نانسى فتوح تكتب : “اللهم هجرة” شعار اليائسين من الوطن ..!
كــم هـو مـؤلــم أن تـــمـوت مـــن الـــداخـل قـهــراً وحـزنــاً ، ولــكـــن تـــضــحــك وتـــقـــول أنــــا ( .. بــــــخــــــيـــــر .. )
ويـــأتــيـــك أحـــدهـــم .. ويــهــمـــس فـــي أذنـــك ويـــقــــول :أعـــلـــم أنــــك لـــســـت كــــذلـــك، لا تــحــــــزن أنـــــا مــــعــــك، تلـك هي الغربة .. لشباب خارج الوطن .. مابين الوجود .. واللا وجود ..الراحة .. واللا راحة ..الحياة .. واللا حياة ..
ستجد الكثيرين ممن طال عليهم الأمد في السعودية ودول الخليج يقولون لك بخبرة السنين ،ونقلآ عن “أحمد سالم” وهو أحد المغتربين المقيمين بالسعودية :
(السعودية هي أكتر بلد في الخليج ممكن تحوش فيها ) …قد يكونون صادقين….لكن الكثير منهم يرى غير ذلك “وإنه ما بيحوشش” …. “وإن اللي جاي على قد اللي رايح”….. ، قد يكون محقآ … ” ” وقد يكون بيحوش و مدكن” …. “وقد يكون بيحوش بس تحويشه مش على مستوى طموحه”….
ستجد أن الكثيرين يتمنون أن تأتيهم فرصة في أي بقعة خارج السعودية من منطلق ، أهو الواحد يعيش حياته و ينبسط طالما هو كده كده ما بيحوشش ..
ستجد أن كل الناس حتى أكثرهم كرهآ لهذا البلد قد تأقلم على المنطقة التي يعيش فيها ، فتجد بتوع الرياض لا يطيقون جده….. و بتوع الدمام لا يستطيعون العيش خارج أجواء شط الخليج العربي المشبعة بالتلزيق و الرطوبة…. ستجد بتوع أبها قد اعتادوا نقص الأكسجين….
ستجد أن المشاعر تحولت من رفض و كره إلى اعتياد و عشرة و ألفه حتى مع كل التفاصيل التي تضايقهم و تنغص حياتهم. ….لا تظن إنك هاتعمل الفلوس الكتيره…. ليس فقط لأن كل حاجة هنا غليت برضو…..و لكن لأن ما أصبحت تدخره لم يعد ذو أي قيمة تُذكر، في ظل الغلاء الفاحش الجنوني اللي نهش كل حاجة على أرض المحروسة……
بإختصار و من الآخر ..هؤلاء الذين كانوا يأتون هنا في الثمانينيات و التسعينات ليقضوا شوية سنين ليعودوا بعدها محملين بمستقبل إلى مصر لم يعدوا موجودين لأن ما كان يكفي بالأمس لصنع حياة لم يعد يكفي عشر أمثاله لصنع شيء في مصر ، في أيامنا هذه الممحوقة البركة . ……
فيقول متنهدآ : نعيش هنا حياة أحادية ذات بعد واحد….أو بعدين اتنين بالكتير أوي…..بيت و شغل …..شغل و بيت….
لكن على الرغم من ذلك الملل و بعيدا عن سخافات و منغصات الحياة العادية بإمكانك هنا أن تعيش حياة هادئة بسيطة مرتبة…..
تستطيع أن تتحكم في إيقاعها على الرغم من أنك غالبآ ما تخضع فيها لظروف عملك…..تظل الحياة هنا خالية من صخب و ضوضاء و فوضوية و توتر و جنون الحياة في مصر…..على الأقل تستطيع هنا أن تنال الحد الأدنى من مستوى معيشة محترم آدمي على مستوى الحياة اليومية و متطلباتها و أعباءها ..الأكل و العلاج و حتى إنهاء متعلقات أو مشاوير أو معاملات في أماكن حكومية أو و إنت قاعد في بيتك قدام التكييف……
تعيش مع زوجتك في إطار واسع مريح من الخصوصية بعيد عن أنوف يمكن أن تدس في حياتكما من هنا أو هناك……
لكن في الوقت نفسه تلقي عليك الغربة سياجآ حديديآ من العزلة و الانفصال شبه الكامل عن محيط الأهل و الأصدقاء و الأقارب. …تجعلك بعيدآ بجسمك و ذكرك عن دوائرك القريبة الضيقة و الأوسع منها.
و حتى عندما تكون في وسط هؤلاء في أوقات الإجازات تحس أن كثرة البعد قد جعلت وجودك وسطهم عاديآ باردآ أجوفآ خاليآ من حرارة الحب و المعزة و الغلاوة ……تشعر أنك غريبآ….ضيفآ…عابرآ للسبيل ، نعيش هنا حياة مؤقته…..لدرجة تشعر معها أنها قد تكون مزيفه….مصطنعة ، نسكن في بيوت جميلة فسيحة مؤثثة…..لكنها ليست بيوتنا…..نركب عربيات موديل السنة…. لكنك تعلم أنك ستتركها خلفك بيعآ أو استبدالآ بأخرى. ….
حتى عملك تعيش فيه دومآ في هاجس أنه سيتركك أو تتركه…بيدك أو بيد غيرك… وهنا عدم وجود الراحة والطمأنينة ..
ورغم ذلك يظل التعلق في حبائل الغربة هو المسيطر على الموقف….و بعدما كان السؤال من سنوات ( هنرجع إمتى…؟؟؟ )
فإن السؤال قد أصبح الآن : (هنرجع ليه…؟؟؟)
يظل الدرس الكبير الذي تعلمته من سنين الغربة ، هو أن الغربة عقد لك فيه حقوق وعليك فيه واجبات….لن تجد شيئا دون أن تدفع ثمنه…..أو شيئا تنفقه دون أن تأخذ مقابلآ له ….. “مفيش حاجة هاتتعمل لك ببلاش…..و بالتالي مفروض مفيش حاجة تعملها إنت ببلاش”….
أنت في مصر قد تنال قليل من الراتب من وظيفة تعمل فيها يومين في الأسبوع. ….منحة من بابا …..أو نفحة من ماما……أو حتى تقدير أو تحمل أو مجاملة أو حب غير مشروط أو مربوط بغرض، أو مصلحة من جار أو زميل عمل، أو رفيق غربة ..هنا أنت تدفع كي تنل…..تدفع جهدك و أعصابك و عرقك و عمرك و إستقرارك ، وصداقاتك و شبابك و واجباتك نحو والديك….. القائمة طويلة. ……
تظل كذلك حتى لا تجد لك مكانآ هنآ طالما لم تعد قادرآ على دفع الثمن……أو لم يعد لديك ما تقدمه…..لتنال له مقابل…وهنا أقول :
هكذا تبقى مأساة الغربة والهجرة من الوطن مخيّمة على عقول شبابنا، وتبقى تذكرة السفر إلى الخارج هو حلم يتمناه كل شاب في مقتبل عمره، لديه طموحات يسعى لتحقيقها بعيدآ عن الواقع الأليم الذي تفرضه عليه أعباء وظروف المعيشة اليومية ، ولكن في نفس اللحظة تبقى الغربة غربة حيث اللا أمان واللا وطن ..
ولكن لم يعد للشباب اختيار آخر سوا السفر من أجل بناء القليل من المستقبل فقط وليس كل المستقبل وهو متطلبات حياتهم و بناء أسرة ..
اللهم لا تجعل غربتنا في وطننا ، لكم عون الله يا شباب الوطن ..