ريم ياسر تكتب: من ليلة سقوط بغداد إلى ليلة سقوط لبنان “نزيف من الدم والألم واحد”

لم تترك الحروب بابًا إلا وطرقته ولم تدع عالمًا إلا وابقت أثارها عليه، وما كادت تنقشع عن بقعة حتى تشتعل في أخرى، كما لو كان الصراع والقتل والتدمير قدر البشرية المحتوم، وفي يومًا حسبناه موعدًا مع الحياة، اتضحت الحقيقة جلية بلا رتوش، وطُبع واقعها الممزوج بظلالنا ودمائنا على كل شيء، فحضرت المدن في أبهى صور دمارها، وقُتل الإنسان والوطن، لم أكن أعرف من تسبب في ذلك، لكنني رأيت من يدفع الثمن، وحينها أدركت أننا في موعد مع الفناء.

 بهذه الكلمات أتذكر شعوري كطفلة صغيرة لم تبلغ من العمر سوى ثمان سنوات حين كنت أجلس أمام التلفاز، وفجأة وجدت من حولي يركدون بحثًا عن القنوات الإخبارية، والتي كانت تذيع لقطات حية لدخول القوات الأمريكية إلى العراق، لم أنسى أبدًا مشاهد العنف التي رأيتها في ذلك اليوم، جحافل من الجنود والمركبات والمدرعات تتقدم في شوارع يسودها الفوضى ويملأها الهرج والمرج، أناس يصرخون ويحاولون الهرب من مصير مجهول، وأصوات لطلقات نارية، البعض لم يسعفه الوقت وسقط قتيلًا على الفور، بينما مكبرات الصوت تناشد المواطنين بعبارات لم أكن أفهما، في مشهد لا يتسم بشيء سوى بالرعب والوحشية، في تلك الليلة أدركت سقوط بغداد، العاصمة العراقية، وعلى الرغم من أنه كانت لدى بعض المعلومات البسيطة لما يحدث في فلسطين من احتلال غادر غاشم، إلا أن سقوط بغداد كان وقعه مختلفًا على نفسي.

تدفقت تلك المشاهد على عقلي مرة واحدة بعد واحد وعشرون عامًا دون سابق إنذار في ليلة لا تختلف كثيرًا عما سقطت فيها بغداد، ففي هذه اللحظات من ليلة الأول من أكتوبر 2024، تسقط لبنان الحبيبة أسيرة تحت سطوة الاحتلال الإسرائيلي، الذي يحاول ماكرًا إيهامنا كمجتمع عربي ودولي بأن تلك مجرد عملية محدودة وليست احتلال بصفة دائمة، ولكن هل رأيتم مُحتل ينعت نفسه بصفته؟ هل رأيتم محتل يقولها جليةً “أنا قادم لاحتلال أرضكم؟”، لم يحدث ذلك أبدًا، ولم يفعلها أي معتدي على مدار التاريخ منذ قديم الأزل، دومًا ما توجد حِجة ظاهرية واهية لتبرير الأمر، مثلما كانت تفعل القوى الاستعمارية قديمًا عندما تقرر احتلال دولة ما، حينها تدعي أنها قادمة لتأمين طرق تجارتها، أو ربما لحماية مواطنيها الماكثين على أرض تلك الدولة أو حتى بهدف حماية مصالح البلد المنوط بالاحتلال من خطر آخر خفي لا يراه سوى القوى الاستعمارية، دائمًا يوجد عذر.

 تنهال الأسئلة على رأسي في هذه الليلة، لكن سؤالا واحدًا فقط يظل متبلورًا أمام عيني، ألا وهو: من المستفيد من السابع من أكتوبر؟ وهل كان السابع من أكتوبر سايكس بيكو جديدة لتقسيم الشرق الأوسط من جديد؟ لذلك قررت النهوض من موقعي والبدء في كتابة هذا المقال لربما نتوصل إلى إجابة معًا.

جميعنا يعرف مأساة سايكس بيكو الأولى عام 1916، عندما شرعت فرنسا وإنجلترا في تقسيم الوطن العربي وكأنه كعكة عيد ميلاد، فحصلت فرنسا على الجزء الأكبر من بلاد الشام وجزء كبير من الأناضول ومنطقة الموصل في العراق، بينما امتدت أذرع انجلترا للسيطرة  على طرف بلاد الشام الجنوبي مع ضم بغداد والبصرة وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية، تلك الاتفاقية المأساوية التي كانت حافزًا بعد عام واحد فقط لإنشاء وطن قومي لليهود، حيث أنه بإتباع نفس الطريقة خلال الحرب العالمية الأولى، قرر بلفور بمنح ما لا يملك إلى من لا يستحق، وذلك حينما قرر بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين التي كانت تقع تحت سطوة الدولة العثمانية آنذاك.

 والحقيقة أنني أجد تشابهًا كبيرًا بين ما حدث في 1916، وما حدث في السابع من أكتوبر 2023 لكن لم تتضح معالمه سوى بقدوم الشهور الأولى من العام الجاري 2024. في البداية لم يكن المشهد واضحًا عندما قررت حماس (أحد كيانات الإسلام السياسي) القيام بعملية كبيرة ضد الكيان الصهيوني المحتل لبقية أراضي دولة فلسطين، وعلى الرغم من أن غزة التي تحكمها لم تطأها قدم جندي إسرائيلي واحد منذ عام 2003، إلا أنهم قرروا بعد عشرون عامًا القيام بعملية ضخمة، وهذا في حد ذاته جيد، المقاومة حق مشروع ومكفول لكل من سلبت أرضه، فأعدوا العدة، ونسوا أن يحسبوا النتائج، أو ربما توقعاتهم لم تصل إلى ما وصلنا إليه اليوم، على كل حال كانت إسرائيل تنتظر تلك الفرصة وعندما سنحت استغلتها لمصلحتها، لكن ما شأن هذا وشأن الشرق الأوسط الجديد؟

استطاعت إسرائيل تحويل “عملية” ضدها، إلى سايكس بيكو جديدة، من خلال تلك العملية اجتاحت غزة، قتلت مئات الآلاف وشردت الملايين، نسفت مناطق بأكملها ودمرت البنية التحتية لمدينة غزة بالكامل، وفي أقل من عام تحولت غزة الجميلة إلى مدينة أشباح، يسود شوارعها أنين الجرحى، ويكسوها ظلام الحزن على الضحايا والمفقودين، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل سارعت إسرائيل إلى احتلال الركام والسيطرة على ما تبقى من المدينة.

كانت غزة البداية، ومن أجل غزة قامت جماعات الإسلام السياسي المنتشرة في أطراف البلدان العربية ببعض المناوشات الشكلية، كالصواريخ الذي يطلقها حزب الله اللبناني أو حلفاءه في العراق وسوريا أو الحوثيين في اليمن، ولم ينتبه أحد منهم أن إسرائيل قد نصبت لهم فخًا، فتلك الرشقات التي لا تضر ولا تصيب كانت الذريعة لقيام الكيان الصهيوني بتحقيق حلمه الذهبي بتوسيع رقعته، والقضاء على العرب دولة تلو الأخرى.

أطاحت شمالًا فقصفت لبنان، واجتاحت جنوبها بريًا، وسيطرت على أجوائها، ومن بعدها شنت الغارات على سوريا والعراق واليمن، وبين هذا وذاك خرج علينا رئيس وزراء الكيان المحتل حاملًا خريطة جديدة، معيدًا إلى الذاكرة أسلوب كعكة عيد الميلاد، آملًا بعمل شرق أوسط جديد يقسمه هو كما يريد بما يخدم مصالحه.

بدأت إسرائيل في التوسع بالفعل، ولم تكن لتحلم بذلك أبدًا قبل السابع من أكتوبر، لم تكن تتخيل أنها ستعيث فسادًا في 5 دول عربية خلال عام واحد فقط، تضرب ما تشاء، وتجتاح ما تريد، لذلك أرى أن العنصر الوحيد الذي خرج بتحقيق إنجازًا كبيرًا ونجاحًا ساحقًا من معادلة السابع من أكتوبر، هي إسرائيل، أما البقية فقد سقطوا في فخ قد نصبوه هم بأنفسهم.

والحقيقة أن جماعات الإسلام السياسي تلك، هي أكذوبة صنعتها قوى الشر بهدف نشر الفرقة والزعزعة بين أطراف المجتمع المختلفة وأيضًا لاستخدامها كذريعة للتدخل وقتما شاءوا، وما كان عليهم سوى زراعة فكرة بعينها في عقول البعض ثم يُترك أمر ترعرعها وانتشارها للزمن، يسقيها ماء الجهل ويغذيها بسماد التطرف، ونتيجة لذلك بُثت الفرقة بين الشعب الواحد، هذا يكفر ذاك، صرنا شيع متناحرة بين فريق يشكك والآخر يخوّن، وكل هذا حتى نُستنزف دائمًا في دوامة من الصراعات الأبدية التي لا تنتهي ولا ننتبه إلى ما يحدث حولنا من اغتصاب للحق والأرض. 

في النهاية، أدركت نفسي التي لم تعد تلك الطفلة التي تخشى أهوال احتلال القوى الاستعمارية للبلدان العربية أن الأحداث الجسام تحل على الأوطان والأفراد دون سابق إنذار، وكذلك تفعل الحروب. وعلى الرغم من أدخنة القنابل وغبار بارود توسع الصراعات من فلسطين إلى العراق إلى سوريا إلى لبنان إلى اليمن إلى السودان واتفاق جميعهم على الألم وتشابهم في المصير، إلا أنني مؤمنة بصحوة وطننا يومًا ما، عندما نتخلى عن ذلك الركن المظلم الذي اتخذنا منه مكانًا بين مطرقة الجهل وسندان التطرف ونتخذ من العلم سبيلًا، عندما تسود الوحدة أمتنا فلا اختلاف يشق صفنا ولا أيدولوجية دخيلة تعكر صفو جمعنا، عندما يصبح الولاء للوطن أكثر من المصالح الشخصية والمكتسبات الشكلية، حينها فقط سنصبح أقوى قوة على الأرض، وذلك الوطن العربي الذي انفرطت حباته مثلما تفعل حبات اللؤلؤ من العقد، سيُعاد ترميمه وبناءه وتوحيده من جديد.

اقرأ للكاتبة

ريم ياسر تكتب: حرب تحلم بنهاية

شكرا للتعليق على الموضوع