مصطفى جودة يكتب: تغطية حرب حماس وإسرائيل (1ــ 2)

الكذب هو مخالفة الواقع والإدلاء ببيانات كاذبة لحجب الحقيقة، وهو أداة نجاة رخيصة كما وصفه نجيب محفوظ. حرمته الكتب المقدسة والأخلاق. تقول الوصية التاسعة من الوصايا العشر: لا تشهد على قريبك شهادة زور. وجاء فى القرآن الكريم فى الآية 50 من سورة النساء: «انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا». إذن لماذا نشاهد فيضانات الكذب فى الحرب الدائرة رحاها الآن؟. هل لم يقرأ القادة الغربيون والإعلاميون ما ورد فى الكتب المقدسة؟.

كيف يكون الكذب ـ «على عينك ياتاجر» كما نقول فى مصر فى ثقافة تعتبر الكذبة الصغيرة جريمة كبرى؟. كيف تخلق كذبة ثم ينفخ فيها من روحهم فتكاد تكون إعصارا ثم لا يجرؤ صانعوها ومروجوها على الاعتراف. هناك كذبة كبرى ويجب أن تسمى أم الكذب القديم والحديث، ترددت ملايين المرات هذه الأيام وهى أن حماس فصلت رؤوس الأطفال الإسرائيليين عن أجسادهم وأن رجالها اغتصبوا الإسرائيليات ثم قتلوهن فى عملية «طوفان الأقصى» فى السابع من أكتوبر 2023. رددها الرئيس الأمريكى وكررها مرارا وتكرارا حتى بعد إثبات عدم صحتها. كان المفروض ألا يحدث ذلك لأن أجهزته الأمنية والاستخباراتية الجبارة تقدم له تقارير موثقة ومحللة على مدار الساعة وتوقظه من نومه لو كان نائما وخصوصا فى أوقات الأزمات المحلية والعالمية، كما أن جميع وسائل الإعلام الغربية ظلت ترددها بخطة محكمة تهدف لحالة من الإرجاف والتعميم الشديدين فى أرواح المشاهدين أيا كانت انتماءاتهم وجنسياتهم دون توقف، لدرجة أنه يمكن القول بجزم إن جميع من فى الأرض قد سمعها نتيجة طبيعة تقدم العصر. وعندما عمت الرائحة خرج رئيس الوزراء الإسرائيلى بكذبة داعمة بإبلاغه وزير الخارجية الأمريكية بلنكن عند زيارته لإسرائيل الأخيرة أنه يملك صورا مؤيدة. استمر ترديد الحكاية وصارت الكذبة هى الغالبة على أمرها لدرجة يندى لها جبين البشرية جمعاء ولدرجة لا يمكن القول غير ما قاله سعد زغلول: «مافيش فايدة».

لقد أصبحت تلك الحرب ونتائجها نكسة كبرى لإسرائيل وللغرب مثلما كان الخامس من يونيو نكسة كبرى للعرب أجمعين، دفعوا لنتائجها – وما زالوا – أسعارا باهظة وأن إسرائيل لن تسترد بعدها عافيتها أبدا.

بكل المقاييس أظهرت إسرائيل غفلة وإهمالا أكثر مما فعل العرب عام 1967. فجأة ظهرت أنها عرضة وأنها فى خطر محدق وأنها تعانى فرط ثقة كارثية، وبالتالى سارع الغرب للالتفاف حولها فى محاولة منه لعلاجها النفسى. استخدم الغرب آلته النفسية وأساليب الإرجاف دون حياء وفقد موضوعيته وكل ما يعظ به من صدق وحرية رأى وحقوق إنسان واستخدم جيوش إعلامه الجرارة وخبرائه فى كل المجالات ليضخموا مما حدث وليسببوا حالات من الإحساس بالخطر الداهم على إسرائيل. كل يوم تصنع تلك الآلة المزيد من تلك الاختراعات عسى أن تسترد النفسية الإسرائيلية رباط جأشها. من الواضح أيضا أن هناك تنسيقا بين الآلة الإسرائيلية والآلات الغربية لإحكام الكذبات التاريخية الكبرى التى نمطر بها فى زمن التجانس الفوضوى، والذى تصل فيه الشائعة فى ثوان لكل فرد فى العالم فى نفس اللحظة.

لقد منحها الغرب كل الأضواء الخضراء وبارك كل خطواتها الخطيرة وسارع فى إرسال الذخائر بالطائرات وأرسل حاملات الطائرات والجنود وكل المساعدات، وكأن إسرائيل تتعرض لهجوم كونى. هذه الجسور الجوية غير مسبوقة فى التاريخ وتشبه الجسور الجوية التى بنتها أمريكا فى حرب أكتوبر والتى أرادت أمريكا من خلالها حرمان مصر من النصر العظيم الذى أحرزته وخافت على حليفتها من مصير محتوم.

لتفسير تلك المعضلة وما حدث وما سيحدث لا بد من الرجوع لكتاب «تغطية الإسلام» للمفكر إدوارد سعيد والذى كتبه بعد كتابين آخرين مرتبطين أشد الارتباط به وهما كتاب «الاستشراق» وكتاب «القضية الفلسطينية». كانت هذه الكتب الثلاثة جامعة لدرجة أنها أحدثت عواصف حين صدورها وظن الجميع أنها أحدثت تأثيرات دائمة فى الفكر الإنسانى على وجه العموم والفكر الغربى على وجه الخصوص، وظن الجميع أنه لن تكون هناك آراء وتفسيرات شبيهة بما فعل المغرضون الأوائل. غير أن سير الحوادث فى حرب حماس وإسرائيل تثبت عكس ذلك.

يقول إدوارد سعيد فى مقدمة كتابه تغطية الإسلام إن كتاب الاستشراق هو أعم الثلاثة وأنه يقتفى أثر المراحل المختلفة للعلاقة بين العالم الغربى والإسلام منذ بداية الحملة الفرنسية على مصر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية وظهور السيطرة الأمريكية.أما كتاب المسألة الفلسطينية فإنه تجسيد حالة تاريخية بين العرب والحركة الصهيونية متمثلة فى إسرائيل والكتاب يصف الأمور المختفية والميكروسكوبية تحت السطح للآراء الغربية فيما يخص القضية الفلسطينية. أما كتاب تغطية الإسلام فهو أن الموضوع معاصر وأنه يمثل استجابة أمريكا الملموسة لما يحدث فى العالم الإسلامى منذ بداية السبعينيات للقرن العشرين وحدوث أزمة الطاقة وما تلاها من حالات التضخم الاقتصادى فى الدول الغربية.

صدر الكتاب عام 1981، بعد نجاح الثورة الإيرانية عام 1979، والتى تخللتها حوادث محرجة لأمريكا مثل أخذ الرهائن وغيرها. يأخذنا المؤلف عبر 186 صفحة فى رحلة طبق الأصل لما يحدث الآن مع فارق فى الحوادث والأمكنة. المقولة الأساسية لإدوارد سعيد أن الساسة الغربيين ووسائل الإعلام الغربية والخبراء العسكريين والأكاديميين على قلب رجل واحد ومحصلتهم فى اتجاه واحد وأنهم دائمو المحاولة أن يخوفوا أولياءهم وأعداءهم من كل بعبع فى الشرق الأوسط. هم لا يكتفون بتصنيع الأكاذيب ولكن يفسرونها أيضا لتكون عملية الاقتناع متاحة للجميع ومغلفة بكل الألوان الجذابة. لا أحد يتعلم من التاريخ :كلمة محفوظ الخالدة.

أ.د: مصطفي جودة

رئيس الجامعة البريطانية بالقاهرة – سابقا.

gate.ahram

اقرأ للكاتب

مصطفى جودة يكتب: إلهامات جوائز نوبل 2023

شكرا للتعليق على الموضوع