مصطفي جودة يكتب: الدحدوح والذين راسلوا معه
أ.د: مصطفي جودة
رئيس الجامعة البريطانية بالقاهرة – سابقا.
الصحفيون هم الموثقون والمؤرخون الحقيقيون للصراعات فى زمننا. يلقون بأنفسهم الى التهلكة فى حلبة الصراع لينقلوا للناس حقيقة ما يدور.
فى غزة قدمت الصحافة ملحمة لا تقل عما يقوم به المقاومون الفلسطينيون لحرب الإبادة التى تنفذها إسرائيل ومعها الغرب كله.
الصحفيون يسجلون بتليفوناتهم الذكية الفظائع التى ترتكبها إسرائيل ثم يرسلونها فى الحال لمقار عملهم بسرعة الضوء.
أدركت إسرائيل ومعها كل أجهزة الاستخبارات الغربية الجبارة خطورة ذلك الدور وبالتالى كان لزاما استخدام كل الوسائل لمنعهم واستهدافهم لحجب الحقيقة والجريمة التاريخية وإخفائها. من هنا يسمع العالم عن القتل المتعمد لهم فى هذه الحرب مثلهم مثل أهل غزة لدرجة أنه خلال ثلاثة أشهر نجد أن عدد الصحفيين الشهداء غير مسبوق فى التاريخ.
أدركت الإدارة الأمريكية كونها الداعم والراعى الأساسى لهذه الحرب أن التطور التكنولوجى وفى وسائل التواصل الاجتماعى أن التغطية الإعلامية لهذه الحرب ستكون مدينة لدورها، ومن هنا سافر أنتونى بلينكن بنفسه للدوحة وقابل رئيس الوزراء القطرى بتاريخ 13 أكتوبر وطلب منه أن تخفف قناة الجزيرة من حدة تغطيتها لمجريات الحرب.
كانت هذه سقطة كبرى من الدولة التى تدعى حماية الحريات والديمقراطية وتجعل من حرية الرأى وحمايته ومعرفة الحقيقة أولوية أولى.
من الواضح أن هذا الطلب لم يستجب له لأن الجزيرة ما زالت حتى وقتنا هذا تقوم بواجبها بمسئولية وحرفية. من هنا يمكن استنباط ما فعلته إسرائيل بعدها من استهداف الصحفيين بالقتل وتعمد اغتيال ذويهم عسى أن ترجع الجزيرة عن الإصرار فى التغطية الحقيقية اللازمة لتوعية العالم العربى والعالم كله بما يحدث من جرائم غير مسبوقة فى تاريخ الحروب.
الجزيرة لها مكتب فى غزة يعمل به فلسطينون محترفون ويعرفون شعاب غزة، وبالتالى يشاهد العالم حقيقة جريمة الإبادة الجماعية والتى أرادت الولايات المتحدة وأدها حماية لإسرائيل وحماية للدور العدوانى الأمريكى غير المبرر تجاه الفلسطينيين. لقد ألقت أمريكا والغرب كل الإمكانيات والعدوانية فى حرب الإبادة تلك. وائل الدحدوح رئيس مكتب الجزيرة بغزة والذين معه حق عليهم الغضب الإسرائيلى والغربى لأنهم تجرأوا وعصوا الطلب الأمريكى بأن يكتموا الشهادة للتاريخ والتأريخ، وقرروا أن ينقلوا الحقيقة كما تحدث للعالم ويظهروا أركان جريمة حرب الإبادة التى يرعاها الغرب.
من هنا صار هو وأحمد البطة وسمير راضى وأسرته من أصحاب الأخدود الجدد الذين أحل سفك دمهم على المكشوف أمام العالم كله. فى غارة إسرائيلية على مخيم النصيرات استهدفت زوجته وبنته وحفيده وشاهد العالم كله وائل وهو يذرف الدمع على جثمان ابنه فى منظر قطع نياط قلوب كل المشاهدين فى العالم وتمتم بكلمات معبرة سمعتها كل الدنيا وهو ينحنى ليقبل جثة فلذة كبده ويشكو الى الله: إنهم ينتقمون منا بقتل أبنائنا.
ما كان لإسرائيل أن تفعل كل ذلك القتل للصحفيين دون الدعم الغربى الكامل لدرجة أن عدد الشهداء من الصحفيين غير مسبوق فى تاريخ الحروب وتقدره لجنة حماية الصحفيين بثمانين شهيدا بينما تقدره المصادر العربية بـ 112 بالأسماء، وهو الأمر الذى يجعل ذلك العدد يفوق أعداد القتلى فى الحروب الأخرى.
على سبيل المثال بلغ عدد قتلى الحرب العالمية الثانية على امتدادها فى الفترة من 1939-1945 تسعا وستين قتيلا، كما قتل 63 صحفيا خلال حرب فيتنام التى استمرت عشرين عاما، ويبلغ عدد الصحفيين الذين قتلوا فى تغطية الحرب الروسية الأوكرانية سبعة عشر صحفيا فى الفترة منذ بداية تلك الحرب وحتى منتصف 2023. ويبلغ عدد الصحفيين القتلى عبر سنوات الحرب العراقية بـ 110 صحفيين.
بتاريخ 7 يناير أكملت إسرائيل جريمتها وانتقامها من وائل الدحدوح بقتل ابنه حمزة الذى يعمل مصورا معه بمكتب قناة الجزيرة ومعه صحفى آخر هو مصطفى ثريا، وذلك بواسطة طائرة بدون طيار وهو الأمر الذى يثبت صفة تعمد القتل لها. تريد إسرائيل أن تقتل ذرية وائل الدحدوح بالكامل لتحرق قلبه ولتبعث برسالة الى بقية الصحفيين أنها لا تريد للعالم أن يعلم حقيقة جرائمها.
إنها ستسأل حتما عن تعمد قتل الصحفيين وهى المنوط بها حمايتهم طبقا للقانون الدولى من محكمة العدل التى بدأت يوم الخميس الماضى فى محاكمتها بجرائم ضد الإنسانية.
علق أنتونى بلينكن معزيا وائل الدحدوح بقوله: أنا آسف للخسارة التى لا يمكن تصورها للسيد وائل الدحدوح لمقتل ابنه وما يعانيه من آلام نتيجة ذلك ونتيجة ما حدث لأسرته من قبل، فأنا أب مثله وأعلم حجم تلك الآلام.
فى ختام تلك المأساة أجد نفسى مثل بقية الأمة كلها أن أعزى وائل الدحدوح أيضا وأقول له: أنت لست فى حاجة أن يخلدك فيلم مثل سوبرمان أو أن تحصل على جائزة نوبل للسلام أو ينصب تمثال لك فى كل ميدان لأنك للأبد ستصير المثل لكل إنسان. فى كل مكان سيذكرون قصتك وقضيتك وأنك واريت التراب كل أسرتك وفى كل مرة لم تقصر فى وظيفتك.
تبحث عن الحقيقة وترصد الظلم والخطيئة. تنسى جراح جسدك الكثيرة وجوعك وعطشك ودموعك الغزيرة وتذيع للبشرية كلها الحقيقة. لم تعجب أعمالك العدو وأنصاره الغارقين فى الإثم والضلالة والقابعين فى الظلمات والذين يمدونه بالصواريخ والطائرات والذين لا يعرفون رب الأرض والسماوات لقد أفقدتهم بصدقك كل القدرات وأظهرت لهم السوءات. ألا يكفيك بعد فقدان أسرتك أن تكون أبا وجدا لكل الطيبين والطيبات، ألا يكفيك أن تكون أمة تدافع عن أمة وتكون باعثا لقوم ظنوا أنهم أموات؟.
gate.ahram
اقرأ للكاتب
مصطفي جودة يكتب: قلوب كالحجارة أو أشد قسوة