مصطفى جودة يكتب: لا تعتزل مبكرا
أ.د: مصطفى جودة
رئيس الجامعة البريطانية بالقاهرة – سابقا.
يهل علينا بعد شهر تقريبا موسم من أجمل مواسم البشرية، هو موسم إعلان جوائز نوبل على النوابغ من البشر في أكتوبر 2023.
تأتى هذه المناسبة هذا العام مغلفة بمسحة رقيقة من الحزن والأسى، فقد فقدت الدنيا واحدا من أعظم ما أنجبت على مر العصور هو عمدة الجائزة عبر تاريخها كله والذي قد لا يأتي له سميا.
هو الأمريكي جون جودإنف الذى اكتشف عام 1980، بطارية الليثيوم التي تحوى على المستوى الجزيئي على فراغات يمكن أن تتواجد فيها أيونات الليثيوم وهو الأمر الذى مكنه من الحصول على فرق جهد أعلى مقارنة بالبطاريات السابقة. حصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 2019 وهو في السابعة والتسعين من عمره ليكون أكبر من حصل عليها في التاريخ وذلك لاكتشافه تلك البطاريات القابلة للشحن والتي أحدثت ثورة في التليفونات الذكية والكمبيوترات وفي تصنيع السيارات الكهربية مما يجعلها منافسا قويا للسيارات التقليدية التي تستخدم البنزين وبالتالي ستحل مكانها في المستقبل القريب. كما أنها تستخدم في تخزين الطاقة الشمسية وكل أنواع الطاقة المتجددة وإتاحتها بأسعار معقولة، وبالتالي فإن استخداماتها في تزايد.
إن في قصته لعبرة للصغار والشباب والعواجيز، فهي حكاية عالم عظيم عاش 101 عام حافلة بالجدية وطلب العلم والإنجازات منذ أن كان في المهد صبيا، وظل لآخر يوم في حياته نشيطا في عمله وبحثه، ومساهما في تطوير اكتشافاته وفي نقل كل ما يعلم الى تلاميذه ليحملوا راية جديرة بالحمل ولتبقى مساهماته العطرة نبراسا في الآخرين، وبالتالي فهو قدوة تتجاوز المكان والزمان. المتأمل في سيرة حياته وحصر إنجازاته ينتابه إحساس أن الرجل عاش أكثر من ألف عام.
ولد في ألمانيا في الخامس والعشرين من يوليو 1922، لأبوين أمريكيين يعملان هناك، وتوفي في الخامس والعشرين من يوليو 2023، في مدينة أوستن بولاية تكساس الأمريكية، حيث مقر عمله في جامعة أوستن بتلك الولاية والتي ظل يعمل بها قرابة 37 عاما أستاذا لعلوم وهندسة المواد. كان والده حاصلا على الدكتوراه من جامعة أوكسفورد وعمل بعدها أستاذا في تاريخ الأديان بجامعة ييل.
مشى على آثار خطى والده فدرس الرياضيات في جامعة ييل المرموقة بولاية كونيتكت ثم التحق بعدها لأداء الخدمة العسكرية بالجيش الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية. التحق بعد نهاية الحرب بجامعة شيكاغو لدراسة الدكتوراه والحصول عليها عام 1952 في الفيزياء من تلك الجامعة العظيمة وفيها تلقى العلم على أساطين العلم الذين تعج بهم تلك الجامعة. بعد حصوله على الدكتوراة عمل في معهد ماسيتشوستس للتكنولوجيا ثم في جامعة أوكسفورد وفي عام 1986 انتقل الى جامعة أوستين الأمريكية وبقي بها أستاذا لعلوم وهندسة المواد حتى وافته المنية ضاربا كل الأمثلة للجميع خصوصا كبار السن الذين يظنون أن الحياة الحافلة بالإنجازات تنتهي ببلوغ الستين خصوصا في حارتنا التي دائما تقسو على حكمائها العواجيز. أثبت هذا الرجل أن هذه نظرية خاطئة.
كانت دراسته الجامعية الأولى حافلة. التحق بجامعة ييل عام 1940، بدأ دراسته وهو مصر على ألا يطلب من والده أي مصروفات وأن يعتمد كليا على نفسه، وبدأ رحلته في تحقيق هذا الهدف بأن حصل على وظيفة في الصيف وفيها كان يقوم بإعطاء دروس للراغبين من أولاد الأغنياء، وفيها تمكن من جنى أموال تكفي لدفع مصروفات سكنه بالجامعة.
كانت الحرب العالمية الثانية في أوج استعارها عندما أنهى دراسة الرياضيات بجامعة ييل عام 1943، فتقدم لأداء الخدمة العسكرية وبدأها عام 1943، واختار أن تكون في موضوع يكون فيه أكثر فائدة لوطنه وهو أن يخدم في مجال الأرصاد الجوية التي تناسب دراسته في الرياضيات. استطاع بعد تلقيه التدريب أن يكون مسئولا عن محطة أرصاد جوية وفيها كانت تتم عملية التنبؤ بحالة الجو إضافة الى رسم الخرائط. كانت وظيفة شاقة إذا ما تذكرنا أنه لم يكن يوجد أقمار صناعية حينها ولم يكن الكمبيوتر قد اخترع أيضا وهو الذى يساعد كثيرا في تحديد حالة الطقس كما يحدث في أيامنا تلك. بعد انتهاء الحرب تم اختياره ضمن 21 ضابطا من الجيش الأمريكي لدراسة الدكتوراه في مجالي الفيزياء أو الرياضيات بجامعة شيكاغو أو جامعة نورث ويسترن. اختار دراسة الفيزياء في جامعة شيكاغو وبدأها عام 1946 وأنهاها عام 1951، وحصل على الدكتوراه عام 1952.
في شيكاغو كان من أساتذته إدوارد تيلر الملقب بأبو القنبلة الهيدروجينية، والإيطالي الأصل إنريكو فيرمى الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1938، لاكتشافه تفاعلات نووية عند قذف بعض العناصر بنيوترونات بطيئة وهو الأمر الذى نتج عنه وجود عناصر مشعة، ومن أساتذته أيضا كلارنس زينر الذى علمه القدرة على العمل البحثى المستقل.
كان ذلك من اشتراطه عليه عندما طلب منه أن يكون تلميذه فأخبره زينر أن يفعل أمرين: الأول أن يجد موضوع بحثه، والثاني أن يقوم بحل المشكلة. وهو ما فعله وتمت موافقة كلارنس زينر على الإشراف عليه.
بعد حصوله على الدكتوراه عرضت عليه ثلاث وظائف مرموقة اختار منها وظيفة مهندس باحث في معهد ماسيتشوستس للتكنولوجيا حيث تلقى دعما من القوات الجوية الأمريكية لدعم بحثه لاستنباط طريقة تمكن الطائرات من الدفاع عن نفسها.
من مآثره العظيمة قوله في خطاب تقلده الجائزة: «لا تعتزل مبكرا». وهو الأمر الذي كان شعاره حتى وافته المنية.
إنه من العلماء العظماء المتمكنين. ترك لنا أكثر من 550 بحثا منشورا و85 فصلا في 85 كتابا، إضافة الى خمسة كتب أساسية أصيلة.
gate.ahram
اقرأ للكاتب
مصطفى جودة يكتب : مفهوم الحزن “عزاء عمر رائد”