أصابع تيها “قصة قصيرة”

يقولون عن تيها إنها ساحرة. والأكثر خبثاً يهمسون أن بها مساً شيطانياً.

بعد خمس دقائق من ولادة تيها، انتبهت أمها أن لديها ستة أصابع في اليد الواحدة. الإصبع الإضافي نما بجانب الخنصر ، وكأنه توأم . لم تحزن الأم لهذا التشوُّه الطفيف ، خصوصاً في يد رقيقة وبالغة النعومة لطفلة ولدت للتو . تأملت طفلتها جيداً، فبدت لها ملاكاً مشعاً حطَّ في أحضانها. لم يظهر أنها تعاني من أي علة أخرى .

استفهمت الأم من الطبيب عن أصابع تيها ، فطمأنها ببسمة ثقة:” لا تخافي ، إنه أمر بسيط. عملية صغيرة ولن تتذكري بعدها أن ابنتك ولدت بإصبعين اضافيين”.

لكن الجدة عارضت بشدة إجراء العملية، ووبخت ابنتها برعب قائلة :

– ” أنت صغيرة على هذه الأمور . أتذكَّر جيداً ما روته يوماً إحدى الجارات . فقد سمعت أن امرأة رزقت بطفل له إصبع إضافي في يده، فسارع الأهل إلى بتر هذا الإصبع، ظناً منهم أنهم يحقُّ لهم فعل ذلك، وأنه من الأفضل للطفل أن ينمو بيد عادية ، غير مشوَّهة. ولكن احزري ماذا حصل لهم ؟ وُلد لهم طفل آخر ، لديه أربعة أصابع في إحدى يديه. فكأن الله كان يسخر منهم قائلاً :” حسناً ، لقد أزلتم الإصبع الإضافي ، ولكن ماذا ستضعون مكان الإصبع الناقص ؟” . لا يا ابنتي، لا يمكننا أن نعبث مع الله . هكذا أعطانا الطفلة ، وهكذا يجب أن نحافظ عليها “.

خافت الأم من العبث مع الله، وانتقل رعب والدتها إليها، فخلعته على زوجها الذي لم يكن مكترثاً كثيراً بالموضوع، لأنه لم يرَ فيه مشكلة راهنة يجب حلها على الفور . فنمت تيها ، كما وُلدت ، بيدين تحمل كل واحدة منهما إصبعاً إضافياً ، وبحَوَل شديد في عينيها!

فبعد أسابيع من ولادة تيها ، تبيَّن للأم أن نظراتها غير طبيعية . وأكد لها الطبيب أنها تعاني من الحَوَل ، ويجب أن ترتدي نظارات خاصة عندما تبلغ الثانية . ولا يمكن إجراء عملية لتصحيح الحَوَل قبل أن تصبح راشدة.

مشكلة أخرى بسيطة . فبعض الأطفال يصابون بإعاقات أشد إيلاماً . ما بها النظارات ؟ هل تمنعها من التحرك والرؤية، وتحرمها الذكاء ؟ لا . المشكلة فعلاً بسيطة . هكذا فكرت الأم ، والأب معها .

 ولكن تفكيرهما لم يكن صائباً تماماً .

فما حصل مع تيها ، لم يكن أبداً في الحسبان . ولم يكن الأهل ليتخيَّلوا يوماً أنه يمكن أن يحصل لها ذلك .

السَّر “قصة قصيرة”

عندما لاحظ أهالي شارع ” السلام ” ، أن الطفلة غير عادية ، بدأوا يخافون منها . تقاطر بعضهم إلى منـزل أهلها لمشاهدتها . ” ليحفظها الله “، قالوا . لكن نبرات أصواتهم كانت تفضح مشاعر الاستغراب والحشرية والخشية في نفوسهم .

كبرت تيها ، وأصبحت بعمر الدراسة . تمكَّن رفاقها بسرعة من إفهامها أنها لن تعيش بسلام بينهم. ارتداؤها النظارات جعل عينيها جاحظتين بشكل لافت . وحين تخلعها تبدو نظراتها ملتفة بحدة إلى الداخل . ولكن، ما يحيِّر فعلاً، هو أن تيها ، وبصورة لا تفسير لها، لم تكن تنـزعج من التعليقات والسخرية . تضحك مع الضاحكين عليها ، وكأنهم في لعبة. فخفَّت مع الوقت أجواء التهريج من حولها ، وبات الصغار يعتبرونها واحدة منهم . لا بل ذهبوا إلى حد الإعجاب بها، واللجوء إليها لاستشارتها في شأن خطط اللعب والدراسة. فقد أظهرت تيها نبوغاً لافتاً في دراستها ، واعتبرت معجزة صفها.

المشكلة كانت لدى كبار الحي وحكمائه .

أصابع  إضافية وعينان زائغتان وذكاء خارق . لا. تقاطع مخيف لصفات ليست عادية !

– ” هذه الفتاة مسكونة من الشرير ” . جزمت السيدة شمس الجردي ، الملقبة بالـ “بصارة”.

– ” أمرها غريب فعلاً “، أجابت جارتها المعجبة بها جداً. ” ولكن هل يعقل لطفلة في الخامسة أن يسكنها الشرير؟”.

حدقت بها بنظرات مشحونة بحكمة السنين، وبالـ” موهبة ” التي خصَّها بها القدير على استكشاف المستقبل، وقالت :

– ” أنتم ترون الخارج ، وانأ أرى الداخل . كم مرَّة طردت الجن والشياطين من أبنائكم؟ تفشَّى الشيطان في جسد تيها وهي في بطن أمها، وجعل منها ساحرة في خدمته . يجب أن نقنع أهلها بضرورة طرد الروح الشريرة منها “.

ولكن أهل تيها كانوا مؤمنين ، ولم يجرؤ أحد على مواجهتهم بحقيقة ابنتهم ، مرَّسوا تيها على الصلاة ، فتعلقت بها. وبدت شخصيتها لطيفة ورقيقة للغاية .

اعتادت الطفلة كل يوم ، أن تجثو على ركبتيها للصلاة، وتحرق البخور في أرجاء المنـزل. كانت فرحة الأم كبيرة بهذا المشهد التقوي المحبب . لكن الجيران ، كانت لهم نظرة مختلفة تماماً.

– ” أرأيتم كيف تتمرَّس تيها على السحر منذ طفولتها ؟ تحرق البخور لتسهل عليها مناداة الأرواح ! سمعتها منذ أيام تتمتم أشياء غير مفهومة. من علمها أصول هذه الممارسات ؟ لا أحد . طبعاً ، فالأرواح تسكنها منذ ولادتها “.

كبرت تيها ، وكبرت الأخبار من حولها . ولاحظت مع الوقت أن كبار السن في الشارع الذي تقطن فيه ، يحيونها بطريقة مبالغ بها. طبعاً، فقد كانوا يخافون منها، ولا احد يريد بالتأكيد أن يعبث مع ساحرة .

” كم هم لطفاء أبناء هذا الشارع !” ، قالت في نفسها. ” منذ طفولتي ، وابتساماتهم ترافقني كيفما توجهت “.

في عز مراهقتها ، وفي حديث عادي كان يدور بينها وبين احد رفاق صفها ، سأل هذا الأخير تيها :

– ” هل يفيدك الإصبع الإضافي بأي شيء ؟”.

– ” لا ، لا اعتقد . ما الذي أوحى إليك بهذا السؤال ؟”.

– ” كنت أتساءل في نفسي، لماذا لا تجرين عملية جراحية لإزالته “.

– ” حقاً! لم أفكر يوماً بالموضوع، لأن أهلي لم يشعروني يوماً بأنني مختلفة.”.

– ” ربما لم أخبرك أنه كان لديَّ إصبع إضافي في قدمي اليمنى ، وأزاله أهلي منذ طفولتي”.

– ” لا أعرف، اعتدت على وجود إصبعين إضافيين لديَّ . ولكن ربما أنت على حق . سأفكر بالموضوع “.

جميلة تفقد ثديها

نقلت تيها الحديث إلى أهلها، وكانت الجدة قد توفيت منذ سنين، فلم يمانعوا في استشارة طبيب. وبعد أيام قليلة، خضعت تيها لعمليتين متتاليتين. واحدة لإزالة الإصبعين الإضافيين، وأخرى لتصحيح الحَوَل. وعادت إلى المنـزل صبية مكتملة النضوج والجمال.

ولحظة وصولها إلى المنـزل، شاع في الحي أن ” البصارة ” توفيت بصورة مفاجئة !

لم يربط الأهالي بين ما حصل مع تيها ووفاة البصارة إلا لاحقاً، بعدما علموا بالعملية الجراحية التي خضعت لها .

كانت شخصية البصارة محببة في محيطها . فهي حيناً تقرأ المستقبل في فنجان القهوة الذي تقدمه لضيوفها الذين لا ينضبون في منزلها. وأحياناً تتفرس في خطوط اليد، وتسترسل في تحليل شخصية صاحب الكف وما يمكن أن يحصل معه. وعندما يمرض احدهم بشكل مفاجئ ، وخصوصاً إذا كان طفلاً ، يلجأ الجيران للرقية . والكثيرون تزودوا منها بحجابات للحماية من الحسد ، والعين الشريرة ، ومصائب الدهر.

كانت تهب الطمأنينة مجاناً ، وتخفف منسوب القلق أو ترفعه ، بحسب النصائح والتحذيرات التي تقدمها . لذا كان من البديهي أن يحزن أهالي شارع ” السلام ” عليها. وخرجوا بتفسير غريب لموتها المفاجئ :

” قتلتها الساحرة لتحل محلها . كنا نعرف أنها مسكونة من الشيطان، وكانت تعرف أننا نعرف. لم تقترب منا لأننا كشفناها، ولا مجال لها لخداعنا. فالعلامات الظاهرة في جسدها تشي بما في داخلها . لم يكن أمامها إلا أن تتخلص من هذه العلامات، لتظهر أنها إنسان طبيعي، وتنجح في استمالتنا. لكنها عرفت أنها لن تنجح في خداع البصارة، فتخلصت منها ومن علامات المس الظاهرة في جسدها، في يوم واحد “.

صنعوا تيها على قياس خيالاتهم، كما صنعوا أشياء أخرى كثيرة. وحفروا شخصيتها فوق قالب رخامي غير قابل للتعديل ، ولم يعودوا قادرين على إلباسها ثوباً آخر.

تزوجت تيها ورحلت عن الحي ، ولكن الأخبار عنها لم تنقطع .

لا شك في أن إحدى الأمهات ستخبر أبناءها قصة الساحرة التي ولدت بإصبعين إضافيين، وعينين مشدودتين إلى الداخل .

 وكمثل قصة الأهل الذين بتروا إصبع طفلهم الإضافي ، ثم رزقوا بطفل آخر ينقص إصبع من إحدى يديه ، ستتحوَّل أصابع تيها التي جعلت منها ساحرة ، إلى حقيقة في ذاكرة الحي .

تماماً كالكثير من الحقائق الأخرى .

رحم الله الجدة .

الكاتب والاديب سمير فرحات
الكاتب والاديب سمير فرحات

اقرأ للكاتب : 

موت الصبية “قصة قصيرة”

شكرا للتعليق على الموضوع