يوميات دينا ابو الوفا … عارفين

لم اكن فى أفضل حالاتى النفسية اليوم …. فآثرت – كما هى عادتى فى تلك الحالة – ان اختلى بنفسى فى حجرتى المظلمة دون ان يداهم خلوتى أحداً اى كان …. فالتجوال محظور !!!!!

وفى محاولة لإخراج نفسى من تلك الحالة المزاجية الكئيبة ، قررت مشاهدة أحد الأفلام على “نت فليكس″، لعلها تأخذ بيدى وتجذبنى خارج قاع الظلمات الذى سقطت فيه مؤخراً !!!!

ومن بين الاختيارات اللانهائية من الأفلام ، إجتبيت فيلماً للممثلة الأمريكية التى اعشقها عشقاً أبديا “ساندرا بولوك” …

كان عنوان الفيلم ” أور براند ايز كرايسيس” بمعنى علامتنا التجارية هى الأزمة ……

دارت قصة الفيلم حول جاين (ساندرا بولوك) التى كانت تعمل كمخططة استراتيجية فى حملات انتخابات المرشحين لمناصب مختلفة ….

وقد تم التعاقد معها ، لتكون الخبيرة الاستراتيجية لحملة احد المرشحين للرئاسة فى دولة بوليفيا بأمريكا اللاتينية ويدعى “كاستيلو”….

وبالفعل سافرت الى هناك مع طاقم عمل كامل، لتجد ان المرشح لم يكن يبلى بلاء حسناً فى الانتخابات ، وانه فاقد لشعبيته ، غير محبوب وغير مرغوب فيه …

فقد ترشح للرئاسة وفاز مرتين قبل ذلك ويبدو ان الشعب كان يبحث عن دم جديد ، بفكر جديد ، ساعياً بذلك الى أمل جديد فى التطور والازدهار …. وعليه فقد كان منافسه يتقدم عليه بنقاط كثيرة …

فما كان من الطاقم الانتخابى ، الا ان لجأ الى أقدم الحيل وأكثرها سذاجة وهى محاولة إبراز الجانب الإنساني والعاطفى فى المرشح “كاستيلو” عن طريق إعلانات ورسائل تنم عن حبه للوطن ولشعبه … كإعلان له وهو يلتقط فتاة سقطت من بناية عالية قائلا” لقد أمسكت بك ، انت فى أيد أمينه” …

اما الفتاة فكان إقناعها بتمثيل هذا المشهد شبه مستحيل ، وقد عللت رفضها قائلة ” لن اقفز … حتماً سوف يصيبنى مكروه ، فانا لا اثق انه سيلتقطنى” …

فكانت وقفتى الاولى عند هذا المشهد …

الامر فعلاً بتلك البساطة !!! … ليس فقط فى لعبة السياسة بل ايضا فى الحياة اليومية …. اذا منحك مرشح ما ، قائد ما ، شخص ما فى الحياة ، اسبابا كافية وقوية للوثوق به ، سلمت له نفسك دون خوف وأأتمنته عليها … وان لم يفعل لم تفعل ..

فلا ثقة لمن لا يستحق …

وتتوالى الأحداث وتشعر “جاين” ان الامور مستمرة فى التدهور …. ولانها محترفة ، ويقتضى عملها الذى تتقاضى اجرا عليه ان “تصنع من الفسيخ شربات ” كما يقولون فقد اعلنتها واضحة وصريحة ” عملى يجعلنى اؤمن بالمرشح واقتنع بخطته الانتخابية واتبنى فكرتها ، حتى ولو كانت الأسوأ على الاطلاق …. بل والمعها وأقنع بها المنتخبين ” …

وكانت تلك وقفتى الثانية …. هل يجوز ان نتخلى عّن مبادئنا من اجل عملنا … من اجل اى شئ …

هل لتلك الدرجة هى قذرة لعبة السياسة !!!

عادت لتطرح فكرتها العبقرية قائلة ” ما كنّا نقوم به حتى الان خطأ فى خطأ…. كنّا نحاول ان نغير الشخص من اجل الموقف ….بينما توجب علينا تغيير الموقف من اجل الشخص !!!! لماذا نحاول ان نجعل من “كاستيلو” شخصاً ظريفاً يحبه الشعب ، الذى يرى فى التجديد حلاً وفى رئيسا آخر الخلاص تحت ظل ظروف اقتصادية مستقرة… فى حين ان ما علينا فعله حقاً هو إقناع الشعب بأن “كاستيلو” رجل المهام الصعبة لما لديه من خبرات سابقة ..إذن فهو الاختيار الأمثل فى ظل ظروف اقتصادية متدهورة ” وأنهت بعبارة صدمتنى لانها أوجزت فانجزت “الحب والرهبة لا يجتمعان ، فان لم تستطع ان تجعل شخصاً يحب ، فاجعله يخاف”

وكانت تلك وقفتى الثالثة …. اليست تلك العبارة صادمة ….

ان تختار رئيساً ، قائداً ، او حتى شخص ما فى حياتك الشخصية ، لمجرد ان فكرة المضى دونه مجازفة وان البدائل مخيفة وان تتخذ قراراً مبنياً على الترهيب، لأمر ساذج للغاية ….

ولكن لانه من الواضح ان تلك أقدم وانجح الحيل منذ قديم الأزل ، فقد أخذت مؤشرات “كاستيلو” فى الارتفاع ….

وفى احد المشاهد دار بينه وبين احد اكبر مؤيديه من الشباب الفقراء حواراً ، اعرب فيه الشاب “ادواردو” عن إيمانه الكامل بكاستيلو وكيف انه يتذكر الى الان، انه رآه اثناء حملته الانتخابية الاولى وكان طفلاً صغيرا حينها ، وانه لا يزال يحتفظ بصورة تذكارية يحمله فيها “كاستيلو”وسط جموع الشعب !!!!

يعقب هذا المشهد ، مشهداً اخر لمظاهرة ضد “كاستيلو” تستوقف حافلته الانتخابية ، فينزل “كاستيلو” ليتحدث اليهم …. وبسذاجتى المعهودة استبشرت خيراً وأخذتني الحماسة وهمست

” يا لشجاعته … فقد اختار المواجهة ونزل الى معارضيه يتحدث اليهم بالمنطق… “

وبالفعل تحدث اليهم وكان اكثر ما يؤرقهم انه سيلجأ الى صندوق النقد الدولى للحصول على قرض بفوائد كبيرة ، يدفع ثمنها الطبقة الفقيرة فتزداد أحوالهم سوء !!!

فكانت إجابته سريعة وقطع وعداً على نفسه فى التو واللحظة قائلاً “أعدكم الا الجأ لصندوق النقد الدولى ”  …

وعد تمنيت ان يوفيه لعدة أسباب .

أولهم انى لا ابغض شيئا فى الحياة كما ابغض الوعود الزائفة واحتقر بشده من يقطعها على نفسه .

وثانياً لانى احب النهايات السعيدة (اعرف ان سذاجتى فاقت كل حد …. ربما كانت سبباً رئيسياً فى خيباتى المتكررة)

وثالثاً ، من اجل هذا المؤيد الشاب الذى يؤمن به ايمانا متناهياً ، لم ارد ان أراه وقد تحطمت سفن احلامه بعد ان اصطدمت بجبال من الأكاذيب والزيف … مثلما حدث لى !!!!

ولكن ما حدث فى الدقائق التالية اكد لى ان الخيبة قادمة لا محالة … فقد صعد “كاستيلو” الى الحافلة مرة اخرى ، نظر الى “ادواردو” وقال بثبات وحزم ” القائد احيانا عليه ان يلعب دور الأب مع شعبه ، مما يستدعى ان يتخذ قرارات قد لا يؤيدها أولاده ، ولكن عليه اتخاذها فى كل الأحوال وعلى أولاده السمع والطاعة ،،، فهو اعلم بما فيه الخير لهم ” …

وكانت لى تلك العبارة ، أولى مؤشرات الدكتاتورية التى سرعان ما ستدق على الأبواب !!!!

فحدث ما لا تحمد عقباه …. فاز “كاستيلو” فى الانتخابات ، وفى اليوم التالى كان مندوبين من صندوق النقد الدولى فى مكتبه الرئاسى يفرضون فوائد كبيرة على قرض للدولة !!!!

ورفض الرئيس استقبال “ادواردو” لم اعرف السبب وراء هذا الرفض … هلً كان لانه لم يعد بحاجة اليه بعد انتهاء حملته الانتخابية ام انه لم يجرؤ على مواجهته !!!! من يدرى …

وقامت ثورة وهاج الشعب …. رد فعل طبيعى حين تعامل شعباً بأكمله كطفل صغير وتتخذ القرارات المحورية نيابة عنه دون الأخذ فى الاعتبار العواقب الجسيمة التى قد تقع عليه … فالطفل حينها يثور ويغضب ويعترض ويواجه …. فليس لديه ما يخسره …

ومرة اخرى استوعبت ان تلك القاعدة تنطبق ايضاً فى المواقف الحياتية والعلاقات الإنسانية … ليس فقط فى عالم السياسة …

ثم يأتى المشهد الأخير لنرى “ادواردو” الذى كان أقوى مؤيدين “كاستيلو” وقد تقدم صفوف الثوار وأخذ يهتف ضده …. كم هو أمر مؤسف ان يتحول شخص من صفوف المؤيدين الى صفوف المعارضين …

ليهتف ضدك بدلا من ان يهتف لك …

وعلى قدر حبه لك يوماً ، يبغضك !!!!

فعلاً …. أمر مؤسف ….

اما “جاين” فكان تحولها هو الشئ الإيجابي الوحيد الذى ولد من تلك المحنة … فقد قررت فجاة التوقف عّن مزاولة تلك المهنة التى تخصصت فى بيع الأكاذيب بل وتصديقها … التى لا تعرف شرفاً ولا منهجاً موحداً فى الحياة … فمنهجها كان منهج من يدفع لها …. يتغير مع تغير الشخص والظروف والملابسات …. اعتقد أنها بهذا قد اكتفت واتخذت لأول مرة موقفاً صارماً وعادت لتزاول منهجها وتتبع قواعدها الخاصة …. فهنيئا لها…

دينا ابو الوفا
دينا ابو الوفا

اقرأ للكاتبة

يوميات دينا ابو الوفا … عارفين

شكرا للتعليق على الموضوع