقص، والمتعة، وتتقن الإغراء. عليها أن تطلق ما في داخلها من خلال حركات جسدها، وتظهر عهرها الخفي، وليس ذلك النوع من العهر الرخيص الذي تفرضه الحاجة. هذا ما يميز الراقصة التي تخطف الأنفاس، وتدفع الحرارة في عروق الأجساد الميتة. وهؤلاء هنَّ من صنعت شهرتهن، فبادلنني الفضل، وبطلب مني، بإهدائي الكولوت الذي يرتدينه بعد دخولي إلى السجن.

لقد منحت الفرح للكثيرين، لمجتمع بأكمله كان قد فقد وجهته إلى شواطىء الفرح. حوَّلت العبوس الليلي إلى سهرات تستجلب الخمرة وسكون القلق، وتشعل اللذَّة بين أزواج نسين رائحة الشهوة.

فلماذ نصبوا لي الفخ ؟

في الحقيقة، حتى رجال الدين كانوا سعيدين ببرنامجي. اعتبروا أنه يساعد على الوفاء الزوجي، فهو يسمِّر الأزواج في بيوتهم، بدل تسكعهم خلف علاقات خارجية.

ربما ليس فخاً، لكنه فاجأ أكثر توقعاتي دناءة.

كيف دخلت السجن؟

بتهمة الإغتصاب ! تخيَّلوا ! وكأنني بحاجة لأغتصب لأشبع نزواتي وشهواتي.

ومن اتهمني ؟ والد رفضت انتساب ابنته إلى البرنامج، وكانت لي دوافعي ومبرراتي بالتأكيد.

خرج من مكتبي ليتركني معها وحيداً. نظرت إليها جيداً، فشعرت أنها رخيصة، ومستعدة لكسر القلوب وأي مبدأ بسيط للتعامل الانساني من أجل الشهرة. هذا ليس ما أسعى إليه في برنامجي. لم أكن حقيقة أستغل الفتيات الطامحات والمستحقات. كن يعرضن عليَّ ما لديهن وكنت أقبل. بهذه البساطة. لم أطلب يوماً. جميعهن عرضن عليَّ المتعة، فاستمتعت، وكنا راضيات وفرِحات. ألست اليد التي ستأخذ بأحلامهن بعيداً؟ والباب الذي تنحني فيه الشهرة أمامهن؟ والإصبع الذي يفجِّر طاقاتهن الجنسية تحت غلالة الرقص؟

بلى. كنت كل ذلك وأكثر، لكنني لم أطلب يوماً. أسعدت الجميع وأسعدني الجميع، إلى أن دخلت هذه العاهرة مكتبي. استلقت في حضني فجأة، تسريعاً لآلية العمل، فدفعتها بعيداً وطلبت منها الجلوس، ومن ثم الرحيل لأنها لا تلائم البرنامج. لم أشرح لها الأسباب بل أبعدتها بأسرع ما يمكن. أريد لبرنامجي أن يظل نخبوياً في إطلاق الشبق. وهذه، يمكن أن تقوده إلى الحضيض.

في الليلة نفسها، زارني رجل الشرطة في منزلي وطلب مني مرافقته، فأذعنت.

ظننت الأمر مزحة سمجة حين واجهني المحقِّق بتهمة الاغتصاب، وبتقرير الطبيب الشرعي.

” أي طبيب شرعي سألته ؟ هذه الفتاة عاهرة”.

لكن الإجراءات قادتني إلى المحكمة، ومنها صدرت إدانتي .

من سيسعد الناس من بعدي؟ أهكذا يرد لي القاضي الجميل، وأنا أحلف بشرفي أنه لو انفجرت الدنيا لما دفعه ذلك إلى ترك الكنبة التي يشاهد منها الراقصات في برنامجي؟

انقلب الرأي العام ضدي، وكذلك الصحف، ومواقع التواصل الاجتماعي، فبتُّ نعجة سوداء في مجتمع شريف طاهر.

وجرحني هذا النكران والإجحاف.

” فليذهبوا إلى الجحيم “، قلت في نفسي وأنا على أبواب السجن .” فليعودوا إلى رتابتهم، وخياناتهم، وبرودتهم الجنسية. فليمت الفن معهم، وصناعة النجوم والفرح. يحاولون إسقاطي ليمسحوا خطاياهم بإذلالي. سيظلٌّ العهر في داخلهم مهما تبدَّلت وجوههم، ونبرات أصواتهم. سيدركون قريباً أنهم شعب ساقط ينتشي بأجساد الراقصات، ويدَّعي العفة”…

وفي صباح اليوم التالي، وُجد المخرج مشنوقاً في زنزانته.

صنع حبلاً متيناً من كولوتات الراقصات، وأنهى حياته  به.

كنَّ الوحيدات اللواتي زرنه في السجن وبكين عليه طويلاً.

الكاتب والاديب سمير فرحات
الكاتب والاديب سمير فرحات

اقرأ للكاتب : 

أعطني وهماً آخر “قصة قصيرة”

شكرا للتعليق على الموضوع