إميل أمين يكتب : المونديال… حوار الثقافات والأديان والشعوب
انطلقت في روسيا فعاليات المونديال «كأس العالم» لعام 2018 بمشاركة فرق تمثل قارات الأرض الست، من كل الأمم والقبائل والشعوب، ومن جميع الأديان والمذاهب والطوائف في تظاهرة إنسانية رياضية يشهدها العالم كل أربع سنوات.
كل ما كُتب ويكتَب عن مباريات المونديال عادة ما يدور في فلك الرياضة والمنافسة والفوز أو الهزيمة، ومن سيقدّر له أن يعود بالكأس الذهبية إلى بلاده.
لم يلتفت الكثيرون إلى أن مباريات كأس العالم هي مناسبة خلاقة للقاء البشر وتحاورهم، وخلق رابط إنساني مشترك بينهم، وفرصة لكي يعبّر الجميع عن مخزونهم الحضاري قولاً وفعلاً، ثقافة وسياسة، ولا سيما أن الدورة الحالية تكاد تكون مسيّسة بالفعل.
يتساءل المرء، هل يمكن بالفعل أن يكون المونديال مدخلاً لتعزيز ثقافة الحوار بين شعوب الكرة الأرضية؟
في لقائه الأسبوعي الأربعاء المتقدم مع الجماهير في ميدان القديس بطرس في حاضرة الفاتيكان، أطلق بابا الفاتيكان شعاراً مثيراً للتفكر والتأمل: «لتكن بطولة كأس العالم 2018 فرصة لقاء وحوار».
رأس الكنيسة الكاثوليكية أرسل تحياته الحارّة للاعبين والمنظمين، وكذلك لأولئك الذين سيتابعون هذا الحدث الذي يتجاوز الحدود والسدود البشرية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت العالم قرية صغيرة بالفعل.
في لقائه أطلق البابا فرنسيس نداءً مهماً، داعياً لأن يكون الحدث الرياضي الكبير هذا مناسبة للقاء والحوار بين مختلف الثقافات والأديان، وكذلك لتعزيز التضامن والسلام بين الأمم.
دعوة البابا تستحق التأمل في عصرنا الحالي، ولا سيما أن أفضل وسيلة سلمية وحضارية لمواجهة عودة صراع القوميات، وتنامي صعود الأصوليات والشوفينيات، هي الحوار ثقافياً كان أم اجتماعياً، بين الشمال وبين الجنوب، عربي – أوروبي، بين كافة أتباع الأديان السماوية والشرائع الوضعية؛ فالنزاعات الدولية تحل بالحوار، والتنسيق بين المنظمات الدولية والإقليمية يتم بالحوار، والعمل المشترك بين المؤسسات الدينية والعلمية حول قضايا العصر المختلفة يمر بأرضية الحوار.
مثير شأن المونديال هذا العام؛ إذ تكاد الرياضة تواكب بعضاً من مبادرات السياسة، فقبل أيام كانت قمة سنغافورة، حيث جمعت الشتيتين بعدما ظنا كل الظن أن لا تلاقيا، بين واشنطن وبيونغ يانغ. وعلى الأراضي الروسية يسير وفدا الكوريتين تحت راية واحدة ويتنافسان كفريق واحد؛ ما يبعث الأمل بالعالم لجهة قدرة الحوار على حل النزاعات سلمياً، إذا توافر الاحترام المتبادل، وهو ما تعلمنا إياه الرياضة.
ما لا تقدر على فعله الرؤوس النووية والأسلحة الفتاكة يستطيع الحوار أن يقوم عليه؛ فهو يقود إلى معرفة غنى التنوع، ويعد النفوس للقبول المتبادل ضمن تطلع نحو تعاون حق يتجاوب مع الدعوة الأصيلة إلى وحدة الأسرة البشرية برمتها، كما أشار البابا الراحل يوحنا بولس الثاني قبل نحو عقدين، «فمنه تستمد الحياة الثقافية والاجتماعية، السياسية والاقتصادية قوتها».
التنافس الشريف بين فرق العالم المختلفة في المونديال قطعاً شكل من أشكال الحوار الناضج الذي أدركته البشرية، ولو رياضياً أو كروياً تحديداً، وينعكس على بقية أشكال الحياة انطلاقاً من تجارب الأمس وحوادث اليوم ومخاوف الغد، وهو «الطريق الأكثر أماناً لمكافحة شتى أشكال اللامبالاة وعدم التفهم وإنماء ذهنية الاعتراف والاحترام المتبادلين، ومعرفة الآخر في خصوصيات حضارته وتطلعاته».
لا يخفى على أحد أن أدوات الشر وأصحاب الذهنية الأحادية قد روّجوا كثيراً لجعل مونديال روسيا موقعاً وموضعاً لعمليات إرهابية وإيقاع أكبر خسائر بشرية ممكنة، الأمر الذي يعود بنا حقاً إلى ضرورة فتح صفحات الحوار وتعميقها، عوضاً عن حالة الأحادية الذهنية تلك التي أنبتت الأصوليات شرقاً وغرباً، والتي لا تقبل حواراً أو جواراً، ولا تصغي للآخر، وجلّ همها أن تفرض رؤيتها المتعصبة والمتزمتة على الآخرين، ولو بالعبوات المفخخة أو الأحزمة الناسفة.
بنوع خاص، نلفت النظر إلى أن مشاركة الفرق العربية والإسلامية في المونديال، وفي المقدمة منها المملكة العربية السعودية ومصر، أمر يتجاوز مجرد المشاركة التقليدية الرياضية؛ ذلك أن المطلوب منها جميعاً إظهار التفاعل الرياضي الإنساني الخلاق، المنبثق من تراث شعوبنا في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، وتأكيداً على الدور الفاعل الذي تساهم به حضارتنا في تعزيز روح التسامح والتواصل بين الحضارات والشعوب والأديان كافة.
بالقدر نفسه، ننتظر من الجماهير العربية والإسلامية الذاهبة إلى المونديال أن تضحى بمثابة بعثات سلام ووئام إلى هذا التجمع الإنساني الكبير، وكل مشارك يمكنه أن يعد نفسه سفيراً لحضارة عريقة لا يمكن أن تنعزل عن مجرى الحضارات الإنسانية الأخرى، وإنما بما توافر لها عبر العصور من عناصر خلاقة، أضحت قوة تحفز على الحوار، وتدفع نحو التعايش؛ ما يجعل لها ثقلاً وقوة جاذبية يوجهانها نحو الحضارات الأخرى؛ الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى التلاقح الذي ينتج ما يمكن أن نطلق عليه «التجديد الحضاري».
هل يمكن أن يكون المونديال بداية لعصر جديد من الحوار يوحّد الإنسانية لتكون «رعية واحدة لراع واحد»؟
إنه ذلك العصر الموعود الذي فيه «أشرقت الدنيا بنور ربها»، وهو العصر الذي تكون فيه مشيئة الله «كما في السماء كذلك على الأرض»، عصر لم تشهد الإنسانية له مثيلاً، ولم يتصوره عقل، ولم تجد اللغة في كلماتها وصفاً حتى الآن، وكما جاء في القرآن الكريم «… كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ» (سورة الأنبياء، آية 104).
إميل أمين – الشرق الأوسط اللندنية