فؤاد الصباغ يكتب : ليبيا بعد الثورة الشعبية “إنقلاب عسكري أم عمليات كر و فر؟”
إن الدمار الذي شهدته أغلب المدن الليبية بعد الثورة الشعبية التي إندلعت شرارتها سنة 2011 لتطيح بأشرس نظام عربي و إسقاط رأسه تحت تدخل أجنبي مسموم في سيادة وطن لطالما رفعت راية “الله أكبر فوق كل معتدي”.
فالأوضاع الإقتصادية و الإجتماعية التي تلت فترة حكم العقيد معمر القذافي البائد لم تكن جيدة علي شتي المجالات و المؤشرات الإقتصادية هي الدليل الوحيد علي تجذر ذلك الخراب في أغلب المدن من قبل الغراب الأسود الإرهابي أو تدخل أطراف أجنبية في السيادة الترابية الليبية. كان بالأمس القريب العالم يتحدث عن الرفاهية التي كان الشعب الليبي يتمتع بها تحت مظلة فترة حكم القذافي الإشتراكي الشعبي بحيث تحققت خلالها العدالة الإجتماعية و وزعت في عهدها الثروة الوطنية علي كافة الطبقات الشعبية و كانت صناديق التعويض و الدعم بمثابة الحافز الرئيسي للظروف المعيشية.
أما اليوم تغيرت تلك الصورة و أصبحت ظروف عيش الليبي في الحضيض بحيث عطلت موارده المالية و سلبت منه إرادة الحياة و أصبح لا ينعم بالإستقرار و بالإزدهار بحيث كانت أشباح الموت تطارده حتي في غرفة نومه. أصبح الدمار في كل مكان و الصراع علي السلطة لم يهدأ إلي غاية الآن علي الرغم من مرور ثمانية سنوات عن تلك الثورة الشعبية المطالبة بالحرية و الديمقراطية. فذلك الحلم تحول إلي كابوس حقيقي يؤرق كل عائلة ليبية بحيث زادت الأطماع الأجنبية من أجل الإستحواذ علي مصادر الطاقة بأرخص الأثمان في تلك الرقعة الجغرافية التي يسبح شعبها علي بركة من النفط و الغاز و التي تقارن بالذهب الأسود.
ففي ظل إنتشار الفوضي و الإرهاب في أغلب الشوارع الليبية بصفة رهيبة و غريبة مع فشل الحركات الإسلامية فشلا ذريعا خلال الثلاثة سنوات الأولي التي تلت الثورة وجد بدوره المشير خليفة حفتر الفجوة ليشكل درع ليبيا العسكري الجديد الصامد و الصاعد ضد كل شخص إرهابي متطرف يعبث بأمن البلاد و ينهب ثروته. أما في المقابل فكانت حكومة الوفاق التي تشكلت من صلب التفويض الشعبي و بدعم خارجي من أجل إرساء تجربة ديمقراطية فتية مازالت في جوهرها تعاني من ضعف و وهن للسيطرة الكاملة علي الأوضاع الأمنية و تسيير الشؤون الإقتصادية. إذ أختزلت حكومة الوفاق فقط تحت قيادة فايز السراج لإدارة شؤون مدينة طرابلس و لتتكتل معها القوي الديمقراطية و الحقوقية و الإسلامية في وجه نفوذ و زحف قوات حفتر العسكرية الذي يسوق لنفسه كالبديل الجدي و الحامي للبلاد و العباد.
ثورة شعبية و تدهور الأوضاع الإقتصادية
إن الشعب الليبي الذي أسقط رأس الدكتاتوري العقيد الشرس معمر قذافي و لو بدعم عسكري أجنبي في حرب ظالمة لم تراعي حقوق المواطن الليبي و لم تحقق بعد ذلك مطالب و أهداف ثورته علي أرض الميدان. فتحول بالنتيجة ذلك الحراك الشعبي إلي مأساة حقيقية خاصة بعد دخول تنظيم الإرهاب الدولي المسمي داعش ليدهس نفوس الأطفال و الشيوخ و يزهق أرواح الأبرياء و يقطع الرؤوس و ينصب المحاكم و المشانق. فكانت نتائج تلك الثورة بمثابة الصاعقة و الكارثة التي سحقت حياة المواطن الليبي المسكين و دمرت البنية التحتية لوطنه العزيز و خربت مكاسبه الوطنية ظلما و تعسفا. إذ اليوم أصبح المواطن اليبي يعيش في رعب و غير مستمتع بالحياة و مستمع فقط لأصوات الصواريخ و الرصاص تجوب الشوارع و الأزقة. فتحولت الثورة الشعبية السلمية إلي صراع علي السلطة و أضحت مؤخرا وصمة عار علي جبين قوات حفتر العسكرية و حكومة الوفاق الوطنية. فالشعب الليبي الثائر لا يرغب حاليا في مزيد من سفك دمائه و الدخول في دوامة الإقتتال بين الأخواة الغير مبررة فهو يبحث عن التغيير الديمقراطي الجدي بطرق سلمية و بالإنتخابات الشفافة و النزيهة. إذ تتلخص مطالب الثورة الشعبية الليبية بالأساس في تحسين ظروف العيش و التشغيل القار و الرفع في الأجور مع المزيد من الإنفتاح علي الأسواق العالمية و الإندماج في العولمة الرقمية و الإستمتاع بأحدث التكنولوجيات و الإتصالات و التي كانت أغلبها مفقودة في حكم نظام العقيد معمر القذافي. إن تحسين ظروف العيش و تحقيق الكرامة و السلم الإجتماعية كانت أولوية مطالب الثورة الشعبية, إلا أن النتائج كانت عكس ذلك و يا خيبت المسعي لتلك الجحافل الشعبية الثائرة و الراغبة في كسر القيود و الطوق إلي الحرية و الديمقراطية. إذ تدهورت بالنتيجة أغلب المؤشرات الإقتصادية طيلة تلك الفترة التي تلت الثورة و خاصة منها مؤشرات النمو الإقتصادي و التنمية مع تعطيل إنتاج النفط و تخريب بعض حقوله.
أطماع دولية علي الثروات الطبيعية
مما لا شك فيه تعتبر الأطماع الدولية علي مصادر الطاقة الليبية متصلة بشكل مباشر في الصراع الدائر حاليا في ليبيا. فالمتغيرات الدولية و الإقليمية إنعكست عدواها مباشرة علي الأوضاع الإقتصادية و السياسية الداخلية الليبية و شكلت بدورها عائق أمام إرساء الديمقراطية. فعيون القوي العظمي غير بعيدة علي ما يحدث بتلك الدولة التي أصبحت تنزف دماء الأبرياء و دموع الفقراء. بالتالي أصبح الصراع الدولي علي النفوذ و إحتكار السلطة لصالح تكتلات معينة واضحة و جلية للجميع و خاصة منها تدخلات الولايات المتحدة الأمريكية و فرنسا و إيطاليا في الشؤون الداخلية الليبية بتعلة مشاركتها العسكرية في تغيير النظام و حفظ الأمن العالمي و الإقليمي أو بإعتبارها مستعمرة سابقة تحتوي علي مصالح إستراتيجية بعيدة الأمد. فعلي الرغم من الترويج للديمقراطية من قبل تلك الدول كأساس للمستقبل الواعد و لبناء الأوطان الحرة, إلا أن بعض أيديها الخفية كانت تتلاعب بالأوراق السياسية المحلية بحيث تصبح الديمقراطية تخريبية في منظورها و في مضمونها الميداني. فإستنكار تلك الدول بعدم التدخل المباشر في السيادة الوطنية و القرار السياسي الليبي الداخلي غير صحيح, فالبرهان كان واضحا من خلال إلقاء القوات العسكرية التونسية في المياه الإقليمية القبض علي قوارب أجنبية تحمل الذخيرة الحية و أسلحة حربية ثقيلة. بالنتيجة تبدو الأطماع العالمية للإستحواذ علي الثروات الباطنية الليبية واضحة بحيث تلك القوي لا يهمها من في السلطة حفتر أو السراج بقدرما تركز إهتمامها علي تلك الكنوز السوداء التي ستدر عليهم أموالا طائلة و التي تعتبر مصدر إنعاش لخزينتها المالية التي أصبحت مؤخرا تعاني من أزمات مالية متتالية و إرهاق لميزان مدفوعاتها و تراكم لمديونتها المزمنة.
المشير خليفة حفتر: هل هو البديل الجيد؟
بعد إنحراف المسار الديمقراطي الإصلاحي و إنجراف جميع الأطراف نحو دوامة العنف و الصراع و جدت بعض الأطراف السياسية و خاصة منها القوات العسكرية منفذا للتدخل المباشر تعت شعار الإنقاذ. بالنتيجة تعتبر إتفاقية الصخيرات المغربية الوثيقة الرسمية التي تثبت شرعية حكومة الوفاق الوطني علي سلطة كافة الأراضي الليبية لكنها سقطت في الماء و تقلص نفوذها ليقتصر مؤخرا فقط علي مدينة طرابلس.
أما مساعي الأمم المتحدة لحفظ الأمن و السلم بليبيا تحت مبعوثها غسان سلامة من أجل عودة التهدئة هي أيضا بدورها فشلت خاصة بعد تورط قوي أجنبية في إنتهاك السيادة الوطنية الليبية و دعم قوات حفتر الإنقلابية. فبالعودة لمسيرة المشير حفتر العسكرية منذ فترة عمله مع العقيد القذافي تتضح سمات الإنتقام و الثأر علي وجهه بحيث كانت تلك الصفعة التي تلقاها في التشاد إنتكاسة حقيقية لمسيرته تسببت في إقالته و هروبه إلي الولايات المتحدة الأمريكية التي مكث فيها قرابة عشرون عاما كلاجئ سياسي من النظام السابق.
إذ طبقا لبعض التقارير الصحافية و الإخبارية تشير أن المشير حفتر له إتصالات مباشرة و واسعة مع وكالة الإستخبارات الأمريكية و هو عاد بالأساس لليبيا للإنتقام من الجميع. كما أن المتغيرات الإقليمية في صلب دول مجلس التعاون الخليجي الذي بدوره تفكك و شكل كتلتين معادية لبعضها البعض منها تكتل دولة الإمارات العربية المتحدة و المملكة العربية السعودية من جهة و تكتل دولة قطر و حلفائها بتركيا و إيران من جهة أخري تعد هي أيضا لها دور رئيسي في الصراع الحالي في ليبيا. أما أحداث الإنقلاب العسكري المصري سنة 2013 و إنتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي مجددا ليحكم مصر إلي موفي سنة 2034 في جوهره كان له إمتداد نفوذ إستراتيجي علي ما يحدث حاليا بليبيا الجارة. فالصراع الدائر في المعقل الأخير لقوة الوفاق الوطني الليبي بمدينة طرابلس يعتبر الحدث البارز إقليميا بحيث إقتربت ساعة التغيير أو الإجهاض.
فصمود قوي الوفاق المدعومة من قبل الإخوان المسلمين و العلمانيين التقدميين و قطر و تركيا ماديا و عسكريا في وجه زحف قوات المشير حفتر المدعوم من بعض الجهات الخليجية و الأجنبية الخفية يمثل في مجمله نذير صراع حاد له إنعكاسات مستقبلية مباشرة علي المنطقة برمتها. لكن لا يبدو الإنقلاب العسكري قريبا لأن بعض الدول المجاورة دخلت علي الخط لإحتواء ذلك الصراع و تحكيم رأي العقل علي صوت الرصاص و ذلك بالتنسيق مع بعثات الأمم المتحدة التي تسعي لجلب الأطراف المتنازعة مجددا إلي طاولة الحوار و الحفاظ علي الحكم المدني الليبي و علي التجربة الديمقراطية الفتية في ذلك البلد الشاسع إفريقيا.
بالنتيجة تبقي تلك العمليات مجرد عمليات كر و فر بحيث ستستمر أطوارها حول المدار الجنوبي لمدينة طرابلس وفقا لتنظير إستراتيجي و إستشرافي لتمتص و ترهق قوي الوفاق الوطني حتي تفقد تلك الشرعية الدولية لحكومتها و تحفظ أرواح العديد من الأبرياء بتلك المدينة. فالأحداث الجارية حاليا حول مدينة وادي الربيع و بن سليم و العزيزية تعتبر في مجملها مناورات إستفزازية و مجرد إعتقال أسري لقوات الوفاق التي تعتبر ضعيفة مقارنة مع قوات حفتر المدعومة إقليميا ثم المساومة بعد ذلك لتبادلها مع أسري أخرين. عموما و وفقا لبعض التكهنات الإستشرافية يعتبر الإنقلاب العسكري بليبيا مؤجلا إلي وقت لاحق بحيث تبقي المساعي للمبعوث الأممي غسان سلامة من أجل إحتواء الحرب بتلك المدينة هي الأرجح بأن تستمر مدتها لأنه في المقابل هناك أطراف إقليمية و أممية لا ترغب في إنقلاب حفتر حاليا و تشكيل حكومة مدنية أخري أو إجراء إنتخابات تشريعية و تنفيذية مجددا.
فؤاد الصباغ – كاتب تونسي و باحث اقتصادي
اقرأ للكاتب
فؤاد الصباغ يكتب : العالم السيبراني “إبتكارات علمية أم حرب قرصنة؟”