عبد الحسين شعبان يكتب : القدس ومعركة القانون والدبلوماسية
“إن أي نقاش أو تصويت أو قرار لن يغيّر من الحقيقة التاريخية، وهي إن القدس عاصمة الشعب اليهودي وعاصمة إسرائيل”. بهذه اللغة الاستعلائية والاستفزازية واجه داني دانون مندوب “إسرائيل” في الأمم المتحدة قرار الجمعية العامة الصادر في 21 ديسمبر (كانون الأول) 2017، الخاص برفض قرار الإدارة الأمريكية بنقل سفارة واشنطن إلى القدس المحتلة. وأكثر من ذلك أنه اعتبر الفلسطينيين يواصلون تضليل المجتمع الدولي والاختباء خلف مداولات فارغة المضمون، بدلاً من الجلوس حول طاولة المفاوضات. فكيف يمكن النظر إلى القرار الأممي من زاويتنا كعرب ومعنيين بالفكر القانوني والحقوقي الدولي؟
الملاحظة الأولى التي يمكن إدراجها على هذا الصعيد هو ما أثاره قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة حول القدس من جدل فقهي قانوني وسياسي واسع حول أهميته وتأثيره، ناهيكم عن إمكانية تطبيقه في الحال أو في المستقبل، لاسيّما لإصدار قرارات أخرى استناداً إليه لمنع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من تنفيذ قراره بشأن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، وهو القرار الذي سبق للكونغرس الأمريكي أن اتخذه العام 1995 وكان الرؤساء الثلاثة بيل كلينتون وجورج دبليو بوش وباراك أوباما قد أجّلوا تنفيذه خلال عقدين ونيّف من الزمان.
إما الملاحظة الثانية فهي التي تتجلّى بشبه الإجماع الدولي الذي حظي به القرار الذي نال تصويت 128 دولة داعمة له، مقابل تسعة أصوات رافضة وامتناع 35 دولة عن التصويت وانسحاب دولتين. ولعلّه من القرارات المهمة التي صدرت من الجمعية العامة بهذا القدر من الانحياز الأقرب إلى التضامن مع الشعب العربي الفلسطيني وهذا له أكثر من دلالة وأعمق من معنى.
الملاحظة الثالثة إن الجمعية العامة عقدت جلسة استثنائية لتصدر هذا القرار التاريخي وهي الجلسة العاشرة الاستثنائية في تاريخ تأسيس المنظمة الدولية منذ العام 1945 وحتى الآن، ولم يكن ذلك بمعزل عن معركة دبلوماسية دولية ينبغي على العرب مواصلتها، وعدم الإنكفاء بشأنها كما حصل عند إلغاء القرار 3379 الذي ساوى الصهيونية بالعنصرية، والذي صدر في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) العام 1975 في عهد الأمين العام الأسبق كورت فالدهايم، وتم إلغاؤه في ديسمبر (كانون الأول) العام 1991، بسبب تراجع الحد الأدنى من التضامن العربي بعد غزو الكويت، واختلال موازين القوى على المستوى الدولي، إثر انهيار وتفكك الكتلة الاشتراكية.
الملاحظة الرابعة تتعلّق بمضمون القرار فقد جاء واضحاً ويصبّ في قرارات دولية سابقة من المهم التذكير بها، وذلك برفضه أية إجراءات تهدف إلى تغيير الوضع القانوني لمدينة القدس المحتلّة واعتبار تلك الإجراءات ملغاة وباطلة، كما دعا إلى تكثيف الجهود لتحقيق السلام الشامل والعادل والدائم في الشرق الأوسط، والتي لها وضع خاص بموجب القرار الأممي المعروف باسم قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947 والذي أنشئت وفقاً له دولة “إسرائيل” في 15 مايو (أيار) 1948.
كما أن قرار الجمعية العامة ينسجم مع العديد من القرارات التي اتّخذتها الأمم المتحدة، وخصوصاً القرار رقم 478 الصادر عن مجلس الأمن الدولي بتاريخ 20 أغسطس (آب) 1980 بخصوص عدم الاعتراف بضم “إسرائيل” القدس إليها وفقاً لقرار صادر من الكنيست بالضد من الشرعية الدولية، وذلك بعد احتلالها العام 1967، علماً بأنها حسب قرارات الأمم المتحدة ظلّت تتمتع بوضع خاص وهو ما جاء به القرار 181 لعام 1947. والقرار 478 واحد من سبع قرارات أدانت ضم القدس من جانب “إسرائيل” واعتبارها عاصمة لها.
يُذكر أن “إسرائيل” ضمّت القدس الشرقية إليها العام 1980 بعد احتلالها العام 1967 وأعلنتها عاصمة موحدة لها ولم يعترف المجتمع الدولي بذلك.
وكان قرار المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر العام 1988 قد اعتبر القدس عاصمة للدولة الفلسطينية التي يعترف بها العالم، وكان مثل هذا التطوّر حصل باعتراف الأمم المتحدة بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل عن الشعب العربي الفلسطيني العام 1974 ثم قبولها كعضو العام 2012 في الأمم المتحدة ، وكذلك في العديد من المنظمات الدولية.
الملاحظة الخامسة إن قرار الجمعية العامة جاء بعد قرار اتخذته منظمة اليونسكو يوم 18 أكتوبر (تشرين الأول) 2016 بنفي ارتباط اليهود كدين بالمسجد الأقصى وحائط البراق ويعتبرهما تراثاً دينياً إسلامياً خالصاً. كما يتساوق مع قرار اتخذه مجلس الأمن الدولي في 23 ديسمبر (كانون الأول) من نفس العام، حيث طالب فيه “إسرائيل” بوقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأكّد على عدم شرعية إنشائها للمستوطنات منذ عام 1967 بما فيها القدس الشرقية .
وعلى الرغم من ردّة الفعل الواسعة الشعبية والرسمية، العربية والإسلامية والدولية، بشأن قرار الرئيس ترامب، فإن مشروع القرار المقدّم إلى مجلس الأمن الدولي من جانب مصر نيابة عن فلسطين، تحاشى الإشارة إلى الولايات المتحدة بالاسم، ولكنه دعا الدول لعدم الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة ” إسرائيل” وطالبها بعدم نقل سفاراتها وبعثاتها الدبلوماسية إليها. ومع ذلك فإن الولايات المتحدة استخدمت “حق الفيتو” لمنع إصدار مثل هذا القرار.
وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد ذهب أبعد من ذلك حين هدّد بمعاقبة الدول التي تصوّت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، خصوصاً تلك التي تتلقّى مساعدات مالية من الولايات المتحدة. وكانت نيكي هيلي قد أعلنت عن إصرار بلادها المضي في هذا الطريق قائلة: أنه حقها كدولة ذات سيادة وأن قرار واشنطن يعكس رغبة الشعب الأمريكي.
رأيان يتنازعان بشأن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة وهما يشتبكان بخصوص اختصاصات مجلس الأمن والجمعية العامة: الأول- يعتبر القرار إلتفاف على اختصاصات مجلس الأمن الدولي. أما الثاني- فيقرر عند فشل مجلس الأمن في اتخاذ قرار يتعلّق بالسلم والأمن الدوليين، فيمكن إحالة المسألة إلى الجمعية العامة، وهناك سوابق قانونية بذلك، من أولها القرار رقم 377 والمعروف باسم “الاتحاد من أجل السلام” لعام 1950 بشأن المسألة الكورية.
وإذا كان هناك من يعتبر قرار الجمعية العامة هزيمة لواشنطن ، فهناك من يخفّف من القيمة القانونية لمثل هذا القرار ويهوّن من حجيته القانونية على الرغم من كونه يشكّل سابقة قانونية دولية يمكن الاستناد إليها، والمقصود بذلك القرار 377 بشأن كوريا. وكان مجلس الأمن الدولي قد أخفق في التوصّل إلى قرار بشأن الوضع في كوريا، فلجأت واشنطن إلى الجمعية العامة لتحصل على الأغلبية فيه ولتمنع الاتحاد السوفييتي في حينها من استخدام “حق الفيتو”.
وكانت الولايات المتحدة تحاول إرسال قوات إلى كوريا بإصدار قرار من مجلس الأمن، ولكنها لم تفلح في ذلك، فلجأت إلى الجمعية العامة كمخرج مناسب، خصوصاً باحتمال لجوء الاتحاد السوفيتي إلى حق استخدام الفيتو، وكذلك لإمكانها الحصول على الأغلبية فيها حين كانت موازين القوى لصالحها في الجمعية العامة. والمفارقة أن واشنطن التي تبنّت مثل هذا الخيار آنذاك، نراها اليوم ترفض نتائجه.
وعلى الرغم من أن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بخصوص القدس يمثّل “توصية” هي أقل من حيث القوة القانونية التي تمتلكها قرارات مجلس الأمن الدولي، إلاّ أنه من ناحية أخرى يسمح بالذهاب لمحكمة العدل الدولية، التي من اختصاصاتها الفصل في النزاعات الدولية (بين الدول) التي تُعرض عليها وتفسير المعاهدات والاتفاقيات الدولية والنصوص والوثائق القانونية، وكذلك إصدار فتاوى استشارية، أي إصدار أحكام مدنية وليست جزائية بخصوص القضايا المعروضة عليها. ومحكمة العدل الدولية هي محكمة حقوقية تقضي بالمسؤولية المدنية والتعويض.
واستناداً إلى هذه السابقة القانونية المهمة يمكن إقامة دعوى لطلب التعويض وهو ما حصل بعد المجازر المرتكبة من جانب صربيا، إذْ طلبت الجهات المتضرّرة من صربيا (البوسنة والهرسك من محكمة العدل الدولية العام 1993 وقف هذه المجازر وطلب التعويض). ولا ينبغي الاستخفاف بطلب التعويض أو بإصدار حكم مدني، لأن هذا الأخير لو صدر فإنه سيسهم لاحقاً بملاحقة المرتكبين عبر محكمة جنائية كأن تكون المحكمة الجنائية الدولية، والأمر يحتاج إلى طائفة من الإجراءات التي ينبغي اتباعها بما ينص عليه ميثاقها (ميثاق روما الذي صدر في العام 1998 ودخل حيز التنفيذ في العام 2002) لاتخاذ العقوبات اللازمة بموجب قواعد القانون الدولي المعاصر المعتمدة وقواعد القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 وملحقيها بروتوكولي جنيف، الأول- الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة الدولية والثاني- الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية غير المسلحة والصادران عن المؤتمر الدبلوماسي 1974-1977.
إن هذا القرار من شأنه حمل المعتدي على وقف جرائمه، وفي حالة القدس فالمقصود جرائم الاستيطان والعنصرية، ناهيك عن الاحتلال غير الشرعي وغير القانوني استناداً إلى القرار 181، باعتبار ما حصل بشأنها من جانب “إسرائيل” يعتبر انتهاكاً للقانون الدولي وتهديداً خطيراً للسلم والأمن الدوليين، فكيف تُقدم الولايات المتحدة على مجاراة هذه المخالفة القانونية الدولية السافرة وتعترف بالقدس عاصمة لدولة “إسرائيل”، والأمر يمتد إلى من تستّر على هذه الجريمة أو تواطأ مع المعتدي، أو قام بالتدليس أو بالإكراه.
وإذا كانت هذه جريمة دولية، فاستناداً إلى “كونية الحق” يمكن الملاحقة على الجرائم الدولية الأخرى الخاصة بالجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والعدوان.
الكاتب باحث ومفكر عربي